top of page
  • سياق

صدى | (فن السفر) لـ آلان دوبوتون



سمر بنت صالح المزيد

عضو هيئة تدريس في جامعة الأميرة نورة, متخصصة بالأدب الإنجليزي والأدب المقارن


           في البداية يجب أن تتذكر -عزيزي القارئ- أن مؤلف الكتاب آلان دو بوتون هو فيلسوف إنجليزي مهتم بقضايا الحياة والعلاقات الاجتماعية، ولهذا فإن كُنت تبحث عن كتاب عن أدب الرحلات أو عن قصص غريبة ووصف لحضارات جديدة، فيؤسفني بأنك لن تجد ذلك بين طياته. بل على العكس، فبعد قراءته ستتأكد بأن المؤلف ليس بالمسافر المغامر أو المكتشف أو حتى بالمسافر التقليدي، فهو قد يمكث في غرفة فندقه لوقت طويل ويسافر لأصدقائه في بلد آخر ويبقى في منزلهم لأيام. ولهذا أرى أن الكتاب موجه لمحبي وغير محبي السفر على السواء، فهو كتاب فلسفي ماتع يكتنز العديد من النظريات والأفكار المقدمة بأسلوب دو بوتون المعروف بسلاسته وبساطته وعمقه في الوقت نفسه. يستعرض الفيلسوف كيف يمكننا أن نحول عملية السفر من مجرد رحلة سياحية مشوقة تنتهي روعتها بعودتنا إلى المنزل، إلى  رحلة تأملية لمعرفة الذات والمشاعر الداخلية السيكولوجية المؤثرة والمتأثرة بالسفر؛ من أجل تعزيز جودة الحياة حيث تبقى آثارها العميقة حتى بعد أن نعود، يقدم الكتاب دراسة في ما أطلق عليه فلاسفة الإغريق لفظ "أوديمونيا" أو "ازدهار الإنسان". ولذلك فهو لا يقدم لنا نصائح تتعلق باختيار وجهة السفر،  وإنما يقدم إضاءات قيمة تجيب عن استفسارين مهمين, وهما: كيف ولماذا نسافر؟ لا يحكي الكتاب عن رحلات الكاتب لأماكن مُبهرة أو غريبة وجديدة، بل انصبّ جُلَّ تركيزه على تقديم فلسفة وفهم أعمق للسياحة من خلال استعراض نماذج جديدة ومختلفة تساعد على جعل رحلاتنا القادمة أكثر عمقًا وإثراءً.

     يقدم دو بوتون كتابه بطريقة سردية موازية أو مقارنة، فهو يستعرض في كل فصل رحلة لأديب أو فنان أو عالم معين في بلد معين، ثم يربطها ويقارن بعض تفاصيلها المتشابهة بقصة شخصية حدثت له في بلد مختلف. ويقع الكتاب في خمسة أقسام رئيسة وتسعة فصول. يبدأ دو بوتون الحديث عن الرحيل ثم الدوافع ثم المشاهد من حولنا ثم الفن وأخيرًا عن الإياب. كما ويحتوي الكتاب على العديد من الصور والرسومات لفنانين أوروبيين, وصور أخرى من تصويره الشخصي وهي صور استخدمها المؤلف لتعزيز أفكاره وتوضيحها للقراء. نُشر الكتاب باللغة الإنجليزية في عام 2002 ولكنه لم يُترجم إلى العربية إلا في عام 2021 بواسطة دار التنوير للطباعة والنشر بترجمة جيدة من الحارث النبهان، وذلك بعد الإقبال القوي على ترجمته لكتب دو بوتون الأخرى مثل "عزاءات الفلسفة" الذي تُرجم إلى العربية عام 2016، وكتابه الآخر "قلق السعي إلى المكانة" المترجم عام 2017.


قسم الرحيل: 

