سميرة العصيمي*
يستظل كتاب (خارج المكان) لإدوارد سعيد تحت مظلة السير الذاتية، فقد انتهج فيه منهج الصدق والحياد والموضوعية مقدمًا فيه سردًا زمنيًا متتابعًا لمراحل حياته بدءًا من مرحلة الطفولة، مرورًا بمرحلة المراهقة والشباب، وانتهاءً بمرحلة النضج، يستضيف إدوارد القارئ في رحلة تاريخية ليأخذه إلى جذور تكوينه، عنون سيرته بـ (خارج المكان)، ويتضح من العنوان تجرد إدوارد مكانيًا، فقد رأى الوجود المكاني كحالة ذهنية معاشة، ورأى نفسه خارجًا من المكان، مجردًا عنه.
يعد إدوارد سعيد أحد أهم المفكرين العرب في القرن 21، وهو منظر أدبي فلسطيني أمريكي وأستاذ للنقد الأدبي والأدب المقارن بجامعة كولومبيا، اهتم بالدراسات ما بعد الكولونيالية، له عدد من المساهمات الثقافية والسياسية والأدبية في عدد من المجلات والصحف، ومن مؤلفاته: الاستشراق، الثقافة والإمبريالية، مذكرات خارج المكان.
يشغل الكتاب ما يقارب 359 صفحة، صدرت بمقدمة المؤلف، وأحد عشر فصلًا، يبدأ إدوارد سعيد مقدمة كتابه مسجل سطر استثنائي «هذا الكتاب سجل لعالم مفقود أو منسي»، أراد بذلك بعث العالم المنسي وإعادته إلى ذاكرة الحاضر، ويبدو أن الموت كان دافعًا لاستنهاض همته لكتابة سيرته الذاتية، فبعد أن شخص بمرض السرطان شعر بأهمية تخليد سيرته الذاتية «منذ عدة سنوات، تلقيت تشخيصًا طبيًا بدا مبرمًا، فشعرت بأهمية أن أخلف سيرة ذاتية عن حياتي في العالم العربي، حيث ولدت وأمضيت سنواتي التكوينية، كما في الولايات المتحدة، حيث ارتدت المدرسة والكلية والجامعة. العديد من الأمكنة والأشخاص التي استذكرها هنا لم تعد موجودة، على الرغم من أنني أندهش باستمرار لاكتشافي إلى أي مدى أستنبطها، وغالبًا بأدق تفاصيلها، بل بتشخيصاتها المروعة»، فعندما يواجه الإنسان حقيقة موته، ودنو أجله، يتجرد رويدًا رويدًا من سطوة القيود الاجتماعية التي ظل يرزح تحتها طوال حياته، فينطلق شجاعًا مقدامًا في سبيل تخليد الكلمة، والتجربة الإنسانية، غير عابئ بأي سلطة اجتماعية أو سياسية.
يعيد إدوارد قراءة تاريخه منطلقًا من وعيه الناضج، وتتجلى ذاكرته الحديدية التصويرية في استحضار عدد من المشاهد التي عاشها، والتجارب التي خاضها، والأحداث التي عاصرها، وينطلق إدوارد إلى تقديم سردية تاريخية مستحضرًا الصراع الهوياتي، فقد عاش بين لغتين وعالمين وحضارتين، فجاءت غربته مزدوجة محكومة بصراع استثنائي بين عالمين، وجاءت هويته متحركة فهي لا تتكون من عناصر جامدة، بل عناصر سائلة أعيد تشكيلها وصياغتها في هذا العالم، بدأ بتشريح عناصر هويته وتحديدًا من اسمه المركب (إدوارد سعيد) فكل اسم ينتمي لثقافة وهوية وحضارة، فصار لكل اسم مشقته.
سيرة إدوارد سعيد هي محطات انتقال وارتحال بين عالمين متصارعين، الشرق والغرب، انتقل بين القدس والقاهرة والضهور حتى استقر في أمريكا، فخروجه المستمر جعله متزعزع مكانيًَا لا ينتمي إلى أي مكان.
إدوارد المتمرد المشاغب هذه الألقاب التي كانت تطلق عليه وتؤطره وتثقله، أسهب في سيرته في الحديث عن طفولته وشبابه، يستفتح الفصل الأول بقوله: «تخترع جميع العائلات آباءها وأبناءها وتمنح كل واحد منهم قصة وشخصية ومصيرًا، بل إنها تمنحه لغته الخاصة»، رُسم لسعيد دوره الخاص داخل منظومة الأسرة والمجتمع، ثم رسم لنفسه لاحقًا الدور الذي أراده.
