top of page
سياق

صدى | الأحجار في الأدب البولندي المترجم


د. غزال الحربي

أستاذ مساعد في الدراسات الثقافية والأدب المقارن بجامعة الملك سعود



 عمّق الأدباء على مختلف العصور علاقتهم مع عناصر الحياة المختلفة، وكانت الأحجار عنصرًا بارزًا في آداب الشعوب وثقافاتها، لا بوصفها وسيلة يُستعان بها على الحفر والتدوين أو مادة يستعملونها للزينة والزخرفة فحسب, وإنما بوصفها عنصرًا مهمًا للكتابة عن فلسفة الأديب ورؤيته الخاصة لحياة المجتمعات الإنسانية ومقاومتها للحروب والأزمات. لدى بعض الأدباء في مختلف الثقافات نظرة خاصة للحجارة؛ إذ استعملوها للتعبير عن وجودهم وتأصيل انتمائهم لمكان ما، ووظفوها جماليًا في أشعارهم فحوّلوها من مادة جامدة إلى كتلة نابضة بالحياة، وجعلوا منها رمزًا للقوة والصلابة  تارة, ورمزًا للسخرية من قسوة الإنسان وتناقضاته تارة أخرى. وتتجلى ثيمة الحجارة في الأدب العالمي في عدد من أهم الأعمال الأدبية البولندية المترجمة. 


ترجمة الأدب البولندي إلى اللغات الأخرى


لم يحظَ الأدب البولندي في بداياته بالرواج الذي حظيت به بعض الدول الأوروبية المهيمنة، مثل: فرنسا، وروسيا، وإنجلترا؛ حيث تجاهلت هذه الثقافات الأوروبية المركزية المؤلفات الأدبية للدول الأوروبية الصغيرة. فعانت بولندا طويلًا من سرد التهميش الذي كان يسود كثيرًا من المناهج الأدبية العالمية, وظل الأدب البولندي مصنفًا في قائمة الأدب الأوروبي الأكثر تهميشًا في الوصول إلى العالم من خلال الترجمة. وبالنظر إلى تاريخ بولندا، نجد أنها عانت سلسلة من الحروب عبر تاريخها، وقاومت مطامع روسيا وألمانيا النازية وبعض الدول الأوروبية المجاورة، كما عانى البولنديون كثيرًا من رهاب الدولة والاضطهاد الديني والمجاعة وقمع الحرية والديمقراطية.

شهدت بولندا بعد ذلك نهضة جديدة حيث استعادت استقلالها وحصلت على الاعتراف الدولي بها بوصفها دولة أوروبية مستقلة في عام 1923، وشملت هذه النهضة مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فعملت الدولة على تعزيز مختلف مقومات الهوية والثقافة واللغة البولندية، كما حصلت  على مكانة أدبية مرموقة على المستوى العالمي بعد أن حاز ثلاثة مؤلفين بولنديين على جائزة نوبل في أواخر القرن العشرين وهم: آيساك باشفيس سنغر (1978)، وتشيسواف ميووش (1980)، وفيسوافا شيمبورسكا (1996). وفي عام 2015 برز عمل أدبي بولندي على الساحة العالمية بعنوان: "الأمنية الأخيرة" (The Last Wish 2007)، ضمن قائمة نيويورك تايمز لأفضل 15 كتابًا ورقيًا مبيعًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ترجمة إنجليزية لمجموعة بولندية من القصص القصيرة الخيالية، وكانت هذه المجموعة القصصية البولندية هي الكتاب الوحيد المترجم في قائمة نيويورك تايمز في تلك السنة. وعلى صعيد الدبلوماسية الثقافية، قدم رئيس وزراء بولندا -آنذاك- دونالد تاسك هذه المجموعة القصصية البولندية المترجمة إلى الإنجليزية إلى الرئيس أوباما أثناء زيارته الرسمية إلى وارسو عام 2011, ليتوسّع بعد ذلك نطاق انتشار الأدب البولندي في أوروبا وخارجها عبر ازدهار حركة الترجمة وأجندات الدبلوماسية الثقافية البولندية.  

أما حركة ترجمة الأدب البولندي إلى اللغة العربية، فقد تُرجم عدد محدود من المختارات الشعرية لأشهر الشعراء البولنديين منذ عصر النهضة العربية، وكان بعضها مترجم من لغة وسيطة غير البولندية. وأخيرًا عزّزت بولندا حضورها في الوطن العربي من خلال مشاركتها المتميزة في البرنامج الثقافي لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الثامنة والعشرين في عام 2018، وذلك بصفتها ضيف شرف هذه الدورة من المعرض. وقدّمت بولندا للقاري العربي أثناء المعرض كتيّبًا تعريفيًا بروائع الأدب البولندي المترجم إلى العربية، وملخصات تعريفية لأشهر الأعمال الأدبية البولندية التي يمكن لدُور النشر العربية أن تتولى ترجمتها.

