دلال نصر الله
للفكاهة أثر يُلقي بظلاله على المرء، وآخر على المجتمع. فعلى مستوى الفرد، نجد أنّها محفّزة لمراكز التّفكير في الدّماغ؛ ممّا يُعزّز من صحة الجهاز المناعي، ويبعث السرور في النفس. أمّا على مستوى المجتمع، فنجد أنّ الفكاهة وخفّة الظل تؤديّان إلى تفاعل البشر مع بعضهم بصورة إيجابية تنعكس على تقوية العلاقات بينهم وإشاعة البهجة. وتفاوت النّاس في تقبّل الفكاهة، لكن ممّا لا شكّ فيه أن تكوين الطّرفة يتطلّب حسًا خلّاقًا قادرًا على سبر أغوار نفس المُتلقي.
أتناول في هذا المقال بعضًا من التّحديات التي واجهتني أثناء ترجمة الفكاهة، وأرى أنّه من اللازم فهم أهميّة النّكتة عند الشّعوب, وأن يعلم أي مترجم للفكاهة حجم المعضلة التي يقع فيها عند ترجمتها من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف، فما يكون مزحة في ثقافة بعينها قد يكون إهانة في ثقافة أخرى، وما يكون ضرورة لتمرير رسالة خفيّة لها بعد سياسي أو اجتماعي أو أخلاقي قد يكون محض عبث أو إهانة بالنّسبة للقارئ في اللغة الهدف.
ولهذا ينبغي لمترجم النّصوص الفكاهيّة أنْ يدرك الغرض الاجتماعي من النّكتة؛ فهي قد تكون للتّهكم، أو التّعرض لسلطة ما، أو نقلًا لمعلومات أليمة، أو تحذيرًا من عواقب وخيمة، أو تلطيفًا لهجوم، أو مجرّد نكتة عبثيّة تخدم غرضًا في نفس المؤلف.
كما يجب أنْ يتعامل المترجم التّحريري مع الفكاهة كما لو أنّه يتعامل مع قنبلة موقوتة قد تفتك به وبالنّص إذا ما حاول تفكيكها بعشوائيّة، فالحذف ليس حلًا ناجعًا في معظم الأحيان؛ بل قد يكون الحذف إضرارًا بالنص وباعثًا للشّك في قدرات المترجم، كما أنّه مرفوض عند العمل مع «مبادرة ترجم» التابعة لوزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية التي تحرص على جودة الترجمة.
وفي كل كتاب ترجمته فكاهة تراوحت صعوبتها بين ما يمكن ترجمته مباشرة لوجود مقابل مشابه له في ثقافتنا العربيّة، وبين ما استعصى حقيقة على ترجمته ويندرج تحت بند «عدم القابليّة للترجمة» لوجود تلاعب في اللغة المنطوقة أو لسبب آخر، وحينها توجّب علي خلق حلٍّ من العدم لا يقلّل من التّكافؤ بين النّص العربي أو الإيطالي أو الإنجليزي.
وهنا، سأعرج أولًا على تجربتي في ترجمة رواية «أكّابادورا» للروائية الإيطالية ميكيلا مورجا. تتطرّق الرواية إلى موضوع القتل الرّحيم في جزيرة صقليّة الذي نُسي في التاريخ إلى أنّ قرّرت الكاتبة تأليف نص روائيّ عنه. والمُلاحظ هنا هو أنّها قد سردت القصّة من منظور طفلة بريئة عانت الأمرين من الفاقة قبل أنْ تتبناها «سيّدة الموت». وقد امتلأت الرواية بالفكاهة والممازحة بين الأطفال بما فيها إسقاطات دينية، وسياسية، واجتماعية. ولم تكن ترجمتها صعبة لأن لغة السّرد كانت بسيطة ومباشرة؛ لكنّ الصّعوبة كانت في تحديد الإستراتيجية التي يمكن استخدامها عند التّرجمة. وقد آثرت استخدام إستراتيجية التّغريب لأنقل القارئ العربي إلى بيئة جزيرة سردينيا. ومن الجدير بالذكر أنّ التّقارب الجغرافي والثقافي بين إيطاليا والوطن العربي قد يسّر نقل الطّرفة الممزوجة بالتّندر إلى القارئ العربي.