     يبدأ دو بوتون كتابه- كما ويختمه أيضًا- بطريقة مبتكرة. فهو لا يبدأ موضوعه في “فن السفر” بتوضيح جمالياته أو فوائده أو أهميته وآثاره، بل عوضًا عن ذلك يتحدث عن صعوباته؛ فيبدأ بقصة شخص فرنسي يكره السفر ويستصعب الخروج من منطقة راحته بإقناع نفسه بفكرة الاكتفاء بالنظر لرسومات عن البلدان الأخرى. ثم يطرح دو بوتون سؤالًا عن العلاقة بين ترقب السفر والتوق إليه وبين حقيقته الواقعية، ويقارن بين  ما نتخيله ويصلنا من معلومات وصور عن مكان سياحي شهير وبين الحقيقة الواقعية التي نعيشها عندما نصل إلى ذلك المكان. وهي ما تكون دومًا غير مثالية وغير كاملة وتبتعد عمّا صورته ووصفته المكاتب والمواقع السياحية. كما يصف في طيات الكتاب مفارقات قد نصادفها جميعًا، وتفاصيل صغيرة متشابهة في رحلاتنا، بل ويتحدث حول مشاعر المسافر وقلقه وما يصادفه من صعوبات خصوصًا في زياراته الأولى للبلدان الأجنبية بطريقة تجعلك تُحس بشعور دافئ لوجود من يشبهك، ويفهمك، ومن تتماهى تجاربه مع حقيقة تجاربك. ويشعرنا الوصف بأنه لا فائدة من السفر إذا كان المسافر سيحمل معه هموم حياته ووظيفته وعلاقاته وقلقه وأفكاره السلبية. بل قد لا تكون هناك رحلات أفضل من تلك التي تأخذنا إليها مخيلاتنا ونحن جالسون في البيت نقلب صفحات برنامج رحلات طيران أو مواقع سفر، في حال لم نتهيأ ونستعد مسبقًا لصعوبات السفر المصاحبة لكل رحلة. 


قسم الدوافع: 

     ثم ينتقل دو بوتون في القسم الثاني إلى توضيح أهمية فهم الدوافع والأسباب الكامنة خلف سعيك للسفر، فيؤكد بأن النشرات والمواقع السياحية تؤثر، أو ربما تفرض، على السائحين ضرورة الإعجاب والانبهار ببعض الأماكن التي قد لا تتناسب مع أذواقهم، ولذا فهي في الحقيقة تضع قيودًا على برنامج رحلاتهم. وأعلم بأن العديد منكم يشاركون دو بوتون هذا الرأي، فأغلبنا قد زار مكانًا سياحيًا؛ بسبب تقييمه العالي والحديث عنه في أغلب المواقع السياحية التي توصلت أخيرًا إلى قناعة بأنها تكرر الكلام نفسه، ثم ننصدم بأن المكان لا يشابه الصور المنتشرة ولا يستحق الزيارة في كثير من الأحيان. وفي الغالب, لا تكمن المشكلة في عدم مصداقية هذه المواقع، وإنما في طبيعة اختلاف رغباتنا وذائقتنا -والأهم- تنوع دوافعنا في زيارة هذه الأماكن. فمن تعجبه الأماكن المتطورة بتكنولوجيا مبهرة قد يشعر بخيبة وانزعاج عندما يزور -بسبب هذه المواقع السياحية- قصرًا قديمًا بعمرانه الباروكي، أو قلعة من العصر القوطي، أو العكس. يطرح دو بوتون تأثير الفوارق الفردية في اختيار الأماكن والاستمتاع بالرحلة. ثم يشير -في أثناء حديثه عن الإكزوتيكية وانبهار الأديب الفرنسي جوستاف فلوبير بالشرق ورحلته الطويلة إلى مصر وتعلقه بشعبها ولغتها وعاداتها- إلى تعريفه لـ"الانتماء القومي بأنه: "لا يعتمد على مكان مولد الفرد ولا أصل أسلافه، بل يعتمد على الأماكن التي يكون مشدودًا إليها" (98)، فقد قذفت بنا الرياح جميعًا إلى بلاد مختلفة، بحكم الولادة، ومن غير أن يكون لنا يد في الأمر. ولكننا عندما نبلغ الرشد .. تكون لدينا حرية أن نعيد ابتداع هوياتنا بطريقة خلّاقة تنسجم مع نوازعنا ودوافعنا وميولنا الحقيقية. وهكذا يؤكد دو بوتون بأن ارتباط الأديب الفرنسي بمصر الذي استمر طوال حياته هو دعوة إلى أن نعمق ما نحسه من انجذاب إلى بلاد بعينها، وإلى أن نعمق ذلك الإحساس؛ لأنه قد يكون سببًا لتفردنا، وغرابتنا أحيانًا، وارتباطنا بفن أو حضارة بذاتها. 


قسم المشاهد من حولنا:

