نوف السماري
فنانة تشكيلية
لطالما حفظنا منذ صغرنا ورددنا أجمل أبيات الراحل الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن: "فوق هام السحب وإن كنتي ثرى", ولمجمل شعره الكثير من الصور الجميلة لكن بقيت هذه القصيدة من أشهر قصائده وأكثرها اختزالًا لحب الوطن والتغزل فيه. وفي وقتٍ قصير امتد الثرى وتحول تحولًا واسعًا إلى نهضة عمرانية وثقافية واقتصادية، وتعاظم ذلك منذ انطلاق رؤية ولي العهد ٢٠٣٠، حيث أصبحت بلادنا محط اهتمام العالم بأكمله ومصدر اعتزاز أبنائه، ومع تطور بنيانه وفنونه تتشكل هويته من خلال إرثه وطراز عمرانه التي تميز كل منطقة من مناطقه من وسط نجد ونحو الخليج شرقًا، وصولًا إلى عسير الجنوب والحجاز غربًا وامتدادات الشمال. وقد أسهم الفرد السعودي في كل منطقة بكامل فنه في صياغة ذلك الوجه البصري الجميل منذ القدم وبطرق تشبه أسلوب حياته ونمطها، وتعكس حفاوة شعب هذه الأرض الكريمة الذي يفتح منزله دائمًا للضيف، وتُعدّ مساكن الشعوب مأواها الأول حيث تزهر أنماطها وتنمو فنونها, غير أن التنوع البيئي والثقافي قد شكل دورًا كبيرًا في تكون الصور التراثية لدينا؛ مما جعل تلك المساكن والمباني التاريخية جميعها التي تمتلك مقومات عمرانية وفنية وثقافية عالية تستحق أن يُحافظ عليها وأن تُستثمر, وهي ما تُسهم في نمو السياحة الثقافية لدينا.
المجلس العسيري الباب العسيري
تميز أهالي المناطق السعودية باعتنائهم بتراث المنطقة وفنونها, مثل: فن القط العسيري واستخدامات الألوان المتعلقة بحواضر حياتهم اليومية وحتى صناعة الألوان والأشكال، وكيف يتمايز النساء من أصحاب البيوت في أيهن أجود لصناعة نقوشها بصورة أكثر جمالية من خلال تدرجات اللون التي تزين بها مجلسها. البيت النجدي أيضًا تميّز في بنائه ونقوشه وأقواسه واستلهام الورود الصحراوية ونباته في سرد جمالياته، والعناية الهندسية في التعامل مع الشمس وتوجهها نحو ساحات المنزل والنوافذ؛ لاستقبال الهواء نظرًا إلى المناخ الصحراوي.
أحد أهم الفنانين السعوديين الذين اهتموا بصورة واسعة بالنقش النجدي وبيوته الطينية الفنان علي الرزيزاء الذي حرص على بناء منزله الخاص بالطراز النجدي المطور بزخارفه، وساحاته المفتوحة، وبنيانه الطيني دون أعمدة معتمدًا على طراز القرية في إنشاء مساحة "بطن الحوي". وامتد حرصه على العناية بتفاصيل ذلك البناء لأكثر من عشرين عامًا، وكأنه مشروع لا نهاية له؛ لما في تفاصيله الجمالية من تأملات لا نهائية، من مدخل باب منزله واهتمامه بمعاني أبواب البيت النجدي؛ مما جعل منزله أشبه بتحفة فنية، بل عمل فني خالص في سياق العمران الحديث. أسهم الفنان علي الرزيزاء في معرض أُقيم مطلع هذا العام مع هيئة التراث في الدرعية
"ما وراء الباب: في استكشاف الأبواب النجدية"، وكان القيّم عليه الدكتورة إيمان الجبرين.
صورة الفنان علي الرزيزاء أمام منزله صورة لمدخل منزل الفنان علي الرزيزاء وما يطلق عليه "دار الرزيزاء"
بعدسة المصور عبد الله الشهري
يعرف علي الرزيزاء بأشهر عمل تاريخي له وهو شعار "مئوية المملكة" لاسترداد الرياض حيث أدرج قلعة المصمك، وقد طُبع هذا الشعار على العديد من الوثائق الرسمية والعديد من الأوراق النقدية. درس الرزيزاء الفن بمعهد التربية الفنية في الرياض منذ تأسيسه عام 1965، وعمل في المعهد وأقام العديد من المعارض الفنية آنذاك، ثم ذهب لإيطاليا؛ ليحصل على دبلوم من أكاديمية الفنون في روما عام 1979، وقبل الرحلة قرر أن يصمم ملابسه هناك بنفسه، ففصّل زيه ليكون الثوب العربي حاضرًا في وجوده هناك؛ اعتزازًا بهويته، ورغبة منه في أن تكون له هوية وطابع مختلف عن الآخرين، فكان الجميع في إيطاليا منبهرين من تصميم الثوب. يقول عنه أستاذه في إيطاليا: "كأس ممتلئ لو أضيفت إليه قطرة واحدة لخرجت منه دون أن تضيف إليه شيئًا".
