.أ.د. ريم بنت فاروق الصبان*
جدة- المملكة العربية السعودية
ربما يخطر في ذهننا عند ذكر الشتاء الرياح الباردة والليالي الطويلة والالتفاف نحو مصادر التدفئة والسمر مع الأحبة. هذه العناصر وغيرها تشكل الصورة الذهنية لهذا الفصل العابر الذي يأتي بعده الربيع الجميل. ولا يغيب عن الذهن أنّ الإنسان منذ القدم قد اهتم بتوفير مستلزمات ضرورية للتعايش مع البيئة المحيطة به، تلك البيئة التي تزودنا بكل دعم ممكن للتغلب على القسوة التي نضطر للتعايش معها من أجل استمرار الحياة؛ كالأم التي تحرم أطفالها من اللعب حتى يستطيعوا المضي في حياتهم بجدية وأمان. كانت ليالي الشتاء الهادئة كافية لإلهام العديد من المبدعين في كتاباتهم وأشعارهم وفنونهم المختلفة. فنجدهم وقد انكبوا على أعمالهم بجدية مستغلين ظروف الشتاء القاسية التي كانت تحيط ببعضهم لخروج أعمال تلامس المشاعر وتخدم الإنسانية، إن الإنسان المبدع له القدرة على تطويع البيئة المحيطة وتسخيرها له حيث نجد أنه قد هيأ المكان المناسب كصومعة الناسك؛ إذ يجعل الظلام من حوله فرصة لإنارة قلبه وروحه للخروج بأعمال إبداعية تضيء العالم من حوله. لقد استطاع الفنان تنظيم البيئة من حوله لرفع هذا التركيز ومستوى الراحة الحرارية عن طريق تعزيز الحواس الخمسة التي تساعده على التركيز في عمله، فنجده وقد استخدم وسائل التدفئة المناسبة من مدفأة تبث الحرارة لتدفئة جسده ووسائد طرية وأغطية متنوعة، كما استعان بإضاءة الشموع والفوانيس التي تضفي حالةً من الشاعرية وتساعده على التعمق في روحه وعقله وأفكاره بمعزل عن العالم الخارجي المضطرب، حتى إن رائحة وصوت احتراق الحطب أو الشموع أو حتى رائحة القهوة بالزنجبيل أو شراب القرفة أو الكاكاو، نجدها كلها قد ارتبطت بذهنه ولعبت في ذكرياته وتغلغلت في عقله الباطنى؛ لتفتح له أبوابها بسلام وبلا قيود، ولتجذبه نحو عالم آخر ثري مليء بالإبداع والإلهام، فنجده وقد استرسل في عمله ليلًا دون مشتتات النهار المزعجة..
إن فصل الشتاء كان أرضًا خصبة للمبدعين في مجال الكتابة، فنجد على سبيل المثال وليام شكسبير حيث لعب الشتاء دورًا مهمًا في العديد من أعماله، بما في ذلك "حكاية الشتاء" و "حلم ليلة منتصف الصيف"، وكذلك إيميلي ديكنسون التي كانت قصائدها في الغالب تستكشف جمال الشتاء وكآبته، مثل "صقيع يناير" و "طائر نزل في المشي".
يقودنا النظر إلى البيئات التي ارتبطت بالمبدعين خلال فترة الشتاء إلى التعمق في "غرف المبدعين في الشتاء". تبدو هذه العبارة وكأنها تشير إلى مكان مريح ودافئ للقراءة والكتابة خلال فصل الشتاء. ربما غرفة الكتب أو المكتبة أو حتى السرير حيث تكون مكانًا مثاليًا للاستمتاع بالقراءة في الأيام الباردة. ويمكن أن تكون هذه الغرفة مجهزة بأثاث مريح، وإضاءة جيدة، ورفوف تحتوي على مجموعة من الكتب المثيرة، التي طالما تمنينا خلال العام التفرغ لقراءتها. ويمكن لغرفة الكتب أن تصبح ملاذًا هادئًا تدعو الأشخاص للاستمتاع بالقراءة بجو من الدفء والراحة، وقد تكون هذه الغرفة مجهزة ببطانيات دافئة ومشروب ساخن مثل الشاي أو القهوة لإضفاء جو من الراحة أثناء استكشاف الصفحات.
وإذا كنت تبحث عن إلهام لإنشاء غرفة مثالية لموسم الشتاء، يمكنك التفكير في استخدام ألوان دافئة، وإضافة سجاد ناعم من الخامات الطبيعية الدافئة، مثل الصوف أو وبر الحيوانات، مع توزيع بعض الديكورات المريحة، مثل: الوسائد والشموع التي تمنح جوًا دافئًا ومريحًا.