     ينتقل دوبوتون إلى الحديث عن أهمية الطبيعة والريف وتأثيرها العميق في ذواتنا الداخلية، بطريقة تجعلها وجهة مهمة في رحلاتنا وسفرنا، بل قد تكون ترياقًا ضروريًا لشرور العيش في المدن كما ذكر الشاعر الإنجليزي ووردزوورث. فيبدأ بفلسفة كيفية قراءة الطبيعة و"طاقة قوى الطبيعة الشافية المحيية"، وهي ثيمة تتكرر في كتب دو بوتون الأخرى مثل "دروس في الحب" الذي يؤكد فيه بأن المشي في الطبيعة يُحررنا من المشاعر السلبية التي تصيبنا، لا من خلال تعاطفها معنا، بل من خلال لا مبالاتها الهائلة. فـ "قد يكون صعبًا أن يظل المرء غاضبًا زمنًا طويلًا جدًا عندما يرى مدى اتساع الكون من حوله." (٧٩) لكنه في هذا الكتاب يتحدث عن طاقة الطبيعة في ضبط وتشجيع سلوكيات معينة فينا، فـ "جلال أشجار البلوط، وثبات الصنوبر، وهدوء البحيرات .. يهدينا ويثير في نفوسنا تطلعًا إلى الفضيلة." (131) وهذا ما يجعله يخصص فصلًا كاملًا لمفردة الجليل، وهي ما نجدها ونستشعرها في الصلة بين الرب والمناظر الطبيعية الجليلة. فيتحدث عن قدرة الطبيعة، عندما توحي بقوة أكبر من قوى البشر، على أن "تستنهض العقل إلى ما هو جليل." ويستعرض دو بوتون في هذا السياق آراء العديد من العلماء ممن ربطوا بين المناظر الطبيعية الجليلة والدين. فيقول: إن "الوديان والجبال توحي إيحاء تلقائيًا بأن كوكبنا ليس صنيعة أيدينا، بل صنيعة قوة أعظم من أن نستطيع فهمها أوجدته قبل وجودنا، وسوف تظل باقية بعد انقراضنا (هذا شيء قد ننساه عندما نكون سائرين في طرقات من حولها زهور ومطاعم وجبات سريعة)" (162).


قسم الفن:

     يقدم دوبوتون قسمًا كاملًا للحديث عن دور الفن في التأثير في قراراتنا المتعلقة بالسفر لمناطق معينة، ورغم أهمية الفكرة في صنع القرارات بل وفي تكوين الذائقة الجمالية لتقدير مناطق معينة أحيانًا إلا أن تخصيص فصلين كاملين لهذا الموضوع شتت من تركيز الكتاب على وحدة موضوع السفر. ومن أهم ما تطرق إليه دو بوتون في الفصل السابع قوة تأثير الدعايات والترويج للسياحة، لا من المكاتب السياحية فحسب، بل وقوة دور الأدباء والفنانين أيضًا بقوله: "مناظر الطبيعة يمكن أن تصير أكثر جاذبية في أعيننا بعد أن نكون قد رأيناها عبر عيني فنان كبير." (١٨٣) وذلك بعد استخدامه مثالًا واقعيًا من القرن الثامن عشر عن لا مبالاة الناس، بل وازدرائهم للسياحة في بريطانيا وخصوصًا عن ريف إسكتلندا وإنجلترا وويلز، التي ربطها بدور الأدباء البريطانيين -حينها- في تعزيز الصورة السلبية حول هذه المناطق مثل دانييل ديفو و د.صامويل جونسون. بالمقابل أشار إلى اهتمام الناس -في الفترة نفسها- بزيارة إيطاليا وهو ما يعزوه لوجود هذه المدن بصورة بارزة في الأعمال الأدبية والفنية المفضلة لدى الأرستقراطيين البريطانيين مثل: أشعار فيرجل وهوراس، ولوحات بوسان وكلود. ثم يشير إلى تغير الوضع تمامًا في ذلك القرن نفسه حيث تزايدت أعداد السياح في بريطانيا تزايدًا انفجاريًا؛ بسبب جهود الأدباء والأثرياء بدعم الفن والرسامين الذين أسهموا في إبراز جمال الطبيعة البريطانية، من خلال اللوحات -التي كانت تشبه الصور الفوتوغرافية حاليًا- حيث يؤكد دو بوتون بأننا "نصير أكثر توجهًا إلى الارتحال في العالم بعد أن يرسمها الرسامون ويكتب عنها الكتّاب." (١٨٦) لذا ينتقل في الفصل التالي إلى الحديث عن اهتمام الناس بالاحتفاظ بالذكريات كطريقة لامتلاك الجمال. لكنه يرى بأن التصوير غالبًا ما يفقدنا الكثير من التفاصيل في المشهد لأنه ليس بذاك العمق، ولهذا فالوسيلة الأفضل للاحتفاظ بالذكرى هي استخدام الرسم أو الكتابة، حيث يساعدنا الرسم على تكوين نظرة لما حولنا من خلال ملاحظتنا لكل شيء، أما الكتابة فتساعدنا على وصف المشهد بأسلوب عميق وواعي تفاصيل ذلك المكان؛ مما يقودنا  لفهم أعمق للذات ولسبر أغوار الجمال. 


