top of page
سياق

سلالم: الأدب: ترياق لليلة شاتية

ترفاطمة

فاطمة الشمري

خريجة قسم اللغة العربية جامعة الملك سعود




"هُبِّي يا رياح الشتاء" لوحة للرسام الفرنسي ميليه 




 

استلهم الرسام ميليه لوحته من قصيدة للأديب الإنجليزي ويليام شكسبير، وقد اجعل مطلع القصيدة عنوانًا للوحته، حيث يفتتح شكسبير القصيدة بقوله:

هُبِّي هُبِّي يا رياح الشتاء 

أنتِ لستِ بالغة القسوة 

مثل جحود الإنسان 

وعضتك ليست حادة    

فأنتِ لستِ بادية للعيان


يرتبط الأديب بما حوله من أوقات وأمكنة وفصول، كل هذه المؤثرات تشكل مزاجه وتجدد أفكاره وقد تطلق إبداعه أو تحده أحيانًا، وكذلك الأمر عند القارئ؛ ثمة أوقات تساعده وتفتح شهيته للكتابة والقراءة والإبداع، وتذكره أن الحياة تستحق. فإذا راجعنا صفحات الأدب وجدنا مثلًا رمزية الليل والنهار، والربيع والخريف حاضرة في القصائد والروايات والقصص، وما نركز عليه في هذه المقالة هو حضور الشتاء في الأدب.

بين الأدب والشتاء علاقة واضحة، وقد ظهر الشتاء في عالم الأدب بوصفه مؤثرًا مهمًا، سواءً أكان ذلك بصورة مباشرة أم غير مباشرة، ومن صور حضوره غير المباشر هو أن يكون دافعًا ومساعدًا للكتابة عند الكتّاب، فالليل الطويل واتساع الوقت وتلمس الدفء في الجلوس أمام المدفأة والخلوة تعزز أفكار الكاتب وتأملاته، وقد يحدث العكس  حيث إن الشتاء في بعض المناطق يكون طويلًا وشديدًا، فالشتاء هو العدو اللدود للأدباء الروس الذين تطول عندهم أوقات الشتاء وتمتد ليالي الصقيع، إذ يصيب بعضهم بالسأم والرتابة، يقول نيقولاي غوغول: "في هذا الشتاء، أمضي وقتًا بلا معنى في موسكو، لا أستطيع أن أكتب شيئًا، ولا أملك حتى القدرة على ذلك، ولا أعرف إلى أين يأخذني الثلج والشتاء، لطالما تملّكني الخوف"، ويتفق معه ألكسندر بوشكين: "عندنا ضجر وصقيع، أنا أتجمّد تحت سماء منتصف النهار."

أما بالنسبة للقارئ فتُعدّ ليالي الشتاء فرصة مثالية للقراءات المؤجلة، وهي الأنسب لقراءة الكتب الطويلة، وقد اشتهرت رواية الإخوة كارامازوف عند القراء الأوربيين بأنها رفيقة ليالي الشتاء الطويلة، كما شاع بين هؤلاء القراء طقس أدب  المدفأة، إذ يخصص الأوربيون وسكان الدول التي يتساقط فيها الثلج بكثافة في هذا الوقت من السنة لقراءة الأدب والأعمال الطويلة ويسمى بأدب المدفأة؛ لبقائهم أغلب الوقت أمام المدفأة لارتفاع مستوى الثلوج وانخفاض درجات الحرارة وعدم قدرتهم على الخروج. 

"ونجد أن التاريخ الأدبي الأوروبي، لا سيما الفرنسي، يحكي لنا عن أهم الاستعدادات التي تقوم بها النخبة المثقفة  لهذا الفصل؛ حيث ينشغلون -إضافة إلى مسألة توفير الحطب والمؤونة اللازمين- بتكديس الروايات الممتعة والطويلة، التي ستملأ ليالي شتائهم المديدة. (فَصْلُ المَقَالِ فِيمَا بَيْن الأَدَب والشِّتاء مِن اتِّصَال - نبيل موميد).


وعند النظر إلى الأعمال الكلاسيكية التي اتخذت من الشتاء ثيمة لها، نلاحظ حضور الشتاء  بصورة مباشرة ومؤثرة في أحداث القصص والروايات؛ محركًا للأحداث أو  بصورة  تتظافر مع الشخصيات لتكسبها طابعًا معينًا، ففي رواية حياة كاملة، للكاتب الألماني روبرت زيتالر نجد أندرياس إيجر بطل الرواية يمضي حياته يتيمًا ومنعزلًا بإحدى قرى الألب، يقضي حياةً كاملة بهدوء وبساطة، يعمل بلا ملل، هي من تلك الأعمال التي تحتفي بالرتابة والعادية والخلو من الأحداث الكبيرة، لا شيء جديد أو مثير، مجرد أحداث صغيرة متتابعة تشكل حياة كاملة، وقد تركت الأجواء الثلجية بصمتها في الرواية، وكأن هدوء الأحداث وتسلسلها ينقل للقارئ بدقة شعور هدوء ليلة شتوية تمضي ببطء. 

