أدب الأحلام وأحلام الأدب
المؤلف: إبراهيم أزوغ
منشورات القلم المغربي
250 ص
مراجعة: أ. شكيب أريج*
يُعدّ هذا الكتاب دراسة تاريخية نقدية تسلط الضوء على تطور التصورات الغيبية، والفلسفية، والمعرفية للحلم وتعريفه وتحديد أقسامه وقواعد تعبيره وتأويله. فقد كانت الأحلام وسيلة الإنسان لتفسير الظواهر الإنسانية والطبيعية، وشكلت وحيًا وإلهامًا مناميًا، ودليلًا على وجود عالمين: عالم ظاهر موجود، وآخر غائب له وجود ذهني ونفسي.
يقدم الكتاب مسحًا شاملًا للمدونة الحلمية في المؤلفات العربية قديمًا وحديثًا بين أحلام نفسية وأحلام أدبية، ونصوصًا قصيرة في إطار الكتب المقدسة وكتب التراجم والسير والتواريخ وكتب التعبير والسير الشعبية والحكايات العجيبة وفي القصص والروايات؛ مما يجعل من نص الحلم خطابًا ثقافيًا ومرآة تعكس صورة الحياة النفسية والاجتماعية لحالمها في تعددها وتحولاتها، مثلما يقدم تاريخ تعبيرها صورة لتطور علم التأويل والتحول الحاصل في العلوم من ربطها للظواهر الإنسانية بالغيب إلى ربطها بالإنسان وشروطه.
تناول الكتاب في فصله الأول التصورات الإنسانية الأولى للحلم وتجليات الاحتفال به في النصوص المقدسة بوصفه قناة لمخاطبة الأنبياء، واعتبارًا للمكانة المهمة للحلم في تلقي الرسالات وتبليغها، ولما له من أثر بالغ في نفس المتلقي، فالحلم هو الأقدر على مخاطبة الروح والوجدان. وسعى الكاتب في هذا المحور إلى تقريبنا من نماذج من الأحلام في العهدين القديم والجديد، وقد وردت في التوراة عشرات الأحلام صنفها المؤلف إلى أحلام مباشرة لا تحتاج تعبيرًا، وأحلام أخرى لا بد من العمل على تأويلها؛ لمعرفة ما ترمز إليه ألفاظها، وضمن هذا الصنف الأخير يخصص المؤلف عنوانين أساسيين:
- يوسف الحالم، وفيه يوردُ قصة يوسف التي تبتدئ بحلمه الذي رأى فيه الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا، وينم سياق القصة على أن يوسف نشأ في بيئة كنعانية، كان تعبير الحلم فيها ممارسة اجتماعية شائعة، بحيث لم يكن يشترط في المعبر أن يكون عارفًا مختصًا أو كاهنًا في معبد.
-يوسف المعبر: وهنا يُركز على حلم الفرعون الذي عجز المعبرون والكهنة والمنجمون وكل من لهم معرفة بالعلوم والعرافة والكهانة عن تعبيره. إن حلم الفرعون حول السنبلات والبقرات فيه تكرار يشير إلى يقينية الحدث وأهميته وقرب وقوعه، وفي مقابل إصرار الفرعون على معرفة دلالات حلمه استمر إنكار الكهنة والمنجمين الذين أجمعوا على كونه أضغاث أحلام لا معنى لها فجاء تعبير يوسف مقنعًا وموافقًا ومرضيًا لشعور فرعون.
وكما خصص الكتاب عنوانين ليوسف، فقد خصص أيضًا مثلهما لدانيال حكيم حكماء مملكة يهوذا لما تميزت به أحلامه ورؤاه من سمو إبداعي ورمزي وأسطوري، ولما تميز به تعبيره لحلم نبوخذ نصر من حكمة واختراق للحجب.
تحفل قصص الأنبياء بالمزيد من الأحلام والرؤى (حلم النمرود، حلم فرعون بميلاد النبي موسى..) وبالمجمل فهي تتقاطع وتتشابه من حيث الشكل والمضمون، بل إن صداها يتردد بوضوح في أساطير وملاحم في الحضارات القديمة، خاصة الحضارة البابلية ومثال ذلك ملحمة جلجامش، ويمكن القول حسب ما يخلص إليه المؤلف إبراهيم أزوغ إن توظيف النصوص الأسطورية لا يختلف كثيرًا سواء من حيث الشكل أو الدلالة عن التوظيف الديني إلا في كون هذا الأخير يميز بين الصادق والكاذب، بينما جاءت أحلام أسطورة جلجامش استشرافية لما سيقع في المستقبل.
