د. أميرة غنيم
"أيّها المارّ بقربي، إذا رأيتَني فابْكِ!"
لم يُكتب هذا القول الصادم على شيء من محامل الكتابة التقليديّة، ولا أحد يعرفُ له قائلًا ثابتًا ولا زمانًا دقيقًا. كلّ ما نعرفه أنّه محفورٌ على صخرةٍ واقعة في مجرى نهر "إلبه" الذي يتدفّق في بلاد الجرمان. صخرة عملاقة ظلّت لقرون طويلة مغمورة بمياه النهر قبل أن يكشف عنها في نهاية العشريّة الثانية من القرن الحادي والعشرين الانخفاضُ الحادُّ في منسوب النهر.
أضحت تلك الصخرة منذ انكشافها للأبصار، قبلةَ السوّاح من أصقاع العالم. يحجّون إليها عبر البرّ والنهر يتأمّلون الحروف اللاتينيّة المنقوشة فوقها ويجعلونها في الخلفيّة حين يلتقطون الصور. لا أحد من المارّين بها ظهر في الصورة باكيًا، على ما أوصت به اليد المحذّرة التي نحتت الرسالة المأساويّة، بل معظم الوجوه ضاحكة مستبشرة لا تلقي بالا للنذائر التي كمنت تحت الماء دهرًا قبل أن تطفو إلى مرمى البصر. من الذي حفر الصخرة ومتى؟ وما دلالة الدعوة إلى البكاء إذا خرجت من تحت الماء؟
أجاب علماء التاريخ عن هذه الأسئلة أجوبة دقيقة. قالوا إنّ العبارة نُحتت على الصخرة في مطلع القرن السابع عشر في فترة عرفت فيها تلك المنطقة من أوروبا جفافًا رهيبًا انجرّت عنه سنوات من المجاعة. وأغلب الظنّ أنّ اليد التي نحتت العبارة عاصر صاحبُها زمنين: زمن الوفرة حين كانت الصخرة مغمورة بالماء، وزمن القحط حين انحسر عنها الماء بسبب تعاقب سنوات الجفاف، فخطر له أن يجعلها شاهدًا على المحنة العصيبة. إنّها رسالة السلف إلى الخلف على محملٍ لا يؤثّر فيه تعاقب الزمان ولا قسوة المناخ. رسالةٌ قاتمة تحذّر من خطر داهم، وتنذر بأنّ بروز الصخرة للعيان مؤشّر خطير على أيّامٍ عصيبة يُفترض أن تبعث على البكاء، ولكن أيّ دموع تُرجى اليوم من بشرٍ غدت قلوبهم أقسى من الحجارة؟
أحجار الجوع
سرعان ما اكتشف الناس في ألمانيا أنّ صخرة نهر "إلبه" ما هي إلّا واحدة من عشرات الأحجار العظيمة المنتشرة في نهر الراين. أحجار متفاوتة الحجم في الحقيقة عرّاها الجفاف المستفحل في السنوات الأخيرة فبانت فوقها النذائر: "من رآني قديما فقد بكى، ومن يراني اليوم فسوف يبكي"، "لن تزهر الحياة مجدّدًا إلّا إذا اختفى هذا الحجر".. بعضُ هذه الأحجار لا يحمل إلّا تاريخ السنة التي انخفض فيها منسوب النهر فأمكن لليد البشريّة أن تحفر تاريخ الجفاف على شواهد الحجر، وبعضها يراكم تواريخ سنوات متباعدة حينًا ومتقاربة حينًا آخر تشترك جميعها في خصيصة واحدة، شحّ الماء.
ولمّا كانت هذه الأحجار كثيرة ومتشابهة في رسائلها التحذيريّة فقد أطلق عليها الألمان اسمًا شاعريًّا مروّعًا: "هونغرشتون" الذي يعني حرفيًّا أحجار الجوع، في ضرب من المجاز المرسل القائم على اعتبار ما سيكون. اللافت في هذه التسمية أنّها تستثمر اقتران الجوع بالحجر في المخيال البشريّ، وهو اقترانٌ كونيّ في عموميّته، يخترق الألسن والثقافات، إذ لا يكاد يخلو لسانٌ طبيعيّ من التعابير الاستعاريّة التي تربط شدّة الجوع بالتهام الحجر في ضربٍ من المبالغة المستحيلة .
دعكَ من الحالات الغريبة والشاذّة التي يضحي فيها الحجرُ وجبةً حقيقيّة للنساء الحوامل في بعض الثقافات كما هو الشأن عند الكينيّات اللائي يُقبلن على التهام حجرةٍ تسمّى عندهم "أُودُوَا" لتعديل مؤشّرات الكالسيوم في الدم، ودعك أيضًا من سيرة الطيور التي تضيف الحصى إلى نظامها الغذائيّ على سبيل الرحى، فيُعينها على طحن الحبوب داخل الحوصلة ويفيدها في تكوين قشر البيض، فما هذه إلّا حالات شاذّة من تعاطي الجهاز الهضميّ مع موادّ غير صالحة للاستهلاك في الأصل. ذلك أنّ الثابت في المخيال الجمعيّ تناقض صارخ بين اليبوسة المطلقة للحجر والليونة النسبيّة لما يؤكل، وهو ما ولّد في الثقافات الشعبيّة أمثالًا كثيرة موضوعها التلازم الضروري بين الفقر المدقع وافتراش الحجر، أو الإفلاس والقبض على الحصى1، ناهيك عن عدد من القصص المؤثّرة التي تربط الحصى بالصبر على الجوع من قبيل قصّة المرأة التي رفعت قدرًا على النار على عهد الخليفة عمر بن الخطّاب وجعلت فيها بعض الحصى وأخذت تعلّل أطفالها بقرب نضوجها حتّى يغلب نعاسُهم جوعَهم فيناموا بلا عشاء.
