top of page
سياق

المقال | السياحة الثقافية: قناةٌ لاكتساب فهم أعمق للعالم من حولنا


د. عبير عطاالله العمري

خبير جودة وتقييم القدرات البشرية السياحية

حاصلة على الماجستير والدكتوراه في القياس والتقويم، مهتمة بفهم الإنسان علمًا وسلوكًا وكيفية تطويره.


         نسافر للتعرف على دول وفنون وحضارات ومناطق جديدة، ونسافر من أجل الاختلاء بأنفسنا وإعادة اكتشاف ذواتنا، ونسافر لأداء واجب ديني وللحصول على طمأنينة الروح والمكان، ونسافر أيضًا من أجل الأصدقاء ومن أجل العائلة والعمل. وهكذا تتعدّد أسباب السفر الشخصية, ولكننا نشترك جميعًا في غاية واحدة للسفر وهي الاكتشاف، والمعرفة، والانفتاح على ثقافة الآخرين.

       وهنا يبرز السؤال: هل السفر الدائم إلى وجهة معينة يعني بالضرورة معرفة ثقافة الآخر بصورة عميقة؟ لا شكّ في أن الإقامة المتكررة قد توفر فرصة الاطّلاع السطحي على بعض العادات والتقاليد، ولكن الفهم الحقيقي للثقافة يتطلب التفاعل المباشر والمستمر مع السكان الأصليين للدول التي نسافر إليها، والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية والثقافية الخاصة بهم، ومحاولة معرفة تاريخهم وقيمهم التي توجّه سلوك حياتهم اليومية. وفي هذا السياق تُلح علينا أسئلة أخرى: ما السياحة الثقافية؟ وهل يختلف مفهومها من بلد لآخر؟ وهل تحمل السياحة الثقافية المعنى نفسه على اختلاف المجتمعات؟ 

       تأتي السياحة بوصفها نافذة نطلّ من خلالها على الدول والثقافات لعالم تكاد تتلاشى فيه الحدود.  وتأخذ السياحة الثقافية شكلًا مختلفًا في معناها وتفسيرها بين المجتمعات؛ فهي تعكس جوانب محددة من التراث، والتقاليد، والقيم الفريدة لكل مجتمع، وتعزز من معرفة السائحين بتاريخ وثقافة البلد المضيف، وتقلل من التحيزات والأفكار النمطية؛ مما يُسهم في بناء عالم أكثر تسامحًا وتعاونًا وتفهمًا؛ حيث تتيح زيارة المعالم السياحية للزائر فرصة التجول في العلاقات الإنسانية، والتبادل بين الشعوب، واكتشاف تاريخ وثقافة هذه المناطق الفريدة, فيخرج السائح بعد هذه التجربة مشدوهًا ومتأثرًا بسحر البلاد التي زارها ومتفهّما لطبيعة تميّزها وتفردها.

        ويمكن أن تتشابه العناصر الأساسية للسياحة الثقافية، مثل: زيارة المتاحف، والمعارض، والمواقع التاريخية، والمهرجانات الشعبية، إلا أن تفاصيل التجربة وما يُعدّ جذابًا أو مهمًا أو أصيلًا قد يختلف بصورة كبيرة وفقًا للسياق الثقافي المحلي ولتفضيلات الزائر. وتُعدّ هذه السياحة سبيل الزائرين لفهم الكثير عن سلوك المجتمعات، وأنماط حياتهم وتقدير فنونهم لا سيما المتعلقة بالعادات، والعمارة، والأديان، والفنون، والاحتفالات الشعبية، والأطعمة والمشروبات، التي تُشكل في مجملها هوية المجتمعات الإنسانية.

       وأرى أنه يجب على الزائرين الاطلاع على عدة جوانب أساسية لفهم ثقافة بلد ما. فمثلًا، من المهم زيارة المواقع التاريخية والمعالم الأثرية التي تعكس تطور الحضارة في هذا البلد. فهذه المواقع غالبًا ما تحمل أساطير وروايات عن الماضي وقصصًا عن الحاضر، وتعكس الجوانب الثقافية والاجتماعية الفريدة. ومن جانب آخر، تعكس المشاركة في الفعاليات الثقافية، مثل: المهرجانات الشعبية المرتبطة بمناسبات البلد الدينية والثقافية والاجتماعية والمعارض والحفلات، وجهًا آخر لفهم الجوانب الاحتفالية للثقافات، وتقدم رؤية مباشرة للتقاليد والفنون المحلية نراها ماثلة في وجوه وملابس ورقصات كبار السن، والشباب والصبية والفتيات. ليس هذا فحسب، بل تسمح للسائح بالانخراط فيها وتجربتها ومشاركتها من خلال التفاعل مع السكان المحليين والاستماع إلى لهجاتهم المختلفة وقصصهم وتجاربهم الشخصية، وتمنحه تجربة أعمق وأكثر واقعية بخلاف السياحة اليومية العابرة. 

