دلال عبد الرزاق آل الشيخ مبارك
باحثة، وطالبة دراسات عليا بجامعة الملك سعود
طرأت على حركة السياحة تطورات جعلت من السفر في الوقت الراهن تجربةً استثنائية لتمثّل أنماط المعيشة الثقافية والبيئية للفضاء المرتحل إليه عن طريق تقمّص أساليب الحياة المحلية في التفاعل مع الطبيعة، والعناية بالاطلاع على ثقافة السكّان والمقيمين ممن ترسخت أسماؤهم في ذاكرة المكان، إعلاءً من قيم احترام الآخر وحماية البيئة؛ مما يجعل منه سياقًا متكاملًا لاكتشاف الثقافات الأخرى، واستعارة منظور جديد لرؤية العالم، ومساحة فسيحة للاتصال بنظام الطبيعة، وتبني مبدأ المحافظة على توازن عناصرها.
وقد انعكس هذا المنظور المعاصر للسفر على نهج المسافرين في سردهم لمشاهداتهم في رحلاتهم؛ سواء أكان هذا السرد مرئيًا أم مسموعًا أم نصيًّا؛ فالسياحة -بهذا المفهوم- تبدو عبورًا ثقافيًّا من تخوم الذات نحو الآخرين عبر مشاهدة المكان بعدستهم الذاتية، وتصير انعتاقًا وتحررًا من الارتهان بحدود الجغرافيا الضيقة، سعيًا لاكتشاف آفاق أرحب لإمكانات السياحة في البيئة بمعناها الكوني، ومعالجة دور المسافر في المنظومة البيئية وتفعيل التزامه الشامل تجاهها وعيًا وتثقيفًا.
وتعبّر مذكرات السفر المعاصرة عن عناية جليّة بتجربة السياحة الثقافية وإدراك لمفهومها المتجدد وتخصيب لاتجاهاتها، باتخاذ السفر ذريعة لاقتفاء السيرة الثقافية للمكان ممثّلةً بالإنسان، فنُطالع تسجيل الكاتبة هايدي عبد اللطيف لرحلتها «على خُطى همينغواي في كوبا»؛ إذ صارت الثقافة الأدبية غايةً مقصودة بحد ذاتها، وبدت منظورًا وسلوكًا تبنّته المسافرة في تجربتها؛ منحتها ثراء وصبغة خاصة، حين تقمّصت قناع الأديب «همينغواي» فترة إقامته في كوبا -التي مثّلت أغزر مراحل إبداعه-، بوصفه -القناع- مدخلًا يكشف لها أسرار المكان المخبوءة عن عين المسافر العابر، ويمكّنها من سبر غور تاريخه وثقافته وتقاليده في ثنايا جولاتها السياحية؛ فأحيت ذكرى الأديب وبعثت حكايته الشخصية عبر زيارة معالم سكنه وترفيهه، وتتبع المتاحف التي تتضمن توثيق آثاره ومقتنياته وأنماط عيشه وكتابته، واستنطقت بذلك وجه كوبا الساحر وروحها العتيقة.
ويتراءى احتفاء المسافرة بالثقافة في استعارتها لعدسة «همينغواي» عند زيارتها كوبا ورؤيتها معالمها، وتمثّلها سيرته الأدبية فيها؛ اعتزازًا بإرثه الإبداعي الممتزج بتاريخ الثقافة الكوبية المحلية، وتلك العلاقة الاستثنائية التي أضفت على تجربته خصوصيتها، وخلّد بها همينغواي صورة معالم كوبا في الذاكرة الإنسانية عبر روايته «العجوز والبحر» -الحائزة على جائزة نوبل ١٩٥٤م-، فترسّمت الكاتبة تفاصيل يوميات «همينغواي» في «هافانا» -التي وثّقها في مقال نُشر «بمجلة إسكواير»- عند زيارتها لغرفته التي حُوّلت متحفًا في الفندق:
«كنتُ أقرأ تلك السطور وأتذكر وقوفي في النافذة الشمالية، لأتنسم هواء البحر، وأشاهد المنظر الذي كان يراه همينغواي كل صباح، كان وصفه دقيقًا، فقد رأيتُ الشمس وهي تُلقي بأشعتها على سريره، والقلعة والعلم الذي يرفرف أعلاها، لكنني لم أتمكّن من مشاهدة الكاتدرائية التي ذكرها، لقد كان هناك مبنى يحجبها. وقد سألتُ سبيرانثا حينها عنه...فأشارت إلى جامعة سان خيرونيمو، ويبدو أنه في وقت كتابة همينغواي لمقاله في عام ١٩٣٣م لم يكن مبنى الجامعة الذي يُطلّ عليه الفندق موجودًا. وبحثت في تاريخ الجامعة واكتشفت أنها كانت كنيسة وديرًا للرهبان الدومنيكان بُنيت عام ١٥٧٨م...» (1)، مما يجعلنا أمام نمط من أنماط السياحة الحيوية التي تَجدِل الثقافة بالإنسان، وتقرن يوميات السفر وتجاربه بالحياة.
