د. منى بنت غربي العنزي
الفكاهة أو التفكُّه والفكه باختلاف تسمياتها المعروفة، من السمات المميّزة للشخصية الإنسانية، ويعمد إليها الإنسان؛ بغية الترويح عن نفسه تارةً، أو لإدخال السرور على غيره من قريبٍ أو بعيد تارة أخرى، أو لإيصال هدفٍ سامٍ يرى أنّ الفكاهة طريقه، وربما انحرفت الفكاهة فصارت وسيلةً لهدف مذموم، وإنما الأمور بمقاصدها.
وللفكاهة تاريخها وقوانينها المتنوعة بتنوع أجناس البشر وثقافاتهم، ولا يخلو يوم من أيام الجماعات -غالبًا- دون مرور الفكاهة في تعاملاتهم وأحاديثهم؛ إذ تُعدّ من لوازم الألفة والبهجة وإضفاء أجواء محببة إلى النفس، ومن خلال إنتاج الفكاهة واستقبالها نستطيع أن نميز بين البشر من حيث الودود والمألوف، والغليظ والمنفّر، ولا يُجزم أن صفة الفكاهة والمرح من أساسيات تصنيفات البشر، لكن لا يُنكر أن من يمتلك هذه الميزة المقبولة يُعدّ سلس التعامل سهل المعشر على الأغلب.
وللفكاهة ثلاثة عناصر أساسية: الفاكِه، وهو الشخص الذي يُرسل هذه الفكاهة، ويُشترط أن يتصف بكارزميّة أخّاذة، وطريقة أداء مُتقنة حتى لا يُفقد الفكاهةَ وهَجَها، ومضمون الفكاهة أو محتواها، وهو الموقف أو العبارات، ويُشترط أن تكون مناسبة للطرح أو المحاكاة والتركيب، ورصينة البنية حتى تصل إلى العقول، وتحرّك المشاعر والانفعالات؛ فتحدث نتائج محمودة، وطريقة التلقي، التي تعتمد على المتلقي نفسه، فهناك من يتقبّلها بالضحك العالي، ومن يكتفي بالابتسامة، ومن يغضب ولا يتقبّلها؛ فالفكاهة ليست دائمًا إيجابية تبعث على الضحك والانشراح كما تتصور.
ويُشير علماء النفس إلى أن الفكاهة تشمل عدة جوانب، منها: (المعرفي) الخاص بالإدراك والفهم للأفكار، والتذوّق لنوعية الفكاهة والإبداع فيها وإنتاجها. ومنها: (الانفعالي) البعيد عن الفرح والسرور والاستمتاع، ومنها: (السلوكي) الذي يبحث في طريقة الضحك، واختلاف درجات الصوت، وطبقات النغمات، وقراءة حركات الوجه؛ من تكشيرات، وظهور الأسنان، وحركات الجسم، وتغيير الأوضاع عند الضحك. ومنها: (الاجتماعي)، ويدرس العلاقات بين الأشخاص والتفاعل الاجتماعي الذي يحدث الـمُثيرات الـمُضحكة ونتائجه السارة. فالفكاهة من الجوانب التي درسها علماء النفس للانتفاع من هذه الظاهرة، ومساعدة الأشخاص على تجاوز بعض الأمراض النفسية المرهقة مثل: القلق، والاكتئاب، والتوتر، وهناك دراسات أثبتت أن الضحك يقاوم الأفكار السلبية والحزن، ويُفرّغ الطاقة الثقيلة.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أن بعض الفكاهات قد تكون مُضحكة في مجتمع ما، لكنها لا تُلفت الانتباه في مجتمع آخر؛ بسبب الاعتقادات والعادات والتقاليد، فلكل مجتمع خصوصيته في تكوين الفكاهة، ومدى قبولها والاستجابة إليها من عدمه، في مجتمع ما يكون الضحك والتندّر على السياسية وأصحابها أمرًا مضحكًا، بينما لا يُعدّ كذلك في مجتمع آخر؛ ويعود هذا إلى اضطراب المجتمع سياسيًّا في فترات زمنية معروفة تاريخيًا، ومروره بمحطات متنوعة، وتشكيل أحزاب، وقيام ثورات خاصة ضد المستعمر؛ جعلت هذه التغيرات مادة دسمة للسخرية وإثارة الضحك بين أفراد المجتمع، بينما المجتمعات الآمنة والمستقرة سياسيًّا ربما لا ترى في السياسة أمرًا مضحكًا، وقد لا يكون ذلك مناسبًا للطرح والتداول أيضًا، إضافة إلى ما تفرضه (مساحة الحرية) من التزام أو تجاوز، والوعي باختلافها من قطر إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى كذلك.
ويدفع هذا إلى التساؤل عن مدى اختلاف تلقي الفكاهة، ولماذا يضحك بعضنا في مواقفَ معينة دون غيرها؟ ولماذا يتميّز بعض الأفراد بالبحث عن الفكاهة وإنتاجها أكثر من غيرهم؟ ولعل هذا التساؤل يقود إلى التّعرُّف على مصطلح حس الفكاهة (Sense of Humor)، الذي يختلف عن الفكاهة عينها؛ لأنه سمة شخصية خاصة، تتصل بالقدرات العقلية والإبداعية، من ناحية قدرتها على تذوّق الفكاهة والاستمتاع بها، أو مسايرة الأشخاص بالضحك، أي أن تكون لدى الشخص (كاريزما) حضورية تبعث على السرور والفرح.
