نوف السماري
فنانة تشكيلية
يتسم سعي الإنسان على مر التاريخ بمحاولات الاقتراب قدر المستطاع من الخلود، مما جعله يُبدع ويترك آثارًا جمة بوصفها شواهد على عبقريته التي تتجلى في مقاومته الدائمة للفناء من جهة، وانعكاسًا للطبيعة من حوله حيث شكلت سببًا باعثًا للفن بالنسبة له من جهة أخرى. فقد نشر الرومانيون قديمًا في صناعاتهم فن تلاحم الأحجار، الذي يعتمد على الحجر بوصفه مكونًا أساسيًا لتشكل الصور في بنائه، مستمدين خيالاتهم من تصورات الطبيعة حولهم، وقيل إن استخدامهم للحجر ما كان إلا سعيًا نحو تخليد الصورة، لما له من قدرة على مقاومة الفناء والتحلل. وقد كان هذا النوع من الصناعة وآلية الزخرفة تمهيدًا لظهور "فن الفسيفساء"؛ فن الخلود. والفسيفساء حرفة صناعة المكعبات الصغيرة واستعمالها في زخرفة وتزيين الفراغات الأرضية والجدارية عن طريق تثبيتها بالبلاط فوق الأسطح، حيث يمكن استخدام مواد مختلفة، مثل: الحجارة، والمعادن، والزجاج، والأصداف وغيرها بأسلوب مدروس لتُشكل الرسم والمشهد المخطط له، وعادةً إما يكون هذا المشهد شكلًا هندسيًا أو نباتيًا أو تصويرًا لموضوع ديني أو حتى قصصًا أسطورية.
مشهد للميدوسا من السنة الثانية من الميلاد، وتوجد حاليًا في المتحف الوطني في أثينا
يذكر أن كلمة "الموزاييك" تعود إلى أصل روماني، وتعني العمل المتماسك، وهو الذي يعرف أيضًا بـ"الفسيفساء". و في العربية تطلق كلمة "الفسيفساء" على الحجر الصغير، وتُعرف "الفسيفساء" في المغرب العربي باسم "التزليج"، حيث اشتهرت بصورة واسعة في عمرانهم وشكل البلاد الحضاري، وكانت قد تطورت بصورة جلية في العصر الكلاسيكي في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، واستمرت حتى العصر الإسلامي. استُخدمت "الفسيفساء" في تزيين الجدران، والواجهات، وفي رصف أرضيات المباني المدنية والدينية لا سيّما الكنائس، وأصبحت تُزين بها القباب والمحاريب والنصب التذكارية، وأصبح لـ"الفسيفساء" هدف زخرفي وديني لوقت طويل.
"راية أور" في المتحف البريطاني
تاريخيًا، يرجع أول ظهور لهذا النوع من الفن للسومريين حيث كانوا أول من أنتج فنون الأحجار، كما خرجت لنا تحفة قيمة من مدينة أور القديمة الواقعة في دولة العراق الحديث غرب مدينة الناصرية، إذ وجدت قطعة أثرية سومرية من الألفية الثالثة قبل الميلاد لعمل يعرف باسم "راية أور"، يتكون من صندوق خشبي مرصع بـ"فسيفساء" من الصدف والحجر الجيري الأحمر واللازورد، ويمثل صور تقديم قرابين ومشاهد حربية واقتياد أسرى وغنائم الحرب، والقطعة محفوظة في المتحف البريطاني.
أخذ هذا الفن بالنهوض بصورة أوضح عند الرومان، تطور إلى فن التصوير للمناظر الطبيعية منذ آلاف السنين، حيث استمد الرومان فكرة تصوير الطبيعة من حبهم الكبير للمناظر الطبيعية التي تشير إلى طول عمر الإنسان، أي أن حياة الإنسان تُصوّر على الجدران بـ"الفسيفساء"، وكذلك في مقبرته لتصاحبه في العالم الآخر، وكانت فكرة التصوير هذه مقتبسة من الفنون المصرية القديمة، ونستطيع القول إن استخدام اللوحات الفسيفسائية انتشر في العصر الروماني على وجه الخصوص، كما تؤكد على ذلك عديد من الأعمال والقطع التي عُثر عليها في أنحاء سوريا كافة، التي كانت مركزًا مهمًا لهذا الفن المنتشر في البلاد السورية الرومانية، وما زال الكشف عنها جار حتى يومنا هذا.
عمل وجد في الأنقاض في مدينة الرستن بسوريا، مشاهد من حرب طروادة والأساطير الرومانية.
العمل موجود في متحف نابو لبنان
توجد نماذج هذا الفن بين دول البحر المتوسط بصورة واسعة. ومن الجدير بالذكر أن "الفسيفساء" الرومانية قد وجدت لها أمثلة فريدة من نوعها في شمال إفريقيا، حيث نالت تلك المناطق حظًا وفيرًا من القطع الفسيفسائية المميزة التي تعكس الجمال ودقة التصوير في تلك الفترة التي استعمرها الرومان قبل أن يحكمها الفينيقيون، ولا زالت آثارهم تملأ الكثير من المدن كدول المغرب العربي وإيطاليا وإسبانيا.
