بثينة محمد
"إن ضحك النساء ضحك ملجوم يطلق له العنان فجأة أمام بذاءات الحياة."
ضحك النساء قصة سلطة– سابين ملكيور بونيه
أحب الضحك، وأحب أن أضحك كما يحلو لي إن لم يكن في سياق الضحك ما يشين مثل كلام لا يليق به الضحك، أو سياق عمل رسميّ. وعادة ما تكون ردة الفعل الأولى على صوت ضحكي العالي هي الإلحاح عليّ لكي أخفض صوتي؛ لئلا يسمعني الآخرون، و"يجرح" آذانهم صوت قهقهتي. وهذا لأن الضحك (أولًا) معيب على الإطلاق إن كان بصوت عالٍ، و(ثانيًا) لأن الرجال عادة ما يفسرون ضحكات النساء العالية بأن ما يدور بينهن في الخفاء من حديث وأفكار لا بد أن يكون خادشًا للحياء. وبما أن ضحكتي عالية، وحرّة لا تحاول التخفي خلف كفّي، ولا تخرج على صورة مقاطع صوتية قصيرة شبه مكتومة، ولا تتردد في خروجها خوفًا من انتقاد الآخرين، فكثيرًا ما تسبب الحرج لمن معي في الأماكن العامة. لذا، أنا أبتسم دون أي شعور بالذنب حين أشعر برغبة حقيقية في الضحك، وأعتذر مقدّمًا عن الاستنكار الذي قد يبدو على ملامح من معي. فأنا لا آبه بصورة (السَّت الكُمَّل)، أو المرأة المثالية التي تعبر عن الأنوثة والرقة في كل محفل، وتذكرني دائمًا بنساء إدغار آلان بو -اللاتي ينتهي بهن الأمر ميتات في كل أعماله-، إذ من الصعب على المرأة الكاملة أن تستمر بكمالها في عالمنا الإنساني والناقص. ولست سيدة أوروبية من القرون الوسطى تخشى أن تبور سمعتها حين تتعالى ضحكاتها، ولا متشددة ترى في الضحك ذنبًا يشغلها عن التفكير في العبادة، كما أنني –ولله الحمد- لست من (الغيشا) اليابانيّات اللاتي يبتسمن فقط دون أن يضحكن، خوفًا من نفور الرجل الذي ينفق عليهن مقابل الترفيه عنه بحديثهن الرائق الصافي، ومهاراتهن المتعددة في الموسيقى والفنون. لا أنتمي لأي من هذه التصنيفات. ولذا، أنا أضحك كما يحلو لي دون الإساءة لأحد. بالرغم من حبي للضحك، وتجريدي إياه مما يلصق به من سمعة سيئة، إلا أنني أعتذر لمن يكون برفقتي، ويشعر بالحرج حين أضحك. وهذا لأنني أحترم اختيار الفرد في تبني الثقافة الاجتماعية السائدة المناهضة لضحك النساء، وهي ثقافة ذات جذور ضاربة في التاريخ، تعزز سلوكًا نمطيًّا للتخفي خلف طريقة تصرف ممتازة، وإن كان لهذه الثقافة جذر في الموروث الديني الإسلامي، فهذا الجذر يختص بالضحك بصورة محددة جدًا الهدف منه إثارة غريزة الرجل، ولا يعمم على فعل الضحك ككل، أو كان لها جذر في التقاليد الاجتماعية التي تعلق قيمًا عليا لتقنين المرأة في دور التابع للسلطة الذي لا يجوز له التعبير عن النفس، ولا يتحدث، ولا يفكر حتى دون إذن لأن هذا يتطلب الخروج من دور اللاقدرة إلى القدرة، فهذه الديانة تغيّر معبودها تبعًا لمن يستطيع التحكم بأتباعه. وهذه الديانة تحديدًا تبذل الكثير من الجهد لإقناع المرأة بمغبة الضحك إما بوصفه تجاوزًا أخلاقيًا يطعن في عفتها وفضيلتها، وإما بوصفه علامة مخزية على تدني الطبقة الاجتماعية، وبالتالي يشكّل وصمة عار للعائلة التي لم تستطع تعليم بناتها التواضع، بما أن القوة سمة رجولية والضعف والخنوع سمة أنثوية، والضحك بلا شك يعبر عن القوة.
وربّما، يرى البعض في الضحك تمردًا، وهذا ليس جديدًا، فليس الضحك وحده ما يُعدّ تمردًا من المرأة. مجرد التفكير، وامتلاك رأي، وإصدار أي تعليق يعبر عن هذا الرأي في أي صورة كانت، هو تمرد، أو اعتداد بالنفس. وفي هذا السياق، تأخذنا سابين ملكيور بونيه في كتابها (ضحك النساء قصة سلطة)، في رحلة أنثروبولوجية لافتة للنظر وجديرة بالاهتمام، تبحث الأسباب التي تجعل المرء عبر الأزمان والحضارات والأساطير والديانات يستنكر ضحك المرأة فقط لأنها امرأة. وتصف بونيه الضحك في مقدمة كتابها بالتحرر الثوريّ على عدة مستويات إذ إن "اجتياح الضحك يتم بالقوة؛ كما أنه أيضًا تحرير للجسد ومتعة، بعيدة عن أي وصفة جاهزة. فسواء أكان مبتهجًا وسخيفًا، أم لاذعًا ومحبطًا أو مبدّدًا للأوهام، الضحك يكنس كل ما يصطدم به في طريقه، ويشبه أحيانًا الرقص على فوهة بركان. هذا ما لم يكن على العكس من ذلك، مبتذلًا تافهًا، ومقبولًا سياسيًا".