وتميل نفسية الإنسان الطبيعية لمن يُشعرها بالسرور، ومن يُضحكها، ويشيع الفرح في جوانب حياتها، وتجنح إلى السهل اللين، وخفيف الروح، وحاضر الفكاهة، حتى إنّ العرب في جاهليتها تمدح بالسرور والضحك، وتجعله دليل الفضل والكرم، وتذم عكسه، فإذا مدحوا رجلًا قالوا: ضاحك السن بسام الثنايا، وقد لخصّ ابن الجوزي في (أخبار الحمقى والمغفلين)، موقف العرب والمسلمين بقوله: "وما زال العلماء والأفاضل يعجبهم الـمُلح ويهشوّن له؛ لأنها تحجم النفس وتريح القلب من كدّ الفكر". ومع هذا الامتداح لكنهم يذمون الإفراط فيه والإغراق، فقد دعا العلماء والحكماء إلى الاعتدال، يذكر الغزالي في (إحياء علوم الدين): "أما المزاح فمطايبة، وفيه انبساط وطيب قلب فلم يُنه عنه، فاعلم أن المنهي عنه الإفراط أو المداومة، أما المداومة فلأنه اشتغال باللعب، والهزل فيه واللعب مباح؛ ولكن المداومة عليه مذمومة. وأما الإفراط فيه؛ فإنه يورث كثرة الضحك، وكثرة الضحك تميت القلب..". وهكذا يلخص الغزالي موقفه من الضحك ويربطه بالجانب الديني والجائز والمنهي عنه، وأسباب عدم الإكثار والإفراط في ممارسته، إلى جانب أن كثرة الضحك تُورث الضغينة، وتُسقط المهابة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم كثير التبسّم، طلق المحيّا، دائم البشر، يمازح أصحابه، ولكن لا يقول إلا حقًّا. وقد عقد أهل الشمائل لمزاحه -عليه الصلاة والسلام- أبوابًا. وقال الله في سورة النجم: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (آية، 43). فكان الضحك في ذلك كله، نقيض الحزن والبكاء؛ بل ارتبط بالحياة وما توحي به من تجدد وانتعاش، وصدق الأعرابي إذ قال: لن نعدم من ربٍّ يضحك خيرًا. والسخرية والتهكّم والاستهزاء، كلها تقع تحت ظل الفكاهة بمفهومها العام، لكنّها لما تضمّنت أذية المتلقي خرجت من حدّ الفكاهة الخاص، والضحك والإمتاع سلوكان ناتجان عن ظواهر نفسية اجتماعية كلامية سببها (الفكاهة) لكن أثرها يختلف باختلاف الفكاهة نفسها.
وللضحك شروط ذكر منها هنري برجسون (Henri Bergson) ثلاثة تُختصر في:
1-"لا مضحك إلا فيما هو إنساني"، فالشرط الأول أن يكون المضحك إنسانًا أو من يأخذ بمظهره أو يلتمس شيئًا من صفاته وحركاته.
2-"غياب الانفعال أو الشعور العاطفي، فالخصم الأعظم للضحك هو الانفعال، وكي يحدث الـمُضحك ما يحدثه من تأثير؛ فلا بد أن يتوقّف القلب برهة عن الشعور أن الـمُضحك يخاطب العقل المحصن". ويعني أن الضحك لا يصيب إلا القلب الهادئ المطمئن البعيد عن القلق والحزن والخوف، غير المبالي، الذي يشعر بالانبساط.
3-المرونة والقابلية، لا بد أن يتقبّل المجتمع الفكاهة ويتفاعل معها؛ حتى تؤدي وظيفتها المرجوة، وتسمح بالتعدد والتنوع حسب الأشخاص والمواقف.
وقسّم العرب الفكاهة إلى أقسام ومذاهب يدخل بعضها في باب البلادة، أو في مجال القصد، أو في مجال التماثل والتنافر، أو في باب التهكّم بالذات والعيوب الجسدية، أو المداعبة الودية. والسخرية (Satire) وفقًا لهذا التنوع، تلامس الفكاهة من بعض الجوانب، مع وجود فروق طفيفة؛ فالفكاهة، بريئة تصدر غالبًا عن عفوية وارتجال، بينما السخرية مؤلمة تصدر غالبًا عن تخطيط وتفكير.
وللفكاهة عدة طرق -سواء أكانت صامتة أم متحركة- فمن خلال الكلمة، أو الحركة، أو اللباس والمساحيق، والإشارة وملامح الوجه؛ تستطيع أن تصل إلى هدفها المنشود عبر هذه الآليات المساعدة. وهي مفهوم عالمي من خلال الإشارة أو الحركة الصامتة، فقد نجد الضحكات على اختلاف اللغات، ونجد المؤثرين في مختلف الثقافات، الذين استطاعوا بأسلوبهم الـمُضحك أن يصلوا إلى جميع أنحاء العالم وباختلاف المجتمعات مثل: تشارلي تشابلن (Charles Spencer Chaplin).