           كما تتيح قراءة الأدب المحلي وأدب مدونات السفر واليوميات ومشاهدة البرامج الوثائقية حول الثقافة المحلية لوجهة السفر، وزيارة المتاحف والآثار والعروض المسرحية تجربة تعليمية غنية من خلال استعراض القطع الأثرية والمعلومات التاريخية، وتعطي فهمًا أعمق للهوية الثقافية والتاريخية للمجتمع. إضافة إلى تذوق المأكولات التقليدية واستكشاف الفنون والحرف المحلية. كل ذلك يساعد السائح على تشكيل صورة نابضة عن ثقافة البلد، ويمكنه من تعزيز تجربته السياحية وتوسيع مداركه وفهمه للعالم من حوله.

        ولا يمكن أن نغفل عن دور السياحة الثقافية في دعم الاقتصاد المحلي، حيث ينفق الزوار الكثير على الخدمات والمنتجات المحلية، ممّا يخلق فرص عمل جديدة، ويعزز النمو الاقتصادي في المجتمعات المحلية، ويدعم الصناعات اليدوية والفنون التقليدية، ويزيد من ارتباط المواطنين بها. إضافة إلى ذلك، تساعد الإيرادات الناتجة عن السياحة على تمويل الجهود للحفاظ على المواقع الأثرية والمعالم التاريخية؛ مما يضمن استدامتها. ولا نغفل أيضًا عن دور السياحة الثقافية في تعزيز الفخر الوطني وتشجيع المواطنين على الحفاظ على أصالتهم وعاداتهم وتقاليدهم وتوريثها للأجيال القادمة.

       ويبرز هنا هاجس الخوف من تأثر الهوية الثقافية  المحلية وتلاشي المعالم المميزة المرتبطة بالمجتمع وتاريخه؛ نتيجة لتزايد أعداد السياح والزائرين. ولهذا الخوف غالبًا ما يبرره كالاندماج مع الآخرين إلى درجة الذوبان، مما يستدعي ضرورة الحرص على تحقيق التوازن بين تعزيز السياحة والحفاظ على القيم والتقاليد المحلية لضمان استدامة هوية البلد واستدامة موارده الثقافية.

        تُعدّ التوعية والتعليم وغرس القيم الاجتماعية من أهم الإستراتيجيات لتطوير السياحة الثقافية، حيث يمكن تنفيذ برامج تعليمية وتوعوية للسكان المحليين وللزوار حول أهمية الحفاظ على التراث الثقافي والاعتزاز به. كما يُسهم تطوير البنية التحتية السياحية في جذب المزيد من الزوار وتحسين تجربتهم، وذلك من خلال تطوير وسائل النقل، وتطوير مرافق الإقامة، وتوفير المعلومات السياحية بوضوح وسلاسة. وتأتي أهمية تشجيع السياحة الصديقة للبيئة لضمان الحفاظ على المواقع الثقافية للأجيال القادمة من خلال تطبيق ممارسات سياحية مستدامة، مثل: تقليل النفايات، واستخدام الطاقة المتجددة، وتشجيع الزوار على احترام البيئة والثقافة المحلية.

       كما تؤدي التكنولوجيا دورًا كبيرًا في الترويج والتسويق للسياحة الثقافية، حيث يمكن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية؛ لجذب الزوار والتعريف بالمواقع الثقافية. تتيح التكنولوجيا الحديثة أيضًا تجارب ثقافية افتراضية من خلال الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR)، مما يساعد السائح على استكشاف المتاحف والمواقع الأثرية افتراضيًا. وتُسهم التكنولوجيا في الحفاظ على التراث الثقافي من خلال الحفظ الرقمي، حيث تتيح فرصة رقمنة القطع الأثرية والمواقع التاريخية، وتتيح إمكانية دراسة التاريخ والثقافة بصورة أكثر دقة واستدامة، وهذا بلا شك يساعد على الوصول إلى القطع الأثرية والمواقع التاريخية ودراستها دون تعريضها للتلف.

