top of page
  • سياق

المقال: دماغ الإبداع بين النوم واليقظة


د. هيثم أسامة طيب


يغدو سرد أمثلة لأدباء ارتبط لديهم النوم بمعنى الوَحي والإلهام أمرًا ملحوظًا في المدوَّنة الأدبية، إذ غذَّى النوم قرائحهم بصور أدبية، فجاء إدراكهم بحِكم وجودية، أو غمر حواسهم بصور لم تكن لتخطر في أذهانهم حال اليقظة. 

ويبرز السؤال هنا: هل بين النوم والإبداع يا ترى علاقة حقيقية وطيدة بالمعلوم عن طرائق الدماغ العصبية لكليهما؟ 

وفي محاولة للإجابة عن ذلك أقول: للنوم خمس مراحل، يتنقل المخ بالوعي خلالها، في الأولى يختلط الوسن بالوعي، ويضعف الانتباه فتتفلَّت أفكار المرء من قيادته، وأما في الثانية فيفقد الإنسان كامل يقظته فيغمره نوم سطحي، وفي الثالثة والرابعة يغرق الإنسان في النوم العميق، وأخيرًا تأتي الخامسة التي هي مرحلة حركة العين السريعة؛ مرحلة الأحلام، حين يشل المخ الجسم عمدًا ليجبره على مشاهدة أحلام هذا المساء. 

ما الذي يحدث في المخ أثناء النوم حقا؟ ولمَ ننام؟ لماذا يُجبَر المخلوق منّا على فَقْد وعيه كلّ ليلة حتى قيل إنّ النوم سلطان؟ للنوم دور رئيس في صيانة العقل والدماغ والجسد، فإذا أظلمت الدنيا، وتصاعدت احتمالية التعرّض لمخاطر العتمة، يقودك مخك قسريًّا إلى أن تُخبئ جسمك في كهف فراشك وتريح عقلك في جلباب نومك، فينهمك هذا العقل في صيانة نفسه وصيانتك في درس تعلم ليلي إجباري. أثناء مرحلة النوم الثانية، يراجع المخ ذكريات وخبرات اليوم الآنف، فيؤكد كتابتها بمداد خلاياه، ثم في مرحلتيه الثالثة والرابعة، يجوس في ذكرياته القديمة، يستعرضها ويراقب كيف تغيرت مع تراكم الخبرات الجديدة، ثم يأتي نوم حركة العين السريعة بُعيد ذلك؛ ليعرض مخك فيه على وعيك النائم ما يشاء من خليط الخبرات والخيالات. يقول بعضهم إن الأحلام أثر جانبي للنوم، وإنها للدماغ مثل البول -كرمتم- للكليتين، لكن جُلَّ الباحثين يرون الأحلام طريقًا ملَكيًّا نحو أصل الذات العميق اللاواعي، طريقًا غير محفوف بتنقيح الأنا العليا وكبح انتباه اليقظة، اسلكه وافهم إشاراته تصل إلى رغبات المرء الثمينة، ومخاوفه الدفينة، وأفكاره اللعينة. 

يقول الباحثون إنَّ الإبداع ينبع من المخّ حينما تتحرر بعض أجزائه من بعض. أظهرت بعض الأبحاث مثلًا أنّ اتصال فصيَّ المخ ببعضهما أضعف من المعتاد لدى المبدعين، وتُرجم ذلك بأنّ تركيبة أمخاخ المبدعين تعطي فصوصهم اليمنى الإبداعية حرية من فصوص أمخاخهم اليسرى المنطقية؛ فهل يا ترى للنوم تأثير يشبه ذلك؟ أليس النوم يخفض دفاعات عقل المرء و يحرره فيسرح ويمرح عمدًا وعشواء، فيقوده إلى حيث لا يمكنه أن يصل في حين اليقظة؟ هل يا ترى لهذا السبب سعى قيس لبنى ومجنون ليلى وغيرهما إلى النوم لعلمهم أنَّ أحلامهم ستُحقِّق لعقولهم اجتماعًا مع الحبيب كان قد منعه عنهم جبروت حكم وعي اليقظة؟ تأمَّل -عزيزي القارئ- قول المؤمّل المحاربي وهو يقول عن الحبيب: 

    أتاني الكرى ليلًا بشخص أحبه                 أضاءت له الآفاق والليل مظلم

    فكلمني في النوم غير مغاضب                       وعهدي به يقظان لا يتكلم

 واصفًا كيف تمكَّن من الحصول على صفح حبيبه صفحًا لم يكن ليتخيله في يقظته ولا ضير بتحقق المطلوب هكذا فإنما يقظات العين كالحلم.

