top of page
سياق

صدى: تأملات في رواية (ما وراء الشتاء)



د. منال بنت صالح المحيميد

أستاذ الأدب والنقد المشارك -كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية- جامعة الأميرة نورة، باحثة في مجال النقد الأدبي.

 

    روح الكاتب شفافة تؤثر فيها عوامل الحياة، تتخللها الشمس وتزهر حدائق الياسمين التي يفوح منها عطر الكلمات في فكره، وربما تطير حروفه بخفة ورشاقة الصيف، أو تتجمد أطرافه مرات ببرد الشتاء فما أن نقرأهُ إلا ونتأثر بصقيع أوصافه، فنتلمس أي غطاء من حولنا نلتف به من رياح كلماته الباردة، فأدب الشتاء يصف الأديب فيه الطقس ببراعة فننزوي حول المدفأة ونشرب الحليب الدافئ بالزنجبيل. هكذا تحس حين تفتح صفحات رواية شتوية تسمع صوت الرعد وهدير الموج من إعصار وعاصفة ثلجية ترتعد فرائصك منها لا شعوريًا، أو مطر غزير يوقظ سريان قراءتك فتنظر إلى نافذتك هل هي مغلقة، فتبتسم بأنك دخلت إلى أعماق المقروء الذي تلبستك هالته الشعورية. إن هذا الموضوع جدير بالتأمل، فمزاجية الأديب التابعة للطقس يفيدنا فيها علم النفس البيئي الذي يكشف مدى تأثر الإنسان بالمناخ من الناحية النفسية والمزاجية والاجتماعية مما ينعكس بدوره على السلوك الإنساني اليومي، فعلماء النفس اجتهدوا في تقديم الفهم النظري والتجريبي للسلوك البشري ساعد ذلك على فهم التأثير والتأثر معًا بين الطقس والحياة، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، بل ينسحب ذلك على الفن والثقافة والأدب، وهذه إلماعة لمن يرغب بالبحث حول الموضوع. 

      وبما أننا نعيش فصل الشتاء الذي له طقوسه الخاصة منها انتخابنا لكتب دافئة عميقة نغوص معها في لذة القراءة المطولة التي تناسب ليل الشتاء، فقد وقع الاختيار على رواية "ما وراء الشتاء" للكاتبة "إيزابيل الليندي" بترجمة صالح علماني -رحمه الله- من دار الآداب (2017). حين انتهيت من قراءتها استوقفتني دقة وصف الثلج وشدة البرد، حتى تسللت البرودة إلى أصابعي فارتعشتُ ومددت يديّ إلى المدفأة، فكنت حين أقلب صفحات الرواية يلفحني الهواء البارد، إذ افتتحت الرواية بــ: "كان الشتاء لا يزال قيد الانتظار... استيقظت الطبيعة فجأة نافضة عنها السبات الخريفي… وانهالت بأسوأ عاصفة ثلجية عرفتها الذاكرة الجمعية، هنالك جُحر صغير من أسمنت وآجرّ في قبو... تراكمت عند مدخله تلَّة من الثلج حيث كانت لوثيا ماراث تلعن البرد". وفي موضع آخر: "وسط عاصفة ثلجيّة، تنطلق امرأتان ورجل في رحلة من بروكلين إلى بحيرة خارج المدينة" إنها رحلةٌ تغيِّر مصائرَ أبطالها إلى الأبد، هكذا تسير بك الرواية في سلسلة من موجات البرد القارس.

        لقد أجادت الروائية إيصال شعورها للقارئ، إذ ضمنت الرواية أحداثًا مرعبة وأوصافًا لأفعال لا إنسانية، إن تلك الرواية مطبوعة بحياة الكاتبة التي نجت من الانقلاب التشيلي في عام 1973، وفقدت ابنتها البالغة من العمر ثمانية وعشرين عامًا، كتبت في نهاية روايتها شكر تقول فيه: "وُلدت فكرة هذه الرواية يوم عيد الميلاد في بيت من آجر قاتم في بروكلين، حيث التقينا كجماعة صغيرة لتناول فنجان القهوة الصباحي... سألني أحدهم عمّا سأكتبه في الثامن من كانون الثاني/ يناير الآخذ في الاقتراب وهو اليوم الذي بدأت فيه كتابة جميع كتبي على امتداد خمسة وثلاثين عامًا، ولأنني لم أكن قد فكرت في أيّ شيء بدأوا بإلقاء أفكارهم، وهكذا راح يتشكل هيكل هذا الكتاب"، إنه اعتراف صريح منها بأن المكتوب هو جزء من حياتها ومن حولها وهذا ما سنراه في أجزاء مقالنا هذا. 

