حسن عباس
للأحجار الكريمة ذاكرتها المشوبة بالدهشة والدم والبهجة، فلكل قطعة فريدة نصيبها من بذل كرامة الإنسان إن لم يكن دمه، قبل أن تتوج تاجًا على رأس ملك، أو تتألق على جيد حسناء، أو تقدم بوصفها رمزًا للارتباط والحب والوفاء. وقد عرفت الأحجار الكريمة عبر العصور برمزيتها للجاه والسلطة والنفوذ، لذلك كانت الملوك والأباطرة تبعد عامة الناس عنها، وذلك ببث دعاوى جلبها للنحوس والأحزان لصاحبها؛ فالألماسة العظيمة المجلوبة من الهند "كوه آي – نور" والموجودة في تاج الإمبراطورية البريطانية كان يجلب الحظ للإناث، لكنه يجلب الحظ السيئ للذكور! وكانت هذه الألماسة ملكًا للأمير المغولي بابور (١٥٣٠)، لكن الزعيم الفارسي نادر شاه تمكن من الاستيلاء عليها عندما فتح دلهي (١٧٣٩). ثم تغيرت ملكية الماسة باستيلاء دوراني الأفغاني عليها في منتصف القرن الثامن عشر، حتى أهديت لحاكم البنجاب مهراجا رانجيت وبعدها استولت عليها شركة الهند الشرقية، وانتهت ملكيتها للملكة فيكتوريا حسبما نصت عليه معاهدة السلام. وقصة هذه الماسة وحدها تشير إلى أن تاريخ الأحجار الكريمة في التيجان ومجوهرات الإمبراطوريات مليء باحتكار العظمة من جهة، والإخضاع من جهة أخرى.
تروي الأساطير حكايا من شأنها أن تروى من باب التندّر، من تلك القصص ما ينقل عن حجر يدعى بحجر السّم، ويزعم أنه لا تخلو منه خزائن السلاطين لما له من خاصية التحرّك إذا حضر السمّ كإشارة تنبيه. وقد نقل في كتاب سير الملوك أن سليمان بن عبد الملك طلب جعفر بن برمك ليكون له وزيرًا فأتاه من بلخ إلى دمشق في موكب تحفّه العزة والجلالة، لكن ما إن دخل عليه واستقر به المقام حتى عبس عبد الملك في وجه جعفر، وحوقل ثم طرده من مجلسه، فأدهش الحاضرين بذلك، ثم كشف لهم عن سبب ردة فعله حين أخرج لهما خرزتين -تشبهان الجزع في سوادهما- كانت قد تحركت بحضور السّم.
و من تلك القصص ما رواه القزويني في عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات عن حجر يدعى بالسّامور، حين هم النبي سليمان بن داوود (عليه السلام) ببناء بيت المقدس فأمر الشياطين بقطع الأحجار، فشكى الناس من جلبة قطع الأحجار، فجمع بني إسرائيل و علماء الجنّ لإيجاد حل لتلك المشكلة، فقال عفريت: إني لأعرف حجرًا فيه مرادك و لكن لا سبيل له إلا بإحضار طائر العقاب، فدعا سليمان النبيّ العقاب فسأله من أي البلاد تحمل هذا الحجر ، فقال يا نبي الله من جبل بالمغرب، فبعث الجنّ معه ليحملوا حاجتهم منه، فتم بناء بيت المقدس بلا جلبة ولا صخب.
ورغم أن التهادي ببعض الأحجار الكريمة محبب في كثير من الثقافات، إلا أن بعض أهل الظرف والأدب من العرب كانوا يتشاءمون من إهدائه خاصة إن كان على هيئة خاتم. إذ يروي أبي الطيب الوشاء في كتابه الفريد "الموشى" والمختص بآداب السلوك واللياقة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، أن ذوي المروءة وسروات الناس كانوا يتختمون بالعقيق الأحمر والفيروزج الأخضر، والياقوت الأسمانجوبي، والمعرانية الحمر، وغيرها من الأحجار الكريمة، إلا أن بعضهم تطيروا من هدية الخاتم وزعموا أنه يسبب القطيعة، ويذكر في ذلك أبيات تداولها من تطيروا بهذه الهدية:
وما كان هذا الهجر من طول بغْضَةٍ. ولكن بعض المزح للمرء قاتل
مزحت لحَيني مرة بخواتم لآخذه حلّــت عليّ النوازل
فصدّتْ ولم تعلم عليّ خيانة وطول صدود الخل للعقل سامل
وقول آخر:
إني مزحت، ولم أعلم، بخاتمه فكان منه ابتداء الهجر والغضب
قد كنت ما قال أهل الظرف أنكره وكان قولهم عندي من اللعب
إن الخواتيم فيها قطع وصلكم فقلت هذا لعمري غاية الكذب
حتى ابتليت فكان الحق قولهم أخذ الخواتيم فيه أكثر العطب
ويندر أن نجد حجرًا كريمًا قد أُولي عناية و بنيت عليه حضارة وطقوس يمتد مجدها إلى أكثر من ثمانية آلاف سنة كاليشم (الجاد) في حضارة الصين، حيث تفرّد في اقتنائه الإمبراطور في بادئ الأمر، إذ كان يُعتقد أنه إكسير الحياة الأبدية، و لم يكن مجرد حلية للتباهي و الزينة، بل جعل منه آنية شرابه وطعامه، وأثاث مجلسه، وقد كثرت القصائد و الأمثال فيه، حتى قال الصينيون: من الأفضل أن تكون كسرة جاد محطمة على أن تكون آنية فخارية سليمة، وقالوا في ثمنه: الذهب و الفضة لهما ثمن أما اليشم فلا يقدّر بثمن.