يؤمن الرزيزاء بأن كل شخص يتقن مهارة ما، هو فنان بالضرورة ولو لم يدرك ذلك، فكل ما ينتمي لصناعة الحرف هو فن خالص، فالمزارع والنجار والطباخ المنتمون لهويتهم هم فنانون فيما يصنعون.
ولنشأته في حاضرة نجد وبيوتها القديمة ذات الطابع الطيني أثر كبير في مسيرته الفنية، و ينعكس ذلك على أعماله ولوحاته وتفاصيل حياته ومفاصلها، لذا نجده في منزله ذي الطابع الفني الفريد، في كوة الباب ومقابض الأدراج، وفي النوافذ وألوان الجدران.
مرسم الفنان علي الرزيزاء في منزله الفنان علي الرزيزاء مستقبلًا رئيس متحف روسيا في منزله
ويأتي البيت الأحسائي الواقع شرق المملكة انعكاسًا لأرضه، حيث يُعدّ واحة زراعية تنبسط باصطفاف النخيل على مد النظر، ونجد ذلك مؤثرًا في سمات البيت الحساوي، نوافذه الكبيرة الممتدة بمساحاته وأقواسه الدائرية التي تسمح بدخول الهواء ودورانه، لنجد تشييدهم بالطين وبطبيعة الحال يُستفاد من جذوع النخيل وسعفها وجريدها، ونتيجة لذلك نلحظ أن كل منطقة ومكوناتها هي انعكاس لعمران بيوتها، وأن الناس قديمًا كانوا يستثمرون ذلك في صناعة أسلوب حياتهم ومأوى بيوتهم.
قصر إبراهيم وهو أحد الأماكن الأثرية في الأحساء.
وللبيت الحجازي أيضًا معطياته وشكل عمرانه، ونجد ذلك واضحًا في جدة القديمة أو بما تعرف بـ "جدة البلد"، التي لاقت اهتمامًا من الدولة بالحفاظ على الحي كاملًا وترميمه وصيانة منازله، ويُعدّ من أهم رواد العمران الحجازي المعاصرين الدكتور سامي عنقاوي، الذي شيّد منزله "دار المكية" على طراز العمران الحجازي، وفيه استلهم كثيرًا من العمران الإسلامي، وتحولت شهرة هذا المنزل إلى متحف يستقبل العامة. تُعدّ البيوت الحجازية رمزًا واضحًا في الفنون العمرانية، التي استمدت أهميتها من ميناء جدة الإسلامي الذي يربط القارات الثلاث ببعضها البعض وبالتالي تصل الثقافات المختلفة من خلال الرواشين والمشربيات وألوان البناء إلى تكوينها؛ مما يشكّل لها طابعًا خاصًا، نظرًا إلى المواد المستخدمة تبعًا لتربة البحر الأحمر.
جدة البلد (جدة القديمة)
للدكتور عنقاوي فلسفة رائدة في المعمار تتلخص في ضرورة الإبداع في أنماط العمارة الإسلامية التقليدية، واستلهام أغراضها وجمالياتها في قوالب حديثة، وله مقولة شهيرة تنادي بضرورة ارتباط العمارة ببيئة الإنسان، يذكر أيضًا أنه محاضر سابق في متحف التراث والفنون التابع لجامعة هارفارد.
الدكتور سامي عنقاوي في منزله
"دار المكية"
ومع ذلك التنوع الفني في العمران تهتم وزارة الثقافة في هيئة التراث بالاحتفاظ بذلك كله بوصفه جزءًا من التشكل الحضاري للمملكة، ومع جهودها في تشييد المتاحف والمحافل الفنية أيضًا لتقديم الصور البصرية لانعكاس ثقافتنا في أجمل أشكالها، ولما هو بجماله وعمرانه يُعدّ متحفًا مفتوحًا له طابعه الخاص، الذي بذلك وحده يشد أي فرد من خارج البلاد فضولًا للتعرف عليه عن قرب، تحضرني الآن مقولة جميلة جدًا للملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله- في أحد لقاءاته بهولندا وهو في السادسة والعشرين من عمره عندما طُلب منه توجيه رسالة لشعبه تصل إلى المستقبل فقال واثقًا: "شعبي العزيز أبعثُ إليك تحياتي مع النسيم، من بلاد التمدن التي أرجو أن أراك تضاهيها في التقدم والرقي"، وها نحن الآن "ما مثلك بهالدنيا بلد".
Comments