top of page
سياق

تشكيل | رُسومٌ مَزّاحَة

نوف السماري

فنانة تشكيلية


في مساحات الضحك منعطف إنساني لا يشاركه فيه أي كائن آخر، يخلق فيه فضاءاته الحرة القادرة على استحداث الدلالات والصور والإشارات، وتكوين ذلك المعنى حول ذات الإنسان والعالم من حوله، وهو فعل يُمارس بوصفه فنًا مستقلًا، تتعدد أدواته وأساليبه، والأهم من ذلك كله أن يعكس شيئًا من سرعة البديهة والذكاء، وبنظرة موجزة في تاريخ الفلاسفة وفي كيفية تناول كل منهم معاني الضحك بوصفه حالة إنسانية مستقرة في النفس -رغم شيوع حالة البؤس واليأس وهيمنتها عليهم في تلك الأزمنة لأسباب عديدة-، فسنجد أن سقراط -على سبيل المثال- كان يرى أن السخرية تنبع من تجاهل الذات، حيث كان يقضي معظم وقته مع الناس الذين يتقاطع معهم في الساحات متقنًا دور الجاهل، ويحاورهم ليس من أجل تأمُلاته الفلسفية بل ليسألهم سؤال العالم للشخص البسيط، وهنا يكون تأثيره بأن يعطي انطباعًا بالرغبة في التعلم من محادثيه عن طريق لعب دور الشخصية الأكثر غباء، وهذا ما عُرف فيما بعد بـ"سخرية سقراط"، بينما كان أرسطو يفسر الكوميديا على أنها "محاكاة الرداءة" ليس بالمعنى الأخلاقي للرداءة، بل عن فقر ما هو منطقي للمعنى؛ ليكون باعثًا للضحك لأنه غير مكتمل بشكله المتعارف عليه. أما في ثقافة الأدب العربي فنجد أن أشهر الشخصيات التي تتخذ شكل فلسفة البسطاء تكاد تكون شخصية "جحا" ومواقفه الساخرة والكوميدية.

وفي سياق الفن, نلحظ أن أبرز أشكال الضحك والسخرية تتجلى في فن الكاريكاتير  الذي يأتي بوصفه نموذجًا فنيًا له خصائصه في المبالغة، رغم أن لا مجال لمفهوم المبالغة في ممارسة الفن بنظري، إلا أنه رسم يصور مواقف أو أفكارًا بالأشكال كلها؛ بهدف السخرية. ويرجع أصل كلمة "كاريكاتير" إلى المفردة الإيطالية "كريكور" التي تعني أن تحمل ما لا تطيق، أو أن يبالغ في تحميل النص أو الصورة معًا. انتشر الكاريكاتير بصورة واسعة في أوروبا، وكان قد ازدهر في فرنسا آنذاك حيث اكتسب ما يعرف باسمه الآن "كاريكاتير".  ولعل أحد أهم ناقلي هذا الفن هو النحات الإيطالي المشهور "جيان بيرنيني" وهو نحات ورسام كاريكاتيري بارع، قدم هذا الفن للمجتمع الفرنسي حين ذهب إلى فرنسا عام 1665م، وأصبحت الرسوم الكاريكاتيرية -بعد ذلك- شائعة في الأوساط الأرستقراطية الأوروبية، إذ جرى تداول الصور الكاريكاتيرية للتسلية والمتعة، وتوسعت الموجة إلى بريطانيا مع عودة رحالي "الجولة الكبرى" بين مدن أوروبا التي تُعدّ تقليدًا رسميًا لدى شباب أرستقراطيي إنجلترا بين القرن السابع عشر والثامن عشر، وقد سمحت حرية الصحافة لديهم باستخدامها في الهجاء السياسي اللاذع، وعززت تطورها بوصفها شكلًا فنيًا في حد ذاته.  كما عُثر أيضًا على بعض من أقدم الرسوم "الكاريكاتيرية" ضمن أعمال ليوناردو دافنشي الذي كان حينذاك يبحث عن الأشخاص الذين يعانون من تشوهات خلقية لاستخدامهم بهدف تقديم انطباع مبالغ عن الواقع بصورة لافتة للانتباه أكثر من الصور الأصلية له إلا أنه لم يصنع بهدف الكاريكاتير لكن قد تكون رسوماته "الوحشية" هي التي ألهمت بعض الفنانين ليسلكوا نهج الرسوم الكاريكاتيرية الحديثة.