           أما ما يتعلق بواقع السياحة الثقافية في المملكة العربية السعودية، فتُعدّ السعودية من أغنى الدول ثقافيًا وتاريخيًا، من حيث احتوائها على مواقع أثرية وتراثية تعود لآلاف السنين حيث جرى الاعتناء بتسجيل المواقع والآثار والتراث المادي على قائمة التراث العالمي لليونسكو. ومن أهم هذه المواقع الأثرية: حي الطرّيف في الدرعية، مهد الدولة السعودية الأولى، والحجر (مدائن صالح) التي تعود إلى الحضارة النبطية، وسُجّل الكثير من التراث غير المادي أيضًا مثل: فن القط العسيري، والعرضة النجدية وغيرها. وكان احتفال المملكة بالوصول إلى 100 مليون سائح بنهاية عام 2023م -وذلك قبل سبع سنوات من المدة المحددة سابقًا لتحقيق هذا الهدف- مؤشرًا قويًا يدل على وعي السعودية بقيمة مواردها الثقافية، وبأن العالم قد ازداد فضولًا للتعرّف على ثقافة هذه الأرض، حيث أصبحت المملكة وجهة سياحية قوية، واحتلت مكانة مميزة على خريطة السياحة العالمية، وعملت على تقديم تسهيلات متنوعة تضمن للسائح سهولة الوصول وتمكنه من اكتساب تجربة سياحية استثنائية.

        وبانفتاح المملكة على العالم، أصبحت السياحة الثقافية محورًا رئيسًا للتنمية السياحية، ممّا يتيح للزوار فرصة استكشاف التراث السعودي، والتعرف على تاريخه العريق وتميزه وتنوعه الفريد. كما لا يفوتني أن أعرّج على فعاليات مميزة مثل: بينالي الدرعية، وزرقاء اليمامة، وفعاليات المواسم المتخصصة بالمناطق المحلية،, والاهتمام بالصقور وتربيتها وتدريبيها، حيث يُعدّ توفر هذه الفعاليات النوعية التي يندر وجودها في بقية دول العالم نقطة جذب كبيرة للسياح الراغبين في التعرّف على الثقافة السعودية الأصيلة. وفي هذا السياق، تبرز "الإبل" بوصفها رمزًا ثقافيًا واقتصاديًا مهمًا يعكس تراث الحياة البدوية السعودية،, ولهذا جاءت تسمية وزارة الثقافية السعودية لعام 2024 "بعام الإبل"؛ تأصيلًا لمكانة الإبل في الحضارة العربية عامة والسعودية على وجه الخصوص. وما يزال الاحتفاء قائمًا بالقيمة الثقافية الفريدة التي تُمثلها الإبل في حياة أبناء الجزيرة العربية منذ فجر التاريخ إلى اليوم. كما تنظم المملكة سنويًا العديد من المهرجانات والفعاليات النوعية التي تحتفي بالإبل، مثل: مهرجان الملك عبد العزيز للإبل الذي يجذب آلاف الزوار من داخل المملكة وخارجها؛ للتعرف على تاريخ الإبل ومكانتها في الثقافة السعودية. 

       وعلى الصعيد الشخصي، أقف مشدوهة بعد كل زيارة لمدينة جديدة أمام تنوع العلاقات البشرية والنفس الإنسانية والسلوك البشري، وأجدني أرتبط وجدانيًا ببعض المدن دون سواها! شعوب مختلفة تمامًا تقتسم العالم نفسه! أتعجب كيف يعيش كل هذا التنوع البشري تحت سقف سماء واحدة؟! وكيف يتنفسون الهواء نفسه، ويتحدثون عشرات اللغات ومئات اللهجات، ويتداولون مختلف العملات؟! وكيف لما يبدو حدثًا جسيمًا في مجتمع ما أن يكون هو ذاته أمرًا عابرًا في مجتمع آخر؟! بل كيف تتباين طقوس الشعوب في الزواج مثلًا، وكيف يختلف فهمهم للحياة وللمعاني المجردة فيها كالسعادة والحزن؟! 

        تجسد السياحة الثقافية لنا مفهوم "الغيرية" أو "الآخرية" أو "الاختلاف"، وتثري الكثير في دواخلنا، وتفتح شهيتنا لطرح العديد من الأسئلة الجديدة التي تقودنا لفهم الآخر. وقبل هذا كله، تجعلنا ندرك قيمة الموارد الثقافية لهذه الأرض التي نحيا بها. وبهذا تتجلى لنا العلاقة الوثيقة بين الثقافة والسياحة، حيث تُعدّ الثقافة جسرًا يربط بين التراث العريق والحاضر المشرق والمستقبل الواعد، وتأتي السياحة بوصفها قناةً للعبور إلى الآخر لاكتساب فهم أعمق للعالم من حولنا.


أحدث منشورات

مقدمة العدد ١٧ | تجوال المثقفين

في عددها السابع عشر، تروم (سياق) استكشاف عوالم السياحة الثقافية وجمالياتها من خلال الحديث عن السفر والتنقل والترحال، حيث تمثل السياحة...

Comments


bottom of page