بالرغم من أن امتلاكه دلالة على الثراء إلا أن المعلم كونفوشيوس أشاد بالفضائل الخمس لليشم وربطها بفضائل الإنسان التي يجب توفرها في الرجل الحقيقي، فبريقه رمز التراجم والنزوع للخير، فشفافيته ترمز للعدل، وتناغمه يرمز للحكمة، وصلابته للشجاعة، وأما عروقه المجدولة فترمز للأمانة وضبط النفس، فعلى أولئك الذين يعشقون اليشم أن يكونوا رجالًا حقيقيين. كما ابتكر الحرفيون أجراسًا من اليشم ذي الرنين اللحني لإنتاج الألحان السماوية المرتبطة بالطقوس الدينية المقدسة، وقارن الشعراء الصينيون صوت اليشم بصوت الحبيب وأطلقوا عليه اسم "جوهر الحب المركّز".
في عام ٢٠٠٨ م ، ولأول مرة في تاريخ الرياضة، استخدم حجر اليشم في صناعة ميداليات أولمبياد بكّين على شكل تنين، لترمز تلك الميداليات للنبل و الفضيلة ولتجسد القيم الصينية العريقة للأخلاق والشرف.
واللافت هو ذلك التماهي بين الحضارات الشرقية والغربية دون وجود دليل على تواصلها؛ ففي حضارة الماوري في نيوزلندا نجد اليشم حجرًا مقدسًا يدعى حجر الإله، له القدرة على تعزيز جودة الحياة ومرتبط في تلك الحضارة بالقوة والشجاعة والخصوبة وحسن الحظ. ويجد زوار نيوزلندا الحلي والمعلقات التذكارية المصنوعة من الحجر الكريم الأخضر والمعروفة بالتيكي أو البونامو، ويكثر التهادي بها، وتتوفر بكثرة في متاجر الهدايا والتذكارات. تروي هذه التعليقات والقلائد الكثير من القصص عن تلك الحضارة؛ فالتعليقة على شكل الدمعة هي رمز للمواساة؛ ترمز للقوة والشجاعة، وتهدى لمن يعيشون حالة فقد لتخبرهم أنهم ليسوا وحدهم في الفقد والألم. وهناك التعليقات على شكل لفة لا نهائية وترمز للصداقة والحب والولاء. ولعل من أطرف قلائد الحجر الأخضر لدى الماوري ما يعرف بالـ "هي ماتو" التي تنحت على شكل خطاف سمك، وهي تمثل السفر الآمن عبر الماء، وقد نشأت من أسطورة ماوي الذي اصطاد سمكة كبيرة باستخدام صنارة منسوجة وخطاف مصنوع من فك جدته، ويعتقد أن هذه السمكة هي إحدى الجزر التي تشكل الأرخبيل النيوزلندي. أما الـ"هي تيكي" فهي كنز محترم في حضارة الماوري، ويروى أنها تحمل ثروة من المعرفة، ومن يرتديها يمتلك صفات العظمة والحكمة، كما أنها تعويذة الحظ السعيد والخصوبة. ويروى أن إحدى العائلات الحاكمة في حضارة الماوري "هي- تيكي" استعانت بساحر ليحدد لها مكان اليشم الخام، وكان الساحر ألتونغا يقود عملية البحث وتحرسه أرواح الأجداد. فكان كلما دخل في غيبوبة استّدل على مكان الحجر الكريم بتوجيه الأجداد كما يعتقد. وقد حافظ الماوريون على الشكل الأصلي لتلك الحجارة قدر الإمكان، فكان النحاتون يعملون ببطء وأناة للوصول إلى شكل روح الحجر التي بداخله. كما كانت هذه الأرواح تحمي الأسرة من الانقراض كما يعتقدون، فإذا صارت العائلة على وشك الانقراض، يُدفن آخر ذكر من أفرادها مع قلادة اليشم، ويأتي الذكور من أقرب العائلات إليهم للبحث عن الحجر إذ يعتقدون بأن أرواح الأجداد ستستمر بتوجيههم لأحجار اليشم وحمايتهم. وهكذا عاشت حكمة الأسلاف في هذه التعليقات في انتظار العودة إلى عائلاتهم مرة أخرى والاتصال بأمواتهم. وهذا هو الحال في ثقافة المايا حتى جواتيمالا الحديثة والأزتك، فاليشم لديهم أثمن من الذهب، يرتبط بالخصوبة والألوهية والنبل والحياة. وقد كانوا يضعون حجر اليشم الأخضر في أفواه موتاهم للاعتقاد بأن تلك الأحجار الخضراء ترمز إلى القلب. وقد استمر ذلك الارتباط بالحجر الثمين حتى دخول الغزاة الأسبان، وقتها قال الإمبراطور الإزتكي موكتيزوما كلمته بعد رفض كورتيس الأسباني هداياه الثمينة: الحمد لله أنهم لا يسعون إلا للذهب والفضة، إنهم لا يعرفون شيئًا عن اليشم!
Comments