ومن أشهر الأعمال المرتبطة بالشتاء قصة بائعة الكبريت، للشاعر والمؤلف الدنماركي هانس كريستيان أندرسن (نُشِرت عام 1848)، وتدور أحداثها حول طفلة تواجه الفقر والبؤس والبرد فتخرج حافية القدمين في المساء الأخير من ديسمبر؛ لتبيع أعواد الكبريت للناس العابرين، يصف الكاتب المشهد: "كان هو المساء الأخير لهذا العام، ليلة رأس السنة حيث كان الجو قارس البرودة وقد أثلجت الدنيا، وبدأ الظلام يهبط، راحت فتاة صغيرة فقيرة تسير في الشارع في هذا البرد وهذه الظُلمة برأس حاسر وقدمين حافيتين." تمشي الفتاة بقدميها العاريتين المزرقتين من شدة البرد حاملة أعواد الكبريت على أمل أن تبيعها لكن لا أحد يأبه بها، وكأنها في ركن منسي قصي، تتعالى ضحكات العوائل وهي تحتفل بليلة عيد رأس السنة، وينعم الجميع بدفء المكان والمأكولات وصحبة العائلة والأصدقاء، بينما هي تسير بالشوارع الخالية وحيدة جائعة بأقدام حافية مُحمرَّة، تجلس أخيرًا في إحدى الزوايا متكورة على نفسها إذ أشعلت بعض أعواد الكبريت، سحبت ساقيها الصغيرتين تحت جسدها وجلست  تلتمس الدفء وتراقب الناس خلف الأبواب بحزن مزج بأمل، لكنها تموت أخيرًا من قسوة البرد وحيدة حزينة، وتنطفئ أحلامها للأبد كأعواد الثقاب التي في يدها.


"انطفأ العود و صار رماد 

لكن البرد سريعًا عاد

لا أقسى من ريح تعصف

لا أصعب من ثلج يندف

كانت طفلة والعود طري 

والعلبة لم يبق بها شيء

هدأ الصوت وساد الصمت 

وغفت بائعة الكبريت" 

لم تكن مجرد غفوة تعب، بل كانت غفوة أبدية غادرت بها صخب العالم "عند الصباح البارد وفي الزاوية بين البيتين كانت الفتاة الصغيرة بوجنتين حمراوين وابتسامة مرسومة على الفم، كانت ميتة، ماتت متجمدة من البرد في الليلة الفائتة من العام الماضي".

لقد كان للشتاء قدرة عالية على إبراز تفاصيل قسوة الحياة ومأساة الفقراء ونقل معاناتهم؛ فالرياح الباردة، والثلوج الكثيفة، والطرقات الخالية المظلمة كلها اجتمعت لتشكل صورة البؤس وسوء الحال، كما صورت القصة الفروقات الجلية بين مجتمع الفقراء والأغنياء مقدمة مشهدين لهذا التفاوت؛ فنرى مشهد اجتماع العائلة ووحدة الفتاة، وانتشار رائحة الطعام الشهي من النوافذ وتضور الفتاة جوعًا، والبيوت المملوءة بدفء النار والحطب في مقابل أعواد الكبريت، ليست مجرد فروقات صورية بل هي فروقات عميقة ممزوجة بلامبالاة وأنانية البشر، فلم يخرج أحد من تلك العوائل ليعطف عليها أو يشتري منها أو يقدم لها الطعام الذي يفيض عن الحاجة، لم تمت بائعة الكبريت من قسوة البرد فقط بل ماتت من قسوة العالم وقلة اكتراثه. 

 هكذا يحضر الشتاء في العديد من القصص والروايات؛ ليصور فساد المجتمع وطبقاته ومعاناة الفقراء وصراعهم ضد التهميش والإقصاء والسياسات الظالمة، وذلك ما حدث مع بطل رواية المعطف لنيقولاي غوغول، تدور القصة في مدينة بطرسبرغ إذ يدخل شتاؤها البارد جدًا فيلاحظ  بطل الرواية أكاكي أكاكيفتش أن معطفه صار قديمًا ولا يمكن خياطته وترقيعه، فيخطط لتقليل مصروفاته ويعمل جاهدًا لكسب المال لشراء معطف جديد يقيه الصقيع ويخفي فقره وحالته وازدراء الآخرين له. 

تصور الرواية شعور البطل بعد حصوله على المعطف "لم تكن ثانية تمر دون أن يشعر بأن معطفه الجديد على كتفيه، كان يبتسم عدة مرات لشعوره بالسرور، ويجعله يشعر بأحسن حال". 

بعد حصوله على المعطف يسرق منه فيمرض ويموت دون أن يأبه به أحد، ثم تظل روحه معلقة تسرق معاطف الناس حتى يلقى معطفه فتختفي.

"وهكذا زال واختفى إلى الأبد إنسان لم يفكر أحد من الخلق في حمايته، ولم يكن عزيزًا على أحد، ولم يكن أحد يهتم بأمره لا من قريب ولا من بعيد، ولا حتى عالم التاريخ الطبيعي الذي لم يكن ليقاوم غرز دبوس في جناح ذبابة وفحصها تحت مجهره."

قصة مليئة بالرمزيات والتأملات، وقد نفهم معنى قول دوستويفسكي:

"كُلنا خرجنا من معطَف غوغل" استخدم غوغل الشتاء؛ ليطلعنا على وضع الإنسان المقهور الذي يزاحم الآخرين ويعيش معهم لكنه غير مرئي بالنسبة لهم، إنسان معدم يعيش بين مطرقة الفقر وسندان الظلم والقهر. 

ما  المعطف يا ترى؟ هل هو مجرد رمز يُجسد الحلم البسيط الذي يركض خلفه شخص ما لأنه يعني له الشيء الكثير، أو حق مسروق وأمل ضائع في عالم لا يعنيه الهامش، أو صوت يسمع الآخرين فلا يصغون له. 

قد تظهر الأوقات الصعبة أنبل ما في الناس أو العكس، وقد أظهرت الرواية الشتاء كوقت صعب أظهر معادن البشر وقسوة الناس وسوء الأنظمة "كانت تراوده فكرة كيف يمكن للناس أن يكونوا بهذه الوحشية، وكيف تخفي التصرفات المهذبة والتربية الحسنة هذه الفظاظة والشدة؟".

أحدث منشورات

Comentários


bottom of page