قسم الإياب: 

     يختم دو بوتون كتابه بطريقة مميزة، وقد تكون مفيدة لمن لا يستطيع السفر ولا يتحمل تكاليفه، فيشير إلى أن الجمال موجود في أغلب الأشياء من حولنا حتى في بيئتنا وأوطاننا ومنازلنا. ولكننا لا ننتبه لها بحكم عاداتنا الروتينية ورؤيتها يوميًا. ولذلك عندما نغير طريقة رؤيتنا لهذه المناظر سنكون قادرين على تقديرها حق قدرها. فيختار دو بوتون شخصيته الأخيرة بالحديث عن الكتب التي ألفها أديب فرنسي حول رحلته (في وحول) غرفة نومه. وينتهي بفكرة فلسفية مفادها أن المسرة التي نستمدها من السفر قد تكون أكثر اعتمادًا على الذهنية التي نسافر بها منها على الوجهة التي نرتحل إليها، فالسعادة والاستمتاع ليست محصورةً بالسفر. فقد نجد العديد من المسافرين لأماكن جميلة مختلفة ومُبهرة غير سعداء خلال الرحلة أو بعدها، بينما نرى أشخاصًا غير قادرين على السفر الفعلي خارج أسوار مدينتهم، ومع ذلك فهم كالسيّاح فعليًا؛ بسبب طريقة تأملهم لما حولهم واستمتاعهم بكل ما يرونه من أماكن وأمور قد تكون روتينية لغيرهم.


    في الختام, يتميز الكتاب بجمال أسلوب دو بوتون وسلاسة عرض نظرياته الفلسفية لدرجة تجعله في مستوى القوة نفسها التي تتميز بها  باقي كتبه مثل “عزاءات الفلسفة”، و”هذا ما تعلمته من بروست”، و”دروس الحب”، إلا أنه لا يصل إلى تميز كتاب “قلق السعي إلى المكانة”؛ لأن الكاتب ركز كثيرًا على اختيار نماذج فنية وأدبية ذات مركزية أوروبية لأفراد من طبقة اقتصادية متوسطة ومرتفعة عوضًا عن تنويع المصادر ووجهات النظر التي كان من شأنها أن تجعل فلسفته أكثر شمولية عالميًا واجتماعيًا واقتصاديًا، كما وينقص الكتاب بعض الاتساق الداخلي فهو يستعرض العديد من المعلومات والنقاشات حول الرسم والفن، والمدعوم بعرض العديد من الصور للوحات تعكس مناظر طبيعية عادية لفنانين أوروبيين أو صورًا عشوائية من تصويره الخاص، إضافة إلى فصل كامل تحدث فيه عن أسلوب فان كوخ بالرسم وحياته بطريقة أخلت قليلًا بوحدة الموضوع الرئيس. أما على الصعيد الشخصي، فقد شعرت ببعض الامتعاض عند قراءة الفصل الخاص بالإكزوتيكية فقد بدا دو بوتون ناقدًا لتعلق وانبهار فلوبير بالشرق الأوسط، وعزا الأمر إلى تعزيز أدباء ذلك العصر لسحر الشرق وإلى غرابة شخصية فلوبير وغضبه من وطنه وشعبه، ثم وضّح ثلاثة أنواع "سلبية" للأكزوتيكية وهي -حسب رأيه- إكزوتيكية الفوضى، وروث الحمير، والجمال وهو ما رأيته كمحاولة راديكالية لنقض الصورة التقليدية لسحر الشرق.

ولكن -عزيزي القارئ- إذا كانت هذه قراءتك الأولى لـ دو بوتون، فهنيئًا لك .. لأنك أمام نص فلسفي اجتماعي ماتع يجعلك تقف عند العديد من الجمل للتأمل والتفكر ولمقارنتها بذاتك وبمشاعرك، فهو كتاب سيشغل تفكيرك لعدة أيام. وفي حال رغبت بقراءة كتب مميزة في أدب الرحلات، فقد تهمك قراءة كتاب “مدني وأهوائي: جولات في مدن العالم” لـ لطيفة الدليمي، وكتاب “الطريق إلى كريشنا: رحلات في كشمير والهند” لـ سناء كامل أحمد شعلان، وكتاب “المغرب الناس والبلاد” لـ إدموندو ماريو ألبرتو دي آميتشيس بترجمة إبراهيم البطشان، وكتاب “الحج إلى هاري دوار” لـ خليل النعيمي، وكتاب “الرحلة ما بعد الكولونيالية في الأدب العربي المعاصر” لـ د. محمد المسعودي. 


 

أحدث منشورات

مقدمة العدد ١٧ | تجوال المثقفين

في عددها السابع عشر، تروم (سياق) استكشاف عوالم السياحة الثقافية وجمالياتها من خلال الحديث عن السفر والتنقل والترحال، حيث تمثل السياحة...

Comments


bottom of page