وبالنظر إلى الغرف الشتوية في المنازل التقليدية العربية نجدها وقد صممت بطريقة أقرب إلى حاجات الإنسان. هذه الطريقة الذكية التي صنعها الإنسان في تلك الأزمنة التي تكون أقرب لطبيعته البشرية وأكثر إنصاتًا لصوته واحتياجاته الداخلية والخارجية، تبدأ باختيار المساحات الداخلية المناسبة وغرف المنزل المواجهة لأشعة الشمس، وفي بعض المناطق يختار الناس تقليل الفتحات الخارجية من النوافذ وتصغيرها، وتغطيتها بأبواب خشبية حتى يضمنوا عدم تسرب الرياح الباردة في غرف المنزل. حتى الألوان التي تُختار للغرفة تكون درجاتها حارة، مثل: الأصفر و الأحمر بدرجاته المختلفة مع إضفاء نقوش ترمز للشمس والطبيعة في ظل افتقاد رؤيتها خلال هذا الفصل. كما نجد في تصميم الجلسات اختيار الأنواع التي تسهل التجمع الاجتماعي أو الاستلقاء، حيث إنّ الأجواء الباردة تلعب دورًا إيحائيًا بالكسل والتمدد فيرضخ الإنسان لهذا النداء الطبيعي، نجد أيضًا أن هذه الجلسات قد زودت بخداديات متنوعة، منها ما يكون للاتكاء عليه أو للراحة، ومنها ما يكون للنوم والاستلقاء، وقد تتفاوت درجة هذه الخداديات ما بين الطري والقاسي، ويختار لها الخامات الدافئة، مثل: القطيفة والصوف. وتستعين كثير من المناطق بجلود المواشي في تغطية أجزاء من الأرضيات أو من شعر الصوف المغزل؛ ليمنح الشعور بالدفء عند المشي عليه، كما يُخصص ركن لموقد النار يلتف حوله الأفراد ويستمعون للقصص والروايات بلا أي شعور بالملل، فتلاعب مخيلتهم قصص الأسلاف وتجارب الناس حتى يغشاهم النعاس.
ربما تعد هذه الأجواء أحد المحفزات التي نحتاجها للبقاء في الداخل والكتابة، حيث تمنحنا ليالي الشتاء الطويلة المزيد من الوقت لنقضيه في المذاكرة والكتابة والنقر على لوحات المفاتيح. يمنحنا هذا الموسم أيضا مزيدًا من الوقت لنقضيه مع أحبائنا - الذين غالبًا ما يكونون مصدر إلهام للكتابة الرائعة، ويترك لنا أيضًا مساحة للتأمل في العالم وفي أنفسنا وكتاباتنا. وهذه فرصة للتأمل الصامت والهادئ يجب أن يغتنمها المبدعون جميعهم بحماس شديد.
وفي بعض الأحيان يحتاج الدماغ الإبداعي إلى هزة، إذا كانت العملية الإبداعية متوقفة، ولذلك أنصح باختيار هواية ممتعة يمكن ممارستها في الطقس البارد، مثل: الرسم أو الحياكة أو الكروشيه أو خياطة اللحف أو النجارة أو الرسم أو النحت، أو تجميع النماذج أو الألغاز معًا، أو العزف على آلة موسيقية. كل هذا يبدو ممتعًا. اترك عملك اليومي لبضعة أيام وجرب شيئًا آخر، ثم عد له وقد ولدت من جديد بروح متجددة ومبدعة.
وربما تكون هذه الأجواء الهادئة سببًا للسبات الشتوي للمبدع، ولذلك هناك بعض النصائح التي أود تقديمها لاستغلال هذا الفصل وجعله فرصة للإبداع منها:
أولًا: الكتابة والعمل في وقت محدد. بعض الكتّاب يحددون ساعات محددة في اليوم للكتابة، سواء في الصباح الباكر أو في الليل.
ثانيًا: العزلة. يُفضل بعض الكتّاب العمل في الصباح الباكر أو في أماكن هادئة خالية من المشتتات لزيادة التركيز.
ثالثًا: القراءة المنتظمة. تعدّ القراءة جزءًا أساسيًا من روتين بعض الكتّاب، حيث يستفيدون منها لزيادة إلهامهم وتطوير مهاراتهم.
رابعًا: المشي أو التأمل. بعض الكتّاب يعتمدون على المشي أو التأمل بوصفه وسيلة لتنشيط الأفكار وتحفيز الإبداع.
خامسًا: احتساء القهوة أو الشاي. يعدّ تناول فنجان من القهوة أو الشاي أثناء الكتابة طقسًا شائعًا بين العديد من الكتّاب.
ووفقًا لمقال نُشر عام 2011 في مجلة Scientific American ، يمكن للنباتات المنزلية أيضًا تحسين طريقة التفكير والمساعدة على تعزيز قدرتنا على الانتباه خاصة إذا كان الشخص يجلس أمام الشاشات كثيرًا. فقد تكون لمسة من الطبيعة بمنزلة راحة مرحب بها تعمل على تحسين حالتنا المزاجية.
ابحث أيها المبدع عن بعض الزهور الملونة، وأضف البهجة على مساحتك. إن تصميم الفراغات داخل المسكن وتهيئتها لهذا الفصل يجعلنا ننظر له بنظرة مختلفة ونتعامل معه بوصفه فرصة جديدة للخروج منه ونحن أكثر إبداعًا بإذن الله.
*اكاديمية سعودية ومصممة داخلية وكاتبة -قامت بالاتصال العلمي لجامعة الفنون بلندن لمدة سنتين - لديها عضوية لجان علمية دولية مهتمة بالفنون والعمارة والتراث وتقنيات التعليم والعديد من الابحاث المنشورة باللغتين العربية والانجليزية في مجال العمارة والإسكان والبيوفيلك بالاضافة الى مشاركات بمؤتمرات وملتقيات داخل وخارج المملكة .
Comments