        كان لتاريخ بولندا الطويل مع المقاومة والنضال السياسي من جهة والنهضة الثقافية التي حققتها من جهة أخرى أثرها البارز في الثقافة والأدب البولندي بصورة عامة، واستطاعت بولندا بجهود حثيثة إعادة تمركزها ثقافيًا من الهامش الأوروبي إلى المركز الأوروبي والعالمي من خلال الترجمة. 


قصيدة محادثة مع حجرة 


ظلت الحجارة رمزًا مهمًا من رموز الصمود والانتماء في الأدب البولندي الحديث والمعاصر؛ حيث صوّر عدد من الأدباء البولنديين في أعمالهم مشاعر الإنسان المضطربة في هذه الحياة من خلال إقامة علاقة مع الجمادات وعناصر الحياة من حولهم، ومنها الحجارة. ومن ذلك ما جسّدته الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا (1923-2012) الحاصلة على جائزة نوبل للآداب عام 1996، حين نظمت قصيدة جميلة بعنوان: "محادثة مع حجر" (Conversation with a Stone). 

 ولأن الأدب البولندي مكتوب بلغة تُعدّ من أقل اللغات الأوروبية شهرة في العالم، تأتي الترجمة، وخاصة إلى الإنجليزية، بوصفها وسيطًا مهمًا يفتح للقارئ العالمي نافذة يستطيع من خلالها التعرّف على ثقافة الشعب البولندي ويتلمّس انعكاسات هذه الثقافة وتاريخها في الفن والأدب. تُرجمت قصيدة فيسوافا إلى اللغات الأوروبية والإنجليزية والعبرية واليابانية والصينية. وجاءت الترجمة الإنجليزية للمقطع الأول من القصيدة كالآتي:

"I knock at the stone’s front door

It’s only me, let me come in.

I want to enter your insides,

have a look around,

breathe my fill of you.”

“Go away,” says the stone.

“I’m shut tight.

Even if you break me to pieces,

we’ll all still be closed.

You can grind us to sand,

we still won’t let you in.”


تُرجمت هذه القصيدة أيضًا إلى اللغة العربية كاملة، ونُشرت في مقال بالملحق الثقافي لصحيفة الخليج الصادرة عن دار الخليج في الإمارات العربية المتحدة تحت عنوان: "قصائد من الشاعرة البولونية فيسوافا شيمبورسكا" وذلك بعد وفاة الشاعرة بأيام عن عمر يبلغ الثامنة والثمانين. وجاءت الترجمة العربية للمقطع الأول للقصيدة كالآتي:

محادثة مع الحجر


"أدق على الباب الحجري


أنا ذا، اتركني أدخل 


قدمت لأراك، لزيارتك 


أشعر بأنفاسك.


*


اذهبي، قال الحجر،


أنا مغلق بالمفتاح 


حتى وإن كنت مهشمًا إلى قطع


سوف أبقى مغلقًا،


حتى وإن تحولت إلى رمال


لن أترك أحدًا يدخل."  


وبغضّ النظر عن الفرق الواضح بين جودة الترجمتين الإنجليزية والعربية، فإننا نجد في هذه القصيدة ملمحًا شعريًا مميزًا تنزاح به الشاعرة من حواراتها مع البشر والحيوانات والنباتات؛ لتقيم حوارًا مدهشًا مع "حجر" تتوسّل بالعبور إلى داخله! وهنا يأتي السؤال: لماذا اختارت الشاعرة أن تجري حوارها الشعريّ مع "حجر"؟! وما جمالية الحجارة الرمزية في هذا النصّ؟ من يقرأ شعر فيسوافا بصورة خاصة، مثل ديوانها "النهاية والبداية" المترجم إلى العربية، والأدب البولندي بصورة عامة يدرك أن لدى البولنديين علاقة خاصة مع عناصر الأرض التي يعيشون فيها؛ حيث تجعل فيسوافا من الحجارة مادة شعرية ذات قيمة وجودية تسمح لعبقريتها الشعرية بالتدفق والتحليق. تقول فيسوافا شيمبورسكا في كلمتها التي ألقتها أثناء تسليمها جائزة نوبل في الآداب:

"نعم، في اللغة المحكية التي لا تتأمل كل كلمة، كلنا نستعمل تعابير حياة عادية، "عالم عادي"... ومع ذلك ففي اللغة البولندية، حيث كل كلمة لها وزنها، لا شيء عاديّ وطبيعي. لا حجر ولا غيمة فوقه. لا يوم ولا ليل بعده... يبدو أن الشعراء سيكون لديهم الكثير دائما لعمله."

جاء الخيال المادي في هذه القصيدة متمثلًا في "حجر" رأته الشاعرة ينغلق على ذاته ويقاوم دخول الإنسان إلى عالمه الداخليّ حتى ولو كان ذلك دخولًا عابرًا. وبذلك يبدو "الحجر" في لغة فيسوافا الشعرية عنصرًا تاريخيًا يختزل معنى الصمود والمقاوم،, ولم يكن أبدا مجرد حجر عادي.


