د. هيلة الخلف
المدير العام للإدارة العامة للترجمة في هيئة الأدب والنشر والترجمة في وزارة الثقافة
تتجلى أهمية الترجمة على مر العصور في دورها المحوري في مد جسور التواصل بين الثقافات، وإثراء الحضارة الإنسانية من خلال تضافر الأفكار والمعارف. وفي ظل مسيرة التنمية التي تشهدها المملكة العربية السعودية، تبرز الترجمة بوصفها أداة أساسية لتحقيق رؤية 2030 الطموحة، وتعزيز مكانة المملكة بصفتها مركزًا عالميًا للثقافة والتواصل.
تقف المملكة العربية السعودية اليوم على أعتاب مرحلة تنموية مهمة، تسعى فيها إلى تطوير مختلف القطاعات لتعزيز ريادتها محليًا وإقليميًا وعالميًا. وإدراكًا لأهمية الترجمة بوصفها أداة فاعلة لتعزيز التنمية المستدامة في مختلف المجالات، فقد أولت رؤية 2030 اهتمامًا خاصًا بها، وجعلتها ركيزة أساسية في إستراتيجيتها الثقافية.
تركز هذه الإستراتيجية الثقافية على الدور المحوري للترجمة في إثراء المحتوى العربي من خلال نقل المعارف في مجالات العلوم والتكنولوجيا والفلسفة وغيرها من المجالات المعرفية التي تسهم في إثراء التجربة الإنسانية، إضافة إلى نقل الثقافة السعودية عبر ترجمة الأعمال السعودية إلى مختلف لغات العالم.
ومن هذا المنطلق، تأسست هيئة الأدب والنشر والترجمة عام 2020 تحت مظلة وزارة الثقافة؛ بهدف تطوير قطاعات الأدب والنشر والترجمة، وتعزيز مكانة المملكة بصفتها مركزًا عالميًا للثقافة والتواصل. وتُنفّذ هذه الهيئة برامج ومبادرات متنوعة لتنسيق الجهود في هذه القطاعات، سعيًا إلى تحقيق تنمية ثقافية مستدامة.
تركز الهيئة على تطوير قطاع الترجمة من خلال رفع مستوى الاحترافية والتنافسية، وبناء جسور التواصل مع الثقافات الأخرى، بما يعكس ثراء الفكر والحضارة في المملكة، ويستلهم في الوقت ذاته من تجارب الشعوب المختلفة، لرسم مستقبل مزدهر للترجمة في المملكة، وجعلها جزءًا لا يتجزأ من العصر الذهبي الثقافي الذي تشهده.
فإلى جانب الحملات التوعوية التي يقوم بها القطاع حول دور الترجمة وأهمية جودتها في المجالات المهنية، أطلقت الإدارة العامة للترجمة مبادرة "ترجم". وتهدف هذه المبادرة في المقام الأول إلى دعم فرص الترجمة في العلوم والفلسفة والأدب والكنوز المعرفية المتنوعة، مع التركيز على نقل التجربة السعودية المتمثلة في تراثنا العربي وتاريخنا العريق في بناء هذا الوطن الواعد.
ولا شك أن الترجمة تؤدي دورًا جوهريًا في تعزيز السياحة الثقافية في المملكة. فإلى جانب تمكين التواصل الفعال مع الزوار من مختلف اللغات والثقافات، تُسهم ترجمة الكتب والمواد الثقافية السعودية في إثراء تجربة القراء، وتعريفهم بالإرث الثقافي الغني للمملكة وتاريخها العريق وتقاليدها وفنونها المتنوعة.
وفي إطار جهودها لتعزيز الحراك الترجمي في نقل الثقافة السعودية للعالم، تغطي المبادرة تكاليف حقوق الترجمة والطباعة للكتب السعودية بصورة كاملة، فيما تغطي منح الترجمة الأخرى ضمن المبادرة كل من رسوم المترجمين ورسوم الحصول على حقوق النشر. وتُعطى الأولوية في هذه المبادرة لتمكين نشر وطباعة الكتب المترجمة، وذلك بالتعاون مع دار نشر معترف بها.
ومن أبرز ما يميز مبادرة "ترجم" هو ترجمتها لكتب عربية مثل المعلقات، حيث جرى العمل على ترجمة "المعلقات لجيل الألفية" باللغتين الكورية والألمانية بالشراكة مع مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي "إثراء"، إضافة إلى اللغة الإيطالية للمرة الأولى بدعم من المبادرة مع دار المتوسط، حيث يُسهم في إبراز أحد أهم الأعمال الإبداعية في تاريخ الشعر العربي وتقريبه من الأجيال الجديدة، والاحتفاء بالقيم الإنسانية والجمالية والفلسفية التي تتضمنها اللغة العربية.