أعمال لبرنيني وتعرض في متحف المتروبوليتان بنيويورك

شخصيات ليوناردو دافنشي الكاريكاتيرية



و في مبحث آخر قيل إن أول من أسهم أيضًا في صناعة الصور الكاريكاتيرية هم الفراعنة قديمًا، وبعض الرسوم التي احتُفظ بها في شتى المتاحف، حيث كانت مرسومة على أحجار وقطع فخارية تعود إلى ١٢٥٠ قبل الميلاد إبان حكم رمسيس الثاني. على سبيل المثال في الصورة الآتية مشهدًا غير مألوف لقط يرعى سربًا من الإوز و ثعلبًا يحرس الماعز . . فنان هذه الصورة غير معروف ولا تُعرف غايتها لكن هي حتما إشارة غير صريحة إلى العلاقة التي كانت سائدة بين الحاكم والمحكوم في تلك الفترة.


وفي حال تأمل تاريخ الأدب العربي سنجد الحس الفكاهي بأسلوب جلي في كتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع بترجمته العربية التي تتجلى فيها الفكاهة والطرافة بشخوص الحيوانات، كما يبرع الشعر العربي في رسم الكاريكاتير ربما ذهنيًا حتى من خلال الصور الشعرية الساخرة التي برع فيها الشعراء، -على سبيل المثال- نجد في ديوان الحماسة الذي جمعه أبو تمام عن شعر الجاهلية والإسلام تحت باب الهجاء -أعاجيب الخيالات- التي لو صورت لكانت من أبدع صور النقد و الفكاهة, وهل هناك أدعى للضحك من قول الشاعر (الأنف بالعرض والعينان بالطول)، وكان في هجائيات أبي الطيب المتنبي لكافور حاكم مصر عندما سخر من سواد بشرته وبياض السطح الأسفل لقدميه فيقول:


وتعجبني رجلاك في النعل أنني . . . أريتك ذا نعل وإن كنت حافيًا

وَإِنَّكَ لا تَدري أَلَونُكَ أَسوَدٌ . . . مِنَ الجَهلِ أَم قَد صارَ أَبيَضَ صافيًا


يمكننا القول إن الحملة الفرنسية هي بداية التاريخ المصري الحديث مع الصحافة والطباعة، لكن الكاريكاتير لم تبدأ طباعته في مصر إلا في أواخر حكم الخديوي إسماعيل، وحينها كانت أول مجلة كاريكاتير ساخرة باسم "أبو نظارة" عام ١٨٧٨م على يد "يعقوب صنوع"، ومن الشخصيات التي ابتكرها صنوع للمجلة كانت شخصية "شيخ البلد" التي يرمز بها للخديوي آنذاك، ومن خلال هذه الشخصية قدم للقارئ تعليقاته على سياسات البلاد، كما ابتكر شخصية "أبو الغلب" التي رمز بها إلى الفلاح المصري الذى كان يعاني من الفقر والتهميش والقهر الاجتماعي، ومنها تنامت صنعة الكاريكاتير في مصر من خلال الكثير من الأسماء البارزة.



وفي المشهد المحلي في المجتمع السعودي كان قد ازدهر فن الكاريكاتير بصورة فاعلة وواسعة، وجرى تداوله ونقاشه؛ لأنه يعكس صورة المجتمع ومسائله بصورة صادقة، وقريبة للفرد بهمومه وانشغالاته، حيث كان رسام الكاريكاتير في الجريدة يُعدّ هو رأس الحربة الذي يسهم في رفع توزيع ومبيعات الصحف. كان أحد رواد الكاريكاتير في فترة السبعينيات هو الفنان علي الخرجي الذي أكمل دراسته الابتدائية حتى الثانوية في العراق, وصقل خبرته الفنية بالاختلاط بغيره من الفنانين هناك، وتعلم الكثير، وأتقن فن النحت أيضًا. حصل الخريجي كذلك على دبلوم فنون من كلية الفنون الجميلة  في مصر, ونُشرت أغلب رسوماته الكريكاتيرية في جريدة الجزيرة، حيث كان يُطلق عليه فنان الجزيرة. وكان من ألمع الفنانين السعوديين أيضًا محمد الخنيفر, الذي أدخل التلوين على فن الكاريكاتير في مرحلة السبعينيات, ومن أهم شخصياته التي صنعها شخصية "سلطانة", وكان ينشر في جريدة الرياض التي تصدّرت الصحف السعودية في النشر.