رواية حجرٌ على حجر 


"حجر على حجر" هي رواية بولندية ملحمية طويلة (تقع في حدود 534 صفحة) للكاتب البولندي الشهير ويسلاف ميسليوسكيا. نُشرت هذه الرواية باللغة البولندية أول مرة سنة 1984، وتُرجمت إلى اللغة الإنجليزية في عام  2010 تحت عنوان Stone Upon Stone، وصدر منها طبعات متتالية باللغة الإنجليزية بعد فوز المترجم الأمريكي بيل جونستون أستاذ الأدب المقارن في جامعة إنديانا بجائزة أفضل رواية مترجمة إلى اللغة الإنجليزية عام 2012، وهي جائزة سنوية تمنحها المنظمة الأمريكية The PEN Translation Prize للمترجمين الذين أسهموا في ترجمة الروايات المميزة  من لغات العالم إلى اللغة الإنجليزية. كما حصل جونستون في العام نفسه على جائزة جامعة روتشستر Three Percent لأفضل كتاب أدبي مترجم من أدب العالم الحديث والمعاصر إلى اللغة الإنجليزية؛ تقديرًا لجهوده في ترجمة هذه الرواية البولندية المميزة.

تتعمّق هذه الرواية في حياة بطلها "شيميك بيتروسزكا" Szymek Pietruszka، وهو رجل بولندي يعيش في إحدى القرى البولندية ويتأمل ماضيه والتغيرات التي طرأت على الريف البولندي على مر العصور. يستعيد شيميك ذكرياته عبر كل فصل من فصول الرواية التسعة، وتتشابك في الرواية موضوعات الأسرة والتقاليد ومرور الوقت، وترصد طبيعة تغيّر أفكار الناس بتغيّر خبراتهم ومواقفهم في الحياة. كما تستكشف الرواية تعقيدات الهوية والعلاقة بين الفرد وعائلته من جهة وبين الفرد ووطنه من جهة أخرى. تمنح الرواية القارئ فرصة الاستكشاف الثريّ للذاكرة البولندية وثقافتها وإرثها الدائم للماضي. ويسرد فيها ويسلاف قصّة بولندا وحياة الريف وقوة الانتماء للأرض من خلال توظيفه لأغنية شعبية شهيرة يرددها البولنديين. وتصدّر مقطع هذه الأغنية عتبة الرواية:

"Stone upon Stone

On stone a stone

And on that stone 

Another Stone"

 "حجرٌ على حجر

على الحجر حجر

وعلى ذلك الحجر 

حجر آخر" 


 جاء هذا التوظيف الذكي للحجارة بوصفها رمزًا مهمًا في ذاكرة الشعب البولندي الذي عانى طويلًا حتى استعاد استقلاله وحريته. فكانت الحجارة هنا هي الوتد الذي يشد الإنسان إلى أرضه، ويوثّق علاقته بأبناء ومكوّنات هذه الأرض، ويشهد على روح المقاومة لدى الشعوب. اكتفى غلاف النسخة البولندية الأصلية من الرواية بصورة "حجر" بارز على خلفية رمادية، على حين اختارت الترجمة الإنجليزية أن تصمم غلافًا يعكس صورة المناظر الطبيعية في بولندا الريفية كخلفية تعكس محتوى الرواية الذي يكشف عن تأثير الطبيعة الريفية في علاقات الشخصيات في الرواية وفي معتقداتهم وشعورهم بالانتماء إلى الأرض. 


وقفة أخيرة


تزخر آداب الشعوب الإنسانية بالثراء المعرفي والإبداعي والتاريخي، وتمنحنا الترجمة فرصة التعرّف على قراءة تاريخ الشعوب من خلال آدابهم، وإدراك طبيعة تعاملهم مع عناصر الحياة التي نملكها ويملكونها على السواء. ومن خلال هذه النافذة الوجيزة على ثيمة عنصر واحد من عناصر الحياة المتاحة في كل مكان في العالم وهو "الحجارة" وتجلياتها في الأدب البولندي نستطيع أن نقارن هذه الثيمة بحضورها في أدبنا العربي, وننظر في سُبل توظيفها. كيف جاء توظيف الحجارة في الأدب الفلسطيني وبعض أشعار نزار قباني مثلًا؟ وإلى أي مدى كانت الحجارة هي عنصر الحياة المشترك الذي يربط بين تاريخ الشعوب ومقاومتها للحروب والأزمات في مختلف الثقافات الإنسانية؟



غلاف رواية حجرٌ على حجر باللغة الإنجليزية

غلاف رواية حجرٌ على حجر باللغة البولندية        

الكاتب البولندي ويسلاف ميسليوسكيا  Wiesław Myśliwski 


الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا  Wisława Szymborska الحاصلة على جائزة نوبل للآداب عام 1996



        



أحدث منشورات

Comments


bottom of page