وللفلاسفة إسهامات كثيرة في موضوع الفكاهة، إما من خلال التركيز عليها خاصة، وإما على موضوعات أخرى كانت الفكاهة جانبًا من جوانبها، ومنهم: أفلاطون، وأرسطو، وكانط، وشوبنهور، وهناك من خصّص كتابًا لها، مثل: برجسون وكيركجورد.
ومن هؤلاء، من كانت نظرته إلى الضحك والفكاهة سلبية تحذيرية مثل: أفلاطون (Plato) -الذي اهتم بدراسة الضحك قصد التحذير منه- فيرى أنه يحوّل القوة إلى الضعف والهشاشة، وهذا لا يصح في جمهورية أفلاطون، فلا بد من التحكّم في الانفعالات، التي من خلالها يُبجّل الشخص، وترفع مكانته.
ولم يتطرّف أرسطو (Aristotle) إلى حدِّ كبت الفكاهة، إنما طالب بالاعتدال والوسطية، فقد اتجه نحو الفكاهة الأخلاقية التي لا تؤذي، ولا تتهكّم بأحد. ويُستشف ذلك من خلال إشارته إلى الفكاهة والضحك في كتبه، لا سيما كتاب (الشعر)، الذي كتب فيه أنواع الدعابات اللائقة وغير اللائقة.
وفي نظرة إيجابية تفاؤلية للفكاهة والضحك أكد ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtin)، أهمية هذه الطاقة الحيوية، ويعنى بالبحث عن أهم تجلياتها. ويشترك باختين مع برجسون في اهتمامهما بالفكاهة، كما تتجلى في ميدان الأدب؛ لكن برجسون اهتم بصورة أخص بمسرحيات موليير الفكاهية، بينما وجه باختين اهتماماته إلى الفكاهة والضحك خلال القرون الوسطى.
أما الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (Thomas Hobbes) في كتابه (لواثان) (Levi athan) فيرى أن الاستياء الذي يصاحب أصحاب الفكاهة يتمثل في شعورهم بالقدرات الخاصة لديهم، وإعجابهم بأنفسهم ونقصان الآخر، وأن المرء قد يشعر ببهجة تنشأ عن طريق تصوّره لوجود قدرة خاصة أو قوة يتفاخر بها على الآخر، إما أن تكون حقيقية وإما قوة زائفة. ويعود الضحك وصناعة الفكاهة، وفقًا لهذا المفهوم، إلى الشعور بالفخر والتفوّق، تلك الخاصية التي وافقه عليها كثير من أصحاب النظريات، وهي أن أصحاب الفكاهة عادة ما يشعرون بالتفوّق والفوز والتباهي والنظرة الناقصة الـمُزدرية للآخر.
وتتسم نظرية الفيلسوف الدنماركي كيركجورد (Kierkegaard) بملاحظة أثر الفكاهة في المتلقي، وموقف صاحبها منها؛ الذي قد يتأثر بها قبل أن تؤثر في الآخر، لذا تطغى على وصفه لها الكآبة والسلبية حين يتحدث عن طبيعة الفكاهة والتهكّم، فهو يجد الفكاهة مؤلمة للشخص؛ لأنها توجّه إلى الذات، والشخص المتفكّه أناني بنظره. وقد يقصد كيركجورد السخرية اللاذعة التي تسقط على المسخور منه فتترك أثرًا واضحًا فيه.
وبرجسون من أكثر الفلاسفة الذين أولوا الفكاهة والضحك عناية ودراسة، وخرج بنظرية (الآلية)؛ لأنه يرى أن الضحك شيء ميكانيكي وآلي؛ بمعنى أننا نضحك من كل شيء فيه تصلّب وجمود، والضحك يمكن أن يعالج الجمود والتصلب في الوقت نفسه. ويرى كذلك أن المضحك يكون في الشخص نفسه، وطريقة تعامله وحركاته، كأن يفكر فيما فعل لا فيما يفعل، ويرى ما ليس موجودًا، ويقول بما لا يوافق المقام، فالشخص هو الذي يقدّم الصورة والعلة، وذلك هو الذاهل في نظره.
وهو يرى بعد ذلك، أن الفكاهة ظاهرة اجتماعية تتطلّب التفاعل الاجتماعي، فهي مقوّمة للعيوب، وقد ميّز الفكاهة اللفظية والمرتبطة بالأحداث والمواقف، وقدّم ثلاثة ميكانزمات: التكرار، والقلب عكس الأدوار، وتداخل السلاسل (الأحداث واختلاف التوقّعات). وكان برجسون أكثر واقعية ومرونة في مناقشة الفكاهة من الذين سبقوه من الفلاسفة؛ حيث ناقشها من منظور اجتماعي متصل بالبيئة الفعلية، ومرتبط بالفرد والمجتمع.
دكتوراه الفلسفة في اللغة العربية وآدابها.
Comentários