وليس بغريب علينا في العام ٢٠٢٤م أن نصادق على الكثير من المذكور في كتابها، لا لشيء إلا لأننا نراه بالعين المجردة كل يوم في كل مكان، ونطلق المدح والذم -بوعي أو بلا وعي- على الآخرين بناءً على: متى يضحكون، وكيف يضحكون. فالضحك مثله مثل الكلام، واللباس، واختيار الطعام، كان وسيكون وسيلة للتعبير عن مشاعر المرء ورغباته كذلك. فحين تضحك على نكتة ألقاها رئيسك في العمل، تأكد أن هناك من سيفسر ضحكك كنفاق ومداهنة، وإذا ضحكت لمزحة من طفل، ستكون شخصًا حنونًا وعطوفًا. وإذا أعجبك تعليق ساخر عنصري، فأنت تسهم في التنمر والتسلط على المختلف عنك. أما إن كنت تضحك كثيرًا لأي تصرف أو كلام يصدر من الجنس الآخر، فالأمر هنا على مستوى من الجدية قد يؤثر في حياتك ومستقبلك. وقد استخدم الضحك في الأدب للاستدلال على أمزجة الشخصيات وتعقيدها وبساطتها. ففي الأساطير الإغريقية، تظهر لنا الآلهة (ديميتر) مثلًا –آلهة الطبيعة وخصوبة الأرض- ضاحكة وبشوشة في نزهاتها الرومانسية مع (زيوس)، حتى تحبل منه بابنتهما (بيرسيفوني)، ويفقد اهتمامه بها، ويهجرها. وكأن الضحك هنا دلالة على السذاجة ربما، أو العاقبة الوخيمة للفرح بالحياة. بينما تصف الأسطورة ابنتها (بيرسيفوني) بالهدوء والجمال الأخاذ والرقة الفاتنة، وينتهي المطاف بها زوجة مكرّمة لإله العالم السفلي (هيديس)، بعد أن اختطفها، ورفض إعادتها لوالدتها.
إن الدلالات الشائعة للضحك لا تقتصر على تشفير الطبقة الاجتماعية، أو قياس مستوى التدين، أو درجة العفة، بل تتجاوزها إلى مشاعر أشد عمقًا، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بلعبة القوة وانتقالها، أو انتزاعها، بين الأطراف المتقابلة لأن الضحك كما تراه بونيه "دائمًا ما ينحت له لغة مزدوجة من شأنها أن تشوش جدية الكلمة". في السيرة الذاتية (Edcuated) للمؤلفة الأمريكية تارا ويست أوفر، يتكرر مشهد الضحك كرد فعل على التنمر والعنف الجسدي الذي تعرضت له الكاتبة على يد أحد أشقائها باستمرار. في كل مرة يلوي فيها شقيقها معصمها حتى يكاد ينكسر، ويرميها أرضًا ويجلس فوقها أو يضع رأسها داخل كرسي الحمام، تقول تارا إنها تبدأ بالضحك. تضحك، وتقول لنفسها إنها إذا ضحكت فلن يكون ما تتعرض له مؤلمًا، ولن تتذكره على أنه حادث حزين.
أما رواية (جين إير) للكاتبة الإنجليزية شارلوت برونتي، فتظهر الزوجة المجنونة للبطل تضحك دائمًا قبل ارتكاب أي جريمة. ويعرف القارئ أن نوبة جنون خطيرة بدأت، حين تتعالى ضحكاتها، ثم تقهقه، ثم يتحول هذا الضحك إلى أصوات هستيرية يختلط فيها الصياح مع الضحك، وترتكب أمرًا مدمرًا، يتسبب في نهاية المطاف بحرق المنزل برمته وإصابة زوجها بالعمى في محاولة لإنقاذها قبل أن تموت. وفي مسرحية (العنزة، أو من هي سيلفيا) للكاتب المسرحي الأمريكي إدوارد ألبي، تنفجر الزوجة في ضحك طويل، غير مفهوم، حين تكتشف خيانة زوجها لها مع عنزة. يظهر ضحكها محاولة أسيفة للاستيعاب، وللتعامل مع هذه الصدمة التي لا يستطيع أي إنسان سوى الوقوف مذهولًا في مكانها. يظهر ضحكها بوصفه ميكانيكية لإبداء أي قدر من السيطرة على أمر مشين وغير مفهوم، ولا يمكن تفسيره أو قبوله دون أن يخسر الإنسان جزءًا من إنسانيته. أي أنها حاولت من خلال الضحك الدفاع عن إنسانيتها، وعن صوابها.
يأتي الكتاب في نسخته العربية مترجمًا عن الفرنسية، بقلم جلال العاطي ربي، من إصدار منشورات جدل، ضمن مبادرة ترجم في العام ٢٠٢٢م، ويحتوي على ١٢٨ فصلًا في ٤٤١ صفحة كُرست كلها لتقليب وتمحيص ضحك النساء في سياقات اجتماعية، وسياسية، وثقافية، ودينية، دون أن يهمل التطرق للأساطير، والأعمال الفنية الكلاسيكية والحديثة.
كاتبة ومترجمة وقاصة سعودية. نشرت قصص قصيرة في جريدة الوطن السعودية ومجلة النادي الأدبي في تبوك (حسمى)، ومقالات في هفنغتون بوست عربي. كما صدر لها مؤخرًا كتاب (نيسن دورما- رسائل السهر) عن دار أثر عام ٢٠٢٣م. حاصلة على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي (ما بعد الحداثة في القصة الأمريكية القصيرة). وحازت على الاعتماد المهني للترجمة من برنامج المترجم المعتمد في دفعته الأولى تحت إشراف هيئة الأدب والنشر والترجمة.
Comments