   تمحورت الرواية حول ألم الهجرة، وتميزت في خطابها بالوقفات السردية المليئة بالانفعالات والعاطفة التي شغلت صفحات الرواية، ومن المنظور الحكائي فالأحداث تمركزت حول لقاء غرباء جمعتهم لوعة الهجرة، واجتمعت عليهم قسوة الغربة والفقر وبرد الشتاء؛ ثلاثُ شخصيات رئيسة جاء بها القدر؛ لينفث كل واحد منهم عما في صدره للآخر من همّ ووجع الحياة والهجرة القاسية ومشاعر الحزن وَالكآبة. جميعهم وفدوا إلى أمريكا من عدة بلدان، بداخلهم ندوب عميقة من الألم. لقد اشتغلت الليندي في عملها الروائي على الكشف عن قضية في غاية الأهمية خاصة وأنها خضعت لها فنثرت أوجاعها على صفحات الرواية بطريقة أدبية.

   إن المتأمل لهذا العمل تستوقفه قصة "إيفيلن" المهاجرة من تشيلي، إنها بطلة ترتدي السيرة الضمنية للروائية التي هاجرت من البلد نفسه، وناضلت فيها بالنداء عن حقوق الإنسان عبر الوظيفة الكتابية الأدبية عندما أوغلت في الوصف لحياة الأطفال البائسة والفقر الذي يلفهم مع أسرهم، فتراهم يهجرون المدارس إما للعمل وإما للإجرام والانضمام للعصابات إلى جانب ترهيب للأسر، والاعتداءات على النساء، وبؤس يحيط بالبلد مما حدّا بأغلبهم إلى الهجرة، شرعية كانت أم غير ذلك، فالمهم هو الخلاص من العيش في تلك البقعة.  فــ"إيفلين" هاجرت غواتيمالا بطريقة غير شرعية بسبب ظروف مروعة أصابتها بخرس وفقدت قدرتها على الكلام، ولا زال الحظ العاثر يصاحبها حتى بعد الهجرة، لكنها استعادت نطقها شيئًا فشيئًا.

    أما الشخصية الأخرى، فهي لوسيا أستاذة جامعية من أصول تشيلية تبلغ من العمر الستين هاجرت إلى كندا ثم انتقلت إلى أمريكا حاملة معها ألم الطلاق وظروفها القاهرة في المعيشة، وثالث شخصيات العمل الروائي: ريتشارد هو بمثل عمر لوسيا، باحث أكاديمي اختار العيشة الكئيبة وانطوى على نفسه بعد تجربة زواج مأساوية. قامت الرواية أوتادها الحكائية عليهم، كاشفة عن قضايا سياسية واقتصادية وفكرية ومجتمعية بصورة عميقة. 

    أما الخطاب الروائي فإنه قائم على استرجاع أحداث الماضي لكلٍ من الشخصيات، فالتقنيات السردية التي ركزت عليها تسهم في إبطاء الزمن وتعطيله مرات، فالتدفق السردي للرواية يتوقف كثيرًا؛ لأجل التعريف بشخصيات الرواية والوقوف عندها، وهو الذي أخذ حيزًا  تجاوز عدة صفحات، ثم تعود تراتبية السرد من جديد فينقطع ثم يستمر وهكذا جاءت الحركة السردية في الرواية، أما الأوصاف فلم تتوغل فيها بالماديات حدّ الملل، بل جاء الوصف بما يشبع فضول القارئ مركزة في الألم الشعوري الإنساني للمهاجر الذي يلفه صقيع المشاعر وبرودة الطقس شتاء وهو الجانب الذي نال الحظ الأوفر في  الرواية.    إن رواية "ما وراء الشتاء" أبانت لنا لوعة الهجرة وشتاتها النفسي والأسري، ثم عودة الحب، كما أنها تسللت بنا إلى عمق القضايا الإنسانية التي منها الاتجار بالبشر وغير ذلك، إضافة إلى أن القارئ يشعر أنه يشاهد شريطًا سينمائيًا حول لغز الجريمة التي لفها الغموض، أما الجثة فقد جمعت إليها شخصيات الرواية وغدت نقطة الانطلاق الحكائي لهم، حيث تفرعت منها حكايات أخرى أضفت عليها حركية الأحداث، وهي حركة تشد القارئ إلى الاستمرار في القراءة حتى إتمام العمل الأدبي، إنها سردية تخيلية جمعت إليها حقائق تاريخية واقتصادية ومعرفية للدول التي هربت منها شخصيات الرواية. بحق هي رواية جديرة بالقراءة والتأمل؛ لأنك سترى فيها عالمًا آخر لم تقرأه من قبل. أما الشتاء، فجاء ليغلف الأحداث برداء من الوحشة وقسوة الطبيعة التي أضيفت إلى قسوة ظروف المهاجرين، ليعزز إحساس القراء بوضع الشخصيات وأوضاعها، طيف من المعنى تضيفه الطبيعة إلى الحكاية. 


١٠٨ مشاهدات

أحدث منشورات

Comments


bottom of page