لكنّ ترجمة الفكاهة ازدادت صعوبة بانتقالي إلى كتاب «وودي آلن عن وودي آلن»، وهو عبارة عن حوارات مع المخرج الأمريكي وودي آلن. إنّه ملك على عرش الفكاهة، الأوّل بلا منازع في عالم الكوميديا السينمائية. والفكاهة بالنسبة له تخدير للحواس. نكاته قصيرة، وذكية، وفي صميمها أسئلة وجوديّة عميقة. كل كلمة موضوعة في مكانها الصحيح ومشحونة بفكرة فلسفيّة. وبطبيعة الحال، ترجمتي للكتاب استدعت مشاهدة كل الأفلام المذكورة فيه؛ بل وإعادة مشاهدة بعض المشاهد أكثر من مرّة حتى ألتقط مغزاها. ووجدتُّ الفكاهة في أعماله مبتكرة، فقد تكون في لغة الجسد، أو في كلمة منطوقة، أو في الموسيقى التصويرية، أو حتى في السّكوت. وهنالك صعوبة أخرى في نقل خفة ظل وودي آلن تكمن في تناوله لموضوعات حسّاسة: كالجنس، والديّن، والعنصريّة، والإلحاد، واكتنزت بدعابات مختزلة في سطر واحد على الأغلب، ويجب نقلها إلى القارئ العربي بأقل الكلمات. إنها كوميديا سوداء محبوكة بالإبداع، ولكنّ الخوف من تجاوز المحظورات قد دفعني إلى استخدام التّرجمة الحرفيّة مُعظم الأحيان. فالتّرجمة التّفسيريّة ستفسد الدّعابات، وأهم خصيصة في نكات وودي آلن هو أنّها مركبة؛ بمعنى أنّ في كل طرفة طرفتان، إحداهما ظاهرية والأخرى خفيّة، وهما متناقضتان. ومن ثمّ؛ فإنّ ترجمة الطرفة الواحدة استلزم تقليبها من كل الاتجاهات حتى أقبض على مغزاها. والخصيصة الأخرى في دعابات وودي آلن تكمن في استخدام السؤال والجواب، وتأتي الصعوبة هنا في إيجاد الفارق بين الحوار الجِدّي والهزلي، ومغزى المزحة.
أمّا آخر كتاب أودُّ الإشارة إليه فهو كتاب «البشر» لمات هيغ. سرده قائم على الفكاهة والتّندر في آن واحد. فيه فكاهة إلى حد الوقاحة، وقد زادت صعوبة ترجمته؛ بسبب وجود تلاعب لغوي في كلمات اللغة الإنجليزية، ففي القصة فكاهة مبنية على الحقائق، وأخرى مبنية على الكلمات. أمّا فيما يخص الفكاهة الثانية، فكانت هناك ضرورة إلى إدراج الكلمات الأجنبية ضمن الترجمة العربية، أو تذكير القارئ باللغة الإنجليزيّة التي يتكلمها البطل.
خلاصة القول في ترجمة الهزل، إنّ التكييف الثقافي هو أحد الحلول المقترحة لتجاوز عقبات ترجمة الفكاهة. وقد تكون هناك ضرورة إلى استبدال عناصر ثقافيّة بأخرى، واللجوء إلى التوطين. وكثيرًا ما تكون إعادة الصياغة بابتكار حلًا ناجعًا، لكن تفسير الطّرفة قتل لها، أو حسب تعبير الكاتب إلوِن بروكس وايت: "يمكن تشريح الدّعابة كتشريح الضّفدع، لكنّها ستموت في أثناء ذلك". كما أنّ الحفاظ على روح النكتة هو الأهم في الترجمة التحريرية، بينما سيسهل نقلها في السينما؛ نظرًا إلى وجود عوامل مساعدة كنبرة صوت الممثلين، والصورة، والموسيقى التصويرية. كما أنّ علينا التأكيد على ضرورة معرفة الجمهور المُستهدف قبل الشروع في التّرجمة، فالفكاهة في عالم الطفل يجب أنْ تكون من منظوره وبكلمات أبسط تُلائم إدراكه، مع ملاحظة أنّ ترجمة الفكاهة في مجتمع يُحيق به مقص الرّقيب أصعب. والثّابت هو أنّ ترجمة الملهاة بحاجة إلى إبداع المترجم بهدف تقليل الفاقد الترجمي قدر الإمكان، وإلى مواكبته للتغيّرات اللغويّة؛ فالدّعابات تتغير بتغير الأجيال وللتكنولوجيا دورٌ في ذلك.
مترجمة أدبية كويتية عن اللغتين الإيطالية والإنجليزية، ومدير مشروعات ترجمة، والمدير التنفيذي في وكالة كلمات الأدبية.
Comments