في النوم -إذن- يتحرَّر المخُّ من بعض نفسه، فينبثق في الوعي ما ليس ممكنًا. والأمر لا يقتصر على الأحلام؛ فتقهقر إدراك اليقظة عند بدايات النوم اللذيذة فرصة أخرى يغتنمها الأدباء. هل يا ترى تكثر بين الأدباء هلاوس الولوج في النوم والخروج منه؟ هذه الهلاوس تحدث أكثر ما تحدث لدى من يصابون باضطراب النوم القسري الناتج عن نقص في ناقل الأوريكسين، ويشار إلى أنَّ نسبة الأدباء مِن بين هؤلاء  أكثر من المألوف، فهل العكس صحيح؟

هناك شبكة مخية تسمى شبكة المخِّ التلقائية، وهي مجموعة من المناطق المخيَّة، تنشط عندما لا ينهمك الإنسان في عمل يتطلب تركيزًا، فيترك لوعيه الحرية لاستقبال المدعو وغير المدعو من خبايا نفسه. وفي شبكة المخ التلقائية هذه تسكن مخاوف المرء ومكامن قلقه، ومنها تنبعث هذه المخاوف كلما تسنّى لها، ولا أمثَل لذلك من أن يستلقي المرء مستسلمًا لينتظر النوم. ما الذي يحدث للشبكة التلقائية لدى المبدعين؟ ما يبدو -لنا- هو أن نشاطها أعلى من المتوسط أثناء اليقظة؛ مما قد يعني أنّ المبدعين أكثر قربًا ممّا يعتمل في دواخلهم من معاناة وألم، وبالتالي فدواة أحدهم حُبلى بمداد أخصب أدبيًا. كيف لا؟ أليس معظم الأدب يتحدث عن التجارب الإنسانية العميقة أو الغامضة؟

لقد أظهرت الدراسات أنَّ هذه الشبكة التلقائية تخمد أثناء النوم؛ ممّا قد يعني أنّ نشاطها قبيل النوم ضروري لملء خزانة المبدع بوقود الإبداع، وخمودها أثناء النوم ضروري لإشعال ذلك الوقود بتحريره من قيود فكر اليقظة؛ لينتج في الوعي ألعابًا نارية من الرغبات والخيالات، والمحَّرمات من انتقامات، والمحظور من ارتباطات وتشبيهات. ثم تصحو أيها الأديب، وإياك أن تتفلتَ منك ذكرى ما مررت به، فهذه هي وساوس شياطين عبقر العرب. دوِّن فورًا، وادخُل فيما يسمَّى بالحالة الانسيابية، وفيها لا نشاط للشبكة التلقائية إطلاقًا. هذا هو الجانب التنفيذيّ من العمليَّة الإبداعيَّة، وهي مرحلة يقظة يغنِّي فيها المستيقظ أناشيد الشكر لملائكة النوم. وهكذا فرغم أنَّنا لم نسمع بعدُ عن قصيدة كتبت وصاحبها نائم تمامًا فيما أعلم، فإننا بالتأكيد سمعنا قصائد وقرأنا روايات لم تكن لتكتب لو لم ينم صاحبها، ثم يستيقظ ليجلب للواقع بعضًا من السِّحر الذي تخبِّئه قبضة وعيه اليقظ عن الكون.


أحدث منشورات

مقدّمة العدد ١٦: أيها الحالمون  

(يا صباح الخير، يا صباح الورد، يا صباح البطيخ)! كم مرة ترسل عزيزي القارئ تغريدة أو رسالة صباحية بعد أن تستيقظ من نومك؟ كم مرة شعرت بأنك...

Comments


bottom of page