تحدث عن قصة ولادته في القدس عام ١٩٣٥م، وعلاقته بوالدته هيلدا ووالده وديع، كما حكى عن فضوله المعرفي الاستكشافي للقراءة وتنميته لعادة (التطويل الذهني) كما سمّاها حين يقرأ حكاية من الحكايات ويصبح داخلها فيكون حينها مؤلف لملذاته بعيدًا عن سلطة العائلة والمدرسة الخانقتين، وفي الفصل الثاني: تحدث عن والده وديع سعيد بحياد مطلق واصف شخصيته الممزوجة بالقسوة والعاطفة، ثم ينطلق في الحديث عن دراسته في مدرسة الجزيرة الإعدادية وتأملاته للشارع ولزملائه فقد كان يجد في الشارع سلوان وتحرر من القيود المفروضة عليه منزليًا، فالشارع مسرح للتأملات الإنسانية والاجتماعية فهي حالة تحرر من الارتهان البيتي. ويأتي الفصل الثالث والرابع والخامس حاملاً حكايات عن دراسته في مدرسة الجزيرة الإعدادية التي مثلت اختباره الأول لنظام الاستعمار البريطاني إذ كانت المدرسة أشبه بـ(مهمة كولونيالية) يسود جوها طاعة عمياء، وإذعان للسلطة البريطانية، ويسرد موقفه حين ارتكب مخالفة في المدرسة وأرسلته المعلمة إلى مستر بولين ليتلقى عقابه وضربه بالعصا ضربًا مبرحًا على قفاه وتلقى الضربات وهو في حالة صمت وإذعان وخضوع ودون أي ردة فعل ويصف أثر هذه الحادثة بعد مرور ٥٠ سنة عليها قائلًا: «وكأنه يوجد عقد استسلامي بيني وبين أبي توافقنا فيه على أننا ننتمي بالضرورة إلى مرتبة دنيا»، فالعجز المطلق الذي شعر به سعيد في هذا الموقف ساهم لاحقًا في تكوين منظومته الفكرية.
تحدث عن علاقته بوالدته وحبهما المشترك مع الموسيقى، وتقاسمهما لعدد من الروابط المشتركة وعلى الرغم من علاقته القوية والحانية بوالدته إلا أنها كانت تتنمر عليه عاطفيًا وتنتقده بشدة ويستحضر أحد أكثر المواقف إيلامًا بالنسبة له عندما عاد من المدرسة الداخلية القمعية في نيو إنغلاند في صيف ١٩٥٢م متشوقًا للقاء أمه وتبادل الأخبار والآراء حين فاجأته بقولها «أولادي خيبوا أملي جميعًا، كلهم بلا استثناء»، يصف إدوارد أثر هذه الكلمات القاسية فيه، وشعوره بالحزن وخيبة الأمل.
شكل جسد إدوارد منطقة إشكالية؛ وسبب ذلك أن والده رأى أنه ليس صلبًا بما فيه الكفاية فجلب له مدرب رياضي ليقوم بتقويم جذعه، وأحدث هذا الحدث شرخًا في علاقته بجسده، وزعزعة في هويته الجسدية، ويمعن سعيد في وصف علاقته المضطربة مع أطراف جسده، فقد رأت أمه في يديه كل شيء سوى أنهما يدان فهما «مطرقتان وكلابتان وهراوتان وأسلاك فولاذية»، هذه الأوصاف العجيبة أطرت علاقته بجسده انطلاقًا من تعامل والديه معه، وتعاظمت مسألة الإحساس بالجسد الإشكالي؛ بسبب والدته التي رأت أن جسده جسد مثقل، وقادر على ارتكاب الشر، كما تجلت الإشكالية بين الجسد المؤنث والمذكر في الانفصال القسري بينه وبين أخواته لا استحمام معًا ولا معانقة أو معاركة، وهذا يفسر طبيعة علاقته بإخوته، حيث منعت والدته التواصل المباشر بينهم فكانت هي الوسيط بينه وبين إخوته ما ولد فجوة في التواصل بينهم.
يستدعي إدوارد مشهد وفاة والده عندما مات مشيحًا بوجهه نحو الجدار دون أن يصدر أي صوت ما جعله يطرح سؤالًا مفتوحًا عن والده هل أراد أن يقول حقًا أكثر مما قال؟ وأعتقد أن هذا المشهد من أكثر المشاهد إيلامًا بالنسبة للقارئ؛ أن يموت الإنسان مشيحًا بوجهه عن أحبابه، ويترك خلفه عائلة تتساءل عن حواره الداخلي الأخير الذي مات معه في تلك اللحظة.