على أنّ في التسمية التي أطلقت على أحجار الأنهار المنكشفة بسبب انحسار الماء، بُعدًا آخرًا. فإذا كان بروزها في مجرى النهر شاهدًا على تقلّب الأحوال وتردّي المناخ ومنذرًا باستفحال الجفاف فهو شاهد أيضًا على أنّ الحجرَ في منعةٍ نسبيّة من الفساد والتلاشي المنجرّين عن تعاقب الأيّام. ولهذا السبب لم يقترن الحجر في تمثّلاتنا الذهنيّة بالجوع وشحّ المؤونة فحسب، لكنّه اقترن أيضًا بالديمومة على خطّ التاريخ والتعالي عن عوارض الزمان2. وإذا كانت صرخة تميم بن مقبل "ما أطيب العيش لو أنّ الفتى حجر" معبّرة عن هواجس العربيّ في بيئة صحراويّة تكون اليبوسة فيها شرطًا لاستمرار الوجود، فإنّها أيضًا جوهر الأمنيّة المستحيلة للكائن البشريّ بصرف النظر عن البيئة التي ينتمي إليها. فجميعُنا يرمق الحجر بعين الحسد كلّما تذكّر أنّه ثابتٌ على حاله، لا يشيخ ولا يهرم ولا يبلى إلّا قليلًا.. فهل نستغرب بعد ذلك أن يكون البكاء على أطلال الحجارة مشتركًا كونيًّا، وإن اختلفت ظروفه والدواعي إليه؟
أحجار العطش
على أنّ الحجر الذي لا يغني من جوع، له بالعطش علاقةٌ شديدة الغرابة. فمن الحيل التي يعتمدها الرحّالة لمجابهة نضوب الماء في زوّاداتهم خلال الأسفار الطويلة أن يجعلوا في أفواههم حصاة صقيلة يقاومون بها شعورهم بالعطش. فأمّا العلم فله في تفسير الظاهرة قول واحد: تحفّز الحصاة في الفم إفراز الريق فتمنع جفاف التجويف الفمويّ وتعطي انطباعًا كاذبًا بالرواء يقاوم الإحساس بالعطش. وأمّا الأسطورة فلها قولان؛ أحدهما أنّ الحصاة في جوهرها سائل متجمّد، فإذا انطوى عليها الفم بدفئه عادت سائلًا إلى أصلها وإن كان ذلك لا يظهر على شكلها. والثاني أنّ الحصاة الصقيلة بنت الأودية والأنهار، وهي تكتنز لذلك بعضًا من خصائص مصدرها كما يختزن المولود في جيناته عددًا من خصائص الوالد. فلا يُستغرب حينئذ أن تروي الحصاة الصادي كما يرويه ماء الوادي.
العبرة فيما يرويه الرحّالة عن علاقة الحجر بالعطش عميقة بقدر بساطتها: من قلب اليبوسة والخشونة والصلابة والثقل يمكن للإنسان إذا شاء أن يستخرج بقوّة خياله وحدها الرطوبة واللين والرخاوة والخفّة. ومن عمق الجفاف يمكن لحواسّه إذا شاءت أن تستحلب النداوة والخصوبة. وسواء التقى بصره بحجارة الجوع فبكى أو ضحك، أو التقى لسانه بحجارة العطش فارتوى أو توهّم الرواء، فإنّه في كلّ ذلك لا يخلو من أحد أمرين: أن يتذكّر أصله طينًا هشًّا مفتقرًا على الدوام لما يُقيم أوده، وأن يتدبّر دوره في كونٍ متحوّل لم يعد فيه شيء على حاله الأوّل، بما في ذلك الحجر.
من الأمثال التونسيّة "فلان على الحُصحاص" كناية عن الإفلاس، والحصحاص في الدارجة المحليّة هو الحصى.
من الأمثال الشعبيّة التونسيّة "ما يْدوم في الواد كان حجره" (لا يبقى في الوادي إلّا أحجاره)، ويضرب عند المقارنة بين الجوهر والعرض في كلّ شيء.
روائية وأكاديمية من تونس مختصة في اللسانيات وتحليل الخطاب. تدرّس اللغة والترجمة في جامعة سوسة. صدر لها في البحث العلمي "المزج التصوري: النظرية وتطبيقاتها في العربية". وصدر لها في الرواية نازلة دار الأكابر (2020)، الملف الأصفر (2023)، تراب سخون (2024).
Comments