أما فيما يتعلق بالسياحة البيئية واكتشاف مساراتها وتجربة أنماطها، فيبدو أن سفر المغامرة والاستشفاء والاستجمام بما يتضمنه من اختيار وجهات تحافظ على مظاهرها الطبيعية، وتكفل نمط معيشة صحي لسكّانها المحلّيين؛ يستبطن اهتمامًا بالغًا من المسافر بأسرار الطبيعة البكر وأثرها في النفس الإنسانية، ووعيًا بمنظور سياحة البيئة وأهمية استدامة مواردها الطبيعية، لتبقى مصدرًا من مصادر معيشة سكانها الاقتصادية ورافدًا حيويًا لجودة حياتهم، ويُظهر تبنيًا لمبدأ تنمية عناصرها والعناية بكائناتها، والمحافظة على نظامها من الاختلال، وحمايتها من التلوث والسياسات الجائرة، عن طريق تعزيز حِسّ المسؤولية والالتزام لدى المسافر تجاهها، من منطلق تجذير علاقته الوطيدة التي تربطه بالأرض الأم، والتوعية بأضرار السلوكيات والممارسات التي تهدد الحياة الفطرية وتُؤذِن باضطرابها، حدّ اضمحلال ثرواتها ومقدّراتها، مما يُلقي بظلال قاتمة على مستقبل الإنسان.
ويظهر ذلك الوعي في رواية الكاتبة منى الوزان لرحلتها المعنونة بـ«في ظلال الإنكا: مغامرة تسع نساء في البيرو» الذي يشير إلى نزعة بيئية في السفر، بدءًا من اختيارها زيارة عاصمة الأمازون «مدينة إكيتوس» -وهي مركز للسياحة البيئية-، ثم خوضها مغامرة التجول في غابة الأمازون ومبيتها في كوخ خشبي وتجربتها أساليب معيشة محلية، وانتهاءً باختيارها عبارة تفتتح بها حكايتها لرحلتها تلك -كاللافتة الإرشادية- تعبّر عن المسؤولية البيئية: «خذ ذكرياتك فقط، واترك آثارك فقط» (2) للزعيم سياتل (3)، بما تدل عليه من أسلوب التعامل الأمثل مع البيئة، وهو -في نظرها- الاكتفاء عند مغادرة مظاهر الطبيعة بأخذ الذكريات التي عايشها الإنسان فيها، دون ترك أي أثر ضارّ سوى آثار السير فيها.
ويُلمس الوعي البيئي فيما تحكيه الكاتبة من تأملات أثناء وصفها لمظاهر الطبيعة المختلفة في محمية الأمازون الطبيعية: «وظللنا نمشي ومرشدنا يعرّفنا بأنواع الأشجار الموجودة بالغابة، والنباتات التي تفترش الأرض، والحشرات التي نراها -بكثرة ألوانها المختلفة- وهي تتمشّى بغنج على الأغصان وأوراق الشجر، فترى العجب العجاب منها لدرجة تشعر معها بغربة وأنت على أرضها، فلا تخاف منك أو تهرب تحت أوراق الشجر، فأنت الغريب عنها، وعليك أنت أن تخاف، وليس هي. الفراشات تطير حولك بألوانها الأخاذة، تكاد تقف على يديك وبجانبك لتقول لك: ها أنذا مستعدة للتصوير، وتذهب ليأتي غيرها، نمشي ونصوّر الفراشة، والحشرة السوداء المشغولة عنا، والدودة التي تعرف طريقها، وليس عندها وقت لتفاهاتك وضحكاتك، عالم جميل، وربما موحش، ولكن لا ذنب له، فنحن الذين اقتحمنا عليه هدوءه وسكونه» (4).
ويشير وصفها لهذا المشهد من جولتها إلى رؤيتها للغابة بوصفها مملكة الكائنات الحية المستقلة والمتناغمة التي يقتحمها الإنسان ولا يعبأ بكونه دخيلًا عليها ومُخلًّا بأمنها وتوازنها الطبيعي، فنجد أن المسافرة تتقمّص منظور كائنات تلك البيئة الهادئة للإنسان الذي يربك اتساقها ويقاطع سيرورة نظامها؛ فترى -بهذا المنظور- أنها أولى بمملكتها منه؛ متمثّلةً احترام هذا الكيان الهائل والعالم الحي مهما دقّت مخلوقاته وتناهت في الصغر، ومُدركةً ما تتركه خطواتها التي تعترض طبيعته وتعكّر صفو بيئته من إخلال بتوازن حياته الفطرية.
ويُلاحظ التأثير الذي تتركه النزعة لتمثّل الإرث الثقافي وإحياء المسؤولية البيئية من ارتقاء بالوعي في تحديد الوجهات السياحية ومساراتها، وإغناء لمنظورات رواية المشاهدات والتأملات في الرحلات؛ مما يُضفي على تجربة السفر الشخصية بُعدًا معنويًا وطابعًا إنسانيًّا، ويمنحها أناقة حضارية بما تتبناه من قيم أخلاقية عُليا، وتسبره من مقاصد ثقافية، وتجسده من مبادئ بيئية؛ أماطَت اللثام عن بعض أسرارها مذكراتُ الرحلة التي وثّق فيها الكتّاب المسافرون خلاصة رؤيتهم الفكرية وثمرة ذوقهم في تجارب السياحة؛ صادرين في ذلك عن مشارب شتى ومذاهب مختلفة.
(1): هايدي، عبد اللطيف، «على خُطى همينغواي في كوبا: أدب رحلات»، القاهرة، ط ١، دار آفاق للنشر والتوزيع، ٢٠٢١م، ص ٨٠-٨١.
(2): الوزان، منى، «في ظلال الإنكا: رحلة تسع نساء إلى البيرو»، أبو ظبي/ بيروت، ط ١، دار السويدي للنشر والتوزيع/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ٢٠٢٠م، ص ١٨٥.
(3): سياتل: مواطن أمريكي أصلي عاش في القرن ١٩م، عالم بيئة ويُنسب إليه خطاب مشهور عن المسؤولية البيئية وحقوق الأرض للسكّان الأصليين، وهو رئيس أمريكي، سُميّت مدينة «سياتل» باسمه.
(4): المرجع السابق، ص ١٩٧.
Comments