في الفصول المتعددة اللاحقة تناول إدوارد تجربة دراسته في المدرسة الأمريكية، وتعاظم شعور الغربة لديه فقد شعر أنه كائن معطوب ضعيف، ويمتلك هوية مضطربة، فهو يحمل الجنسية الأمريكية وأصوله عربية، أورثه هذا الاضطراب خجلًا وضعفًا في شخصيته، وتابع سرد حكاياته عن عمته نبيهة التي كان لها الفضل الأول في إشعال فتيل القضية الفلسطينية في وعيه، وتطرق إلى التمايز الطبقي بينه وبين زملائه في المدرسة الأمريكية، كما استعرض عددًا من الصور التذكارية ذات القيمة العاطفية، وتبدو الصور مؤرخة بأحداثها ووقائعها، وتحدث عن الانفصام اللغوي الذي أصابه عندما كان يدرس في مدرسة كولدج حيث كانت قاعدة المدرسة أن اللغة الإنجليزية لغة المدرسة ومن يتحدث بغيرها يتعرض للعقاب، وكما هي عادة إدوارد المتمرد يكسر هذه القاعدة ويتحدث بجسارة وتمرد باللغة العربية لتصبح لغة التمرد وفي الوقت نفسه هي لغة مجرّمة، وهكذا استطاع سعيد بحيلة بسيطة أن يعلن حضور هويته العربية، وجوده الإنساني عبر استخدام اللغة المحرمة في فضاء المدرسة مزعزعًا بذلك فضاء الأسياد والأساتذة، واندفع يستخدم اللغة العربية حين يجاوب على سؤال أكاديمي، فكان تلك ردة الفعل التي اختارها ليتعامل مع المستعمر.
يختتم سيرته الذاتية بحديثه عن عجزه عن النوم؛ بسبب مرضه إذ كان يرى في النوم مهمة يجب الانتهاء منها فضلًا عن كونه يرى أن النوم معادل للموت «مثله مثل أي تقليص للوعي»، أراد إدوارد أن يكتب سيرته وهو في لحظة يقظة واعية.
هذه المرة الثانية التي أقرأ فيها لإدوارد سعيد، وأذهلتني ذاكرته الحديدية وقدرته على استحضار مواقف من طفولته وشبابه، فهو يستحضر الأحداث والأشخاص والروائح والأماكن وكأنها حاضرة في الزمن الآني، ويعالج مواقف مستدعاة من ذاكرة الطفولة ليعيد معالجتها في ظل معطيات جديدة، وهذه عادة الناقد حين يفحص تاريخه ليفهم حاضره، فحص إدوارد حياته تحت مجهر النقد، فقدم صورة إنسانية من صور تشريح الذات أمام الذات متحررًا من كل قيد اجتماعي أو سلطة سياسية أو هيمنة ثقافية، ولعل ما أثار دهشتي واستغرابي في آن واحد أن مفكر بقوة وهيمنة إدوارد سعيد كان يعاني قلة الثقة بالنفس، والخجل، والكبت الجنسي، وتعرض للضرب المبرح على يد والده وهو طالب في الدراسات العليا في جامعة هارفارد ما ولد لديه مزيج متناقض من المشاعر الإنسانية تنازعت بين الحزن والحب فهذا التضارب العاطفي جعل إدوارد يرزح تحت وطأة خوف مستمر على ذنوب لم يرتكبها، وسيئات لم يقترفها ومثل هذا التضارب جزءًا من طبيعة علاقته بوالده المحكومة بعدد من القيود الاجتماعية السلطوية الأبوية.
ومن خلال مراجعة هذا الكتاب (مذكرات خارج المكان) وجدت أنه رحلة العودة إلى الينابيع الأولى التي شكلت إدوارد سعيد المفكر المناضل، ولعل ما يمكن أن يستخلصه القارئ من سيرته الذاتية، غلبة الطابع الإنساني واستفاضته في عرض تفاصيل التفاصيل العائلية، لذا كانت سيرته أقرب إلى المكاشفة الذاتية، وتعرية التاريخ الذي عاصره، فقد تحدث بصراحة مطلقة، دون خوف أو تردد عن العلاقة المربكة بينه وبين والديه، وقلقه المكاني، ورغبته في العودة إلى الوطن، والكتابة في المنفى، والتنازع بين الشوق والحنين وبين الانتماء واللانتماء، استطاع إدوارد إذابة الحدود الزمانية والمكانية بين الماضي والحاضر؛ ليشكل بذلك سيرة ذاتية زمنها الآن، وهذه الثمرة التي يقطفها القارئ من قراءة سيرته أنه يعيش معها الآن في زمن الحاضر.
عاش إدوارد حياته على سفر وهذا ما أشار إليه عندما تحدث عن توضيبه لحقيبة يدوية محشوة بأغراضه، وعندما حلل ذلك أرجعه لخوف دفين داخله وهو الخوف من عدم العودة، ولازمه الخوف حتى آخر لحظة من حياته، ويبدو أن حقيبة إدوارد هي رمز الارتحال، وأذان الرحيل، وهكذا رحل إدوارد تاركًا حقيبته بلا عودة.
ويبقى السؤال المفتوح ما المكان الذي كان يبحث عنه إدوارد؟ هل كان يعي سعيد أن مكانه اللامكان؟!
*باحثة دكتوراه في الأدب والنقد بجامعة الملك عبدالعزيز، ماجستير الأدب والنقد من جامعة أم القرى، مهتمة بالفلسفة الظاهراتية.
Comments