وخصص الكتاب حيزًا مهمًا للتعرف على الحلم في الحضارة اليونانية، حيث عدَّ شكلًا أدبيًا ساميًا، وإلياذة هوميروس مثال للملاحم الأسطورية اليونانية التي حفلت بالحلم، أما فلاسفتهم فلم يكونوا بمنأى عن التفكير في الحلم والانشغال برمزيته، ويُعدّ كتاب "تعبير المنامات" لأرطاميدوس أقدم وأهم كتاب في تعبير الأحلام وتأويلها، وهو أول من وضع تمييزًا مفاهيميًا بين الحلم الرؤيا وبين الأضغاث، فجعل الحلم/ الرؤيا هو ما كان في النفس ودل على ما سيكون، والأضغاث هي ما كانت نتيجة رغبة البدن.
شكل هذا الرصيد التراثي والديني والأسطوري والرمزي الغني أساسًا متينًا اتكأت عليه الحضارة الغربية الحديثة، وجعل منه علم النفس الحديث مادة دسمة لتحليل السلوك الفردي والجماعي.
يواصل الكاتب في الفصل الثاني البحث في التصورات الإنسانية للحلم من خلال الوقوف على تصور الإنسان العربي له قبل الإسلام، حيث سادت معتقدات تُعلي من شأن الشياطين، وعرف لكل شاعر شيطان يملي عليه شعره في غيابات حمله، ولا شك أن البعثة وما تلاها قد استطاعت أن تحدث تغييرًا واضحًا في نظم القيم والتفكير. وتأكيدًا لهذه الخلاصة المركزة يقدم الفصل الثاني ثلاثة محاور حول تطور التفكير العربي في الحلم: يرتبط المحور الأول بالأحلام في الثقافة الإسلامية في القرآن وفي السيرة النبوية وفي الحديث النبوي، ويتعلق المحور الثاني بأدب الأحلام في الثقافة العربية وما قدمته مؤلفات علم التعبير وأشهرها كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين، ويتوقف المؤلف هنا عند أعلام هذا العلم: ابن قتيبة، الخليل ابن شاهين، عبد الغني النابلسي ويورد بتلخيص غير مخل أهم قواعد التعبير وعلوم المعبر وآدابه، وأهم ما ورد في مؤلفات الفلسفة العربية مع الفارابي والكندي وأبي حيان التوحيدي وابن مسكويه وابن سينا، وكذلك ما أورده أقطاب التصوف حول مكانة الأحلام لديهم: ابن عربي وابن قيم الجوزية وأبي يزيد البسطامي وفريد الدين العطار.. كل هذه المرجعيات أرخت بظلالها على أدب التراجم وأدب السير وأدب الحكي لنكون إزاء أحلام الأدب وهو متخيل متكامل توقف الكاتب عنده دون الإجابة عن إشكالياته النقدية؛ لأن الكتاب منذ عنوانه الفرعي لا يعد بأكثر من دراسة تاريخية نقدية.
وينتهي هذا الكتاب بفصليه المخصصين للبحث في مرجعيات رواية الحلم وتأويله إلى خلاصات يمكن إجمالها في الآتي: يمتلك الحلم وجودًا أوليًّا ذهنيًا (بالقوة)، ووجودًا ثانيًا حاصلًا عن الأول، ويمتاز هذا الوجود بكونه سرديًا (بناء لغويًا) حافلًا بالصور الفنية والرمزية، أما الخلاصة الثانية فتتمثل في أن هناك بونًا شاسعًا بين تعبير الأحلام قديمًا في الثقافة العربية، والتأويل النفسي الحديث في الثقافة الغربية. في حين تتمثل الخلاصة الأخيرة في أن النصوص الحلمية بصفتها فعلًا قابلًا للحكي والنقل من الغياب إلى الحضور تُشكلُ بلاغة سردية وعنصرًا فنيًا يتيح إمكانات لا نهائية لاستثماره في كتابة النص الأدبي.
وأخيرًا فأهمية الكتاب لا تتوقف عند صياغته لتصور موسع للحلم بوصفه خطابًا ثقافيًا بل تتجاوز ذلك للانفتاح على أسئلة راهنة من قبيل: ما الذي يحقق أدبية الحلم؟ وما مظاهرها النصية؟ ما وظائف الحلم؟ وما أبعاده الدلالية؟ ما الفرق بين آليات المعبر والمؤول وناقد الأدب؟ وهل يمكن اعتماد آليات المعبر والمؤول في قراءة النص الأدبي ومقاربته؟ وما وظيفة التأويل؟ وهل كل متلق للحلم قادر على تأويله؟
*كاتب ومثقف مغربي حاصل على الإجازة في الأدب العربي، وله العديد من المساهمات الصحفية والثقافية في المغرب، ومن أهم أعماله الأدبية: مدينة تأكل أولادها، كائنات قصصية. وهو أحد مؤسسي مبادرة الرواية المسافرة في المغرب.
Comments