تعكس هذه المبادرات والمشروعات الحراك الوطني الترجمي الذي تشهده المملكة العربية السعودية أخيرًا. وتمثل مبادرة "ترجم" واحدة من المبادرات التي سجلت نموًا متصاعدًا في الإنتاج، حيث بدأت المبادرة مع انطلاقتها في عام 2021 بمنح لترجمة 250 كتابًا، ثم توسعت لتصل إلى 500 كتاب وبتوجيه من سمو الوزير أُضيف مستهدف 150 كتابًا في عام 2022، وواصلت نموها لتشمل 700 منحة في عام 2023 وشملت خريطة الترجمة نحو 22 لغة، بمشاركة أكثر من 500 مترجم دولي.
ولا يقتصر دور قطاع الترجمة في هيئة الأدب والنشر والترجمة على الدعم المقدم من خلال منح الترجمة، بل يمتد ليشمل تطوير الكفاءات الوطنية في مجال الترجمة. وتتجلى هذه الجهود من خلال البرامج والحقائب التدريبية التي تهدف إلى تعزيز المهارات والقدرات المهنية العالية للمترجمين السعوديين. يشمل ذلك برامج توعوية لدور النشر والمترجمين، وبرنامج الإرشاد الترجمي الذي يوفر فرصة فريدة للمترجمين لاكتساب الخبرات العملية من خلال التوجيه المباشر من خبراء في المجال، إضافة إلى ذلك يقدم القطاع "وثيقة المترجم المعتمد" التي تمثل اعتمادًا مهنيًا مهمًا للعاملين في قطاع الترجمة، ويعزز مكانتهم وقدرتهم التنافسية في سوق العمل.
أيضًا من أهم المبادرات التي أطلقتها الإدارة العامة للترجمة التي تُسهم في نقل وتبادل الخبرات الثقافية في مجال الترجمة "المرصد العربي"، التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وبدعم من هيئة الأدب والنشر والترجمة، حيث يهدف إلى تأسيس مرصد لتوثيق حركة الترجمة في العالم العربي لدعم مسيرة الترجمة العربية وتنسيق الجهود العربية وتوحيدها، ويرتكز دوره على حصر وتقديم البيانات الدقيقة والإحصائيات الحديثة عن واقع وحراك قطاع الترجمة؛ ليدعم تأسيس خطة عربية موحدة لحركة الترجمة في العالم العربي، تُسهم هذه الحركة في نقل وتوطين المعرفة من خلال تقديم نهج مبتكر للبيانات يجمع بين أحدث التقنيات ويوفر للدول العربية مرجعًا رقميًا بأعلى مستوى من الشفافية والمصداقية ليُسهم في عكس الصورة الثقافية الحقيقة للوطن العربي. وقد رُصد أكثر من 90.000 عنوان مترجم من اللغة العربية وإليها وتوثيقها في المنصة الرقمية للمرصد، كما قدم المرصد 212 منحة بحثية في مجال الترجمة للباحثين والباحثات العرب؛ مما أسهم في إثراء حركة الإنتاج البحثي في مجال الترجمة في العالم العربي.
ولرغبتنا في امتدادا الأثر عربيًا وعالميًا أُنشئ كرسي اليونسكو لترجمة الثقافات في أكتوبر ٢٠٢٣م، بمبادرة من هيئة الأدب والنشر والترجمة بالتعاون مع مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، حيث يُسهم في تمهيد الطريق لأبحاث مبتكرة في ترجمة الثقافات عبر تشجيع التعاون محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا بين الباحثين في دراسات الترجمة، والدراسات الثقافية، والتراث غير المادي، والعلوم الإنسانية والتقنيات الحديثة، والذكاء الاصطناعي. ويتحقق هذا الهدف من خلال سد الفجوة بين الثقافات عبر استكشاف مسارات مبتكرة في مجال ترجمة الثقافات، وتشجيع الشراكات التي تجمع ممثلي القطاعات الأكاديمية والإبداعية، وواضعي السياسات بوَسَاطةِ الترجمةِ بوصفها نهجًا للحوار بين الثقافات.
وهناك الكثير من الفرص والإمكانات الواعدة لتعزيز مسيرة قطاع الترجمة في المملكة العربية السعودية، لا سيما أن تاريخها العريق يحكي قصة طويلة من الانفتاح على الثقافات والشعوب المختلفة. وموقعها الإستراتيجي وثقلها الروحي بصفتها بلاد الحرمين الشريفين ومقصد الحجاج من كل بلاد العالم، يمنحها بعدًا ثقافيًا فريدًا يؤكد على أهمية ودور الترجمة في مختلف أنشطتها.
ما أُنجز يمثل الانطلاقة، وكل فرد منا، من موقعه في صناعة الترجمة، يمثل ساعدًا مهمًا من سواعد أبناء الوطن نحو بناء مستقبل واعد لمملكتنا الحبيبة.
Comments