وكان للعرب قبل الإسلام دور في تطوير هذا الفن حيث استخدموا الألوان المائية في التلوين، وابتكروا أشكالًا زخرفية غير معهودة في تزيين القصور والمعابد، حتى أصبح أحد أهم الفنون التشكيلية/ البصرية في الحضارة الإسلامية على مر القرون، إذ يعكس لنا خلفية واضحة عن تجليات الحضارة الإسلامية في عصورها المزدهرة، ولأن تصوير الأرواح كان غير مسموح به في ثقافة العصور الإسلامية القديمة، فقد اعتمد فن "الفسيفساء" على التصاميم التجريدية أو الهندسية، ومن ثم انتقل هذا الفن إلى إسبانيا، ويمكن رؤية أعظم هذه الأعمال في المسجد الكبير في قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة.
"لا غالبَ إلا الله" النقش المحفور في كل مكان في قصر الحمراء في غرناطة كان النقش يراه كل مَن حكم البلاد، وكأنه يقول له: مُلكك زائل كما زال مُلك مَن سبقك، وسيزول مُلك مَن يأتي بعدك "ولا غالب إلا الله"
انتشر فن "الفسيفساء" بصورة واسعة وتطورت أساليبه، فلم تكن الرسوم المنقوشة على قطع البلاط الخزفي تحتوي على أكثر من لونين سابقًا، لكنه تطور عصرًا بعد عصر حتى وصل إلى قمة ازدهاره، حيث أصبح يزيّن كل مبنى يراد به البقاء، وتزخر محافظة أصفهان في إيران بكبار أساتذة فن "الفسيفساء" الذين يبذلون جهودًا جبارة للحفاظ على هذا الفن العريق وترميم المباني التي تحمل هذا الفن.
يلاحظ أن هذا الفن ضعف في مفارق عصر النهضة في أوروبا لكن بالمقابل ازدهر في العالم الإسلامي بصورة واسعة.
مسجد الشيخ لطف الله في مقاطعة أصفهان- إيران هو أحد التحف المعمارية المعمارية الإيرانية عام 1619
بُني بواسطة المهندس المعماري البارع محمد رضا أصفهاني في عهد شاه عباس الأول
في متحف "زيوغما" لـ"الفسيفساء" بولاية غازي عنتاب التركية أدى هذا الفن دورًا كبيرًا في استقطاب السياح من مُختلف أنحاء العالم عبر الأعمال الفنية المُهمة الموجودة فيه، ويُعدّ المتحف التابع لوزارة الثقافة والسياحة التركي أحد أكبر متاحف "الفسيفساء" في العالم بمساحة تصل إلى 30 ألف متر مُربع. افتتح المتحف أواخر عام 2019، ويحتضن مجموعة واسعة من لوحات "الفسيفساء"، مثل (الغجرية) وتمثال مارس (إله الحرب في روما القديمة)، إضافة إلى النوافير الرومانية التي عُثر عليها في مبان أثرية على سواحل نهر الفرات.
فسيفساء الفتاة الغجرية التي استكملت بعض من قطعها المفقودة أخيرًا في متحف زيوغما، وهي تُعدّ موناليزا الفسيفساء لهذا المتحف
الدكتور الفنان إيزاك فانوس
ولعل أحد أهم الفنانين العرب المعروفين في هذا النوع من الفن الفنان المصري إيزاك فانوس، وكان من رواد الفن القبطي المعاصر في مصر، وقد درس الفن في مدرسة القديس جوزيف الخرنفش في فرنسا، وبعد عودته من بعثته إلى مصر بدأ رحلته ومشواره الكبير مع الفن القبطي. كانت بداية أعماله في الإسكندرية بكنيسة أبى كير ويوحنا والكثير من الكنائس القبطية في مصر. وكان قد اختاره يوحنا بابا روما لعمل رسومات كاتدرائية كاثوليكية في مدينة نصر، حيث كانت أعمال الموزاييك على مساحة 200 متر من الزجاج المعشق، توفي عام ٢٠٠٧ وأقيمت له صلاة جنائزية مهيبة آنذاك.
من أعمال الفن القبطي في كنائس مصر للفنان إيزاك فانوس
بطريقة ما . . أجد هذا الفن يشبه الشعر في تلاحم معناه وتراص مرادفاته بصورة متناغمة، وتجلي الصور فيه رغم اختلاف عناصره؛ لتتآلف وتتشكل بأسلوب حرفي متقن حتى في العملية الاستدعائية لذاكرة المبدع، ولتخرج بصورة نهائية متماسكة في إيقاع جمالي مترف يحفظ ألق المعنى حتى في تصور الحجر.
Comments