عمل محمد الخنيفر محررًا في بداياته، ومصممًا للإعلانات في الصحف، وتعاون مع التلفزيون السعودي بصفته رسامًا خاصًا لبرامج الأطفال، وأمضى بعد ذلك سبع سنوات في إيطاليا بين أكاديمية الفنون الجميلة في روما والمعهد العالي للسينما في قسم الرسوم المتحركة، بعدها جلس خمس سنوات في لندن أشرف خلالها على إنتاج العديد من الأفلام الكرتونية الناطقة بالعربية مع عمله في الصحافة العربية، وصدرت له سلسلة متعددة لمغامرات سلطانة. ولا نغفل في هذا السياق عن شكل الأزياء التي كانت بنظري لافتة للشخصيات النسائية في رسومات الخنيفر, هذا إلى جانب حواراته التي تعكس سعة الاطلاع والبعد الثقافي لديه، والطريقة التي كان يعكس فيها حس الأناقة أيضًا، وثورة كاتلوجات الفساتين النسائية في مرحلة الثمانينيات.



من الأسماء المهمة أيضًا التي كان لها تأثير واسع وكبير الرسام عبدالسلام الهليل الذي ذاع صيت رسوماته فترة التسعينيات بصورة كبيرة، نشر أول رسم كاريكاتيري له في صفحة القراء بجريدة الرياض ثم بعد ذلك بستة أشهر نشر رسميًا رسوماته في جريدة الرياض في أواخر 1984م، بعد أن اكتشف موهبته الأستاذ تركي السديري -رحمه الله-، و يُعدّ الهليل واحدًا من أشهر الكاريكاتيريين السعوديين في رحلة الفن السعودي الكاريكاتوري؛ وذلك للوحاته الساخرة و المعبرة عن كثير من مشكلات ومواقف المجتمع. صدر له كتابان جمع فيهما مجمل أعماله بعنوان "للأذكياء فقط" من جزأين الأول عام 1992م، والجزء الثاني في عام 2000م.



 لا بد أن يكون رسام الكاريكاتير فنانًا، وناقدًا، وساخرًا، ومطلعًا، ومرتبطًا بالحدث اليومي، وأن يتمتع بالبلاغة والذكاء، وأن تكون لياقته عالية لينتج أعمالًا يومية، وكان أحد أهم المهتمين لدينا بفن الكاريكاتير الوزير السابق د. غازي القصيبي -رحمه الله-، حتى إنه كان يقيم معرضًا لفنون الكاريكاتير في مقر وزارة العمل أثناء توليه الوزارة، و يذكر له أن أحد رسامي الكاريكاتير "ربيع" عبدالعزيز الغامدي كان قد نشر في صحيفة الرياض رسمًا حول متطلبات سوق العمل ومعاناة المتقدمين فما كان من الوزير إلا أن خاطب رئيس تحرير صحيفة الرياض آنذاك؛ طالبًا منه أصل العمل ليُعلقه ضمن الأعمال الفنية في الوزارة. 

الجدير بالذكر أنه جرى تأسيس جمعية رسمية لفن الكاريكاتير "الجمعية السعودية للكاريكاتير والرسوم المتحركة" عام ٢٠٠٩م من وزارة الثقافة والإعلام سابقًا، وأدرج فيها أكثر من ١٠٠ اسم لفنانين وفنانات سعوديين وسعوديات من رسامي الكاريكاتير؛ محاولة الاحتفاظ بهذا الفن من الاندثار.









أحدث منشورات

مقدمة العدد | (ههههههههه)!

هيئة التحرير هل تستطيع أن تكتب ضحكاتك؟ هل هي: (ها ها ها) أم (هههههههه) أم (ههاي)؟ ولو كنت من غير العرب، هل ستبقى خيارات صوت الهاء هي...

متابعات العدد الثامن عشر

من أروقة النقد: ملتقى الشعر الخليجي 2024‬⁩ ينطلق ⁧‫ملتقى الشعر الخليجي 2024‬⁩ في مدينة الطائف في يومي 5-6 يوليو 2024 بتنظيم من هيئة الأدب...

Commentaires


bottom of page