نصير شمّه
الصوت هوية ومفتاح للأذن كي تتعرف إلى محيطها، والصوت كان قبل الكلمة، منه ترتبت الحروف وبعدها الكلمات. والصوت موسيقى ودلالة منذ بدء الخليقة وما قبل الآلات الموسيقية؛ حيث كان التعبير الصوتي عبر إطلاق صرخات أو نداءات للتعبير وللتعريف أيضًا بالجهة التي تطلق النداء. ويُشكل الصوت في المنزل وعبر عائلة صغيرة أو كبيرة ملامح الشخص، لذا عندما تنادي الأم على طفل من أطفالها يُدرك الجميع أنه صوت الأم، بمعنى آخر هويتها. هكذا تتشكّل هوية عائلة صغيرة ثم تكبر الدائرة للعائلة الأكبر ثم تنمو لتشمل منطقة ومدينة.
تشكلت الهوية الموسيقية قبل اختراع اللغة، لهذا عندما نجد صراعات كبيرة تدور حول تراث موسيقي لمنطقة أو أصل لأغنية أو مقطوعة موسيقية نفهم أننا لا ندافع عن مقطوعة موسيقية وحسب، وإنما ندافع عن تاريخ عميق شكّل عبر التراكم هويتنا. فقد عبّر الجاز عند ظهوره عن هوية آلام الزنوج الذين رضخوا لعبودية أسست لهم هوية موسيقية بدأت عند العمال ممن يجمعون الحصاد لتبلور مشاعرهم وتعبّر عنهم، ورسم الجاز حينها شكل أفراده بل جعل سيماهم واضحة تمامًا نراها كلما أغمضنا أعيننا ونحن نستمع إلى موسيقى الجاز.
كانت الهوية الموسيقية وما زالت تعبيرًا لافتًا لحقب تاريخية ولجغرافيا ولأعراق وأثنيات وذهبت أكثر من ذلك عندما اختلطت بالهوية الدينية للأفراد والجماعات وشكلّت مراجع عميقة لحياة الجماعات والمناطق.
ويمثل الصراع على الإرث الموسيقي في جوهره صراعًا على الهوية والأرض والانتماء، فكما تشكّلت الهوية الفردية للشخص من الجغرافيا شهدت هذه الهوية حروبًا ومعارك من محيطها الذي استلهم أو استعمر موسيقاها وأعاد إنتاج هذا الإرث بطرق مختلفة أو مغايرة في سطحها ومتشابهة في العمق منها.
وشكّلت موسيقانا العربية هوية لجغرافيا كما تشكّلت هي نفسها من عادات وتقاليد، ولعبت التضاريس الجغرافية دورًا رئيسًا في رسم ملامح الاختلاف في داخل الهوية نفسها. هكذا وجدنا بحّة صوت أبناء الجبل تختلف عن تلك الآتية من الوادي أو السهل أو بالقرب من البحر أو الصحراء، وكذلك الحال لو درسنا اللكنات واللهجات المختلفة في قلب اللغة نفسها. بمعنى أن تضاريس الجغرافيا شكّلت هوية الحبال الصوتية فتشابه الأفارقة على سبيل المثال ببحّة أخاذة تخرج من أصواتهم فيما تشبع أهل البحر بدفء أصواتهم، وذهبت مناطق الريف للتعبير بطبقات وأهازيج اختلفت عن تلك التي أتت من المدن. تبلورت الهوية الموسيقية من عوامل عديدة؛ لعب فيها الصوت دورًا رئيسًا، وإذا أردنا تعبيرًا أكثر دقة نقول: إن الحبال الصوتية نفسها كانت أحد العوامل المهمة في تشكيل هذه الهوية وفي منحها إرثها الممتد في المنطقة. لذا نلاحظ أن أصوات أهل الجبال اتسمت بالقوة التي أملتها عليها طبيعة تضاريس المنطقة، وبالتالي انعكست على الإرث الموسيقي الذي تشكّل في المنطقة نفسها. ومن الممكن ملاحظة هذا من خلال مراقبة أصوات الطيور عبر مناطق مختلفة؛ فنوارس البحر تدلّ على أسرابها بطبقات أصواتها، وتختلف عن تلك التي تحلق أعلى منها، كما تختلف عن تلك الطيور التي لا تمتلك أجنحة قادرة على التحليق العالي. والبشر مثلهم مثل الطيور، ومثلهم مثل الطبيعة، وموسيقاهم هي امتداد لكل هذا. فالطبيعة كانت أول مؤثر موسيقي ظهر في هذا الكون، والتغير المناخي كان سببًا في استخدام آلات موسيقية معينة، أو نغمات لها مشاعرها المختلفة.
وفي مناطقنا العربية، تشكّلت عبر حقب كثيرة هوية متميزة تعبّر عن المنطقة وسكانها، وداخل هذه الهوية تشكلت هويات موسيقية كأنما ترسم بؤرة مركزية تتوزع خيوطها باتجاهات مختلفة تتمايز عن بعضها وتصب كلها في جوهر هوية عميقة واضحة الملامح.
وإذا تحدثنا عن الاستعمار الذي حلّ في المنطقة العربية، أو عن الرحلات التي كان يقوم بها بعض المستكشفين، نجد أن هويتنا الموسيقية استطاعت أن تؤثر في المحيط الذي استعمرها، وغالبًا ما كان المستعمر يحاول طمس الهوية الموسيقية الحقيقية للمنطقة من خلال سرقتها ونهبها أو استلهامها محاولًا توضيب تاريخ ينسبها إليه، أو محاولات استبدال هذه الهوية بمزيج يجمع بينها وبين هويته كمستعمر.
وربما كان العود من أكثر الآلات الموسيقية التي شهدت صراعًا في منطقتنا. ولنعد بالتاريخ إلى بدايات ظهور العود عند الحضارتين الآكدية والآشورية ومن ثم الحرب المحمومة في المنطقة في محاولات لطمس تاريخ الآلة ونسبتها إلى الفرس على سبيل المثال، وهذا لم يحدث في التراث الموسيقي فحسب بل انسحبت هذه الحرب على أنواع الفنون كافة، كالمنحوتات في الحضارات القديمة أو الرُقم والنقوش، وفن العمارة. وبالرغم من تركيز هذه المقالة على الهوية الموسيقية إلا أن هذه الهوية لا تنفصم عن الذائقة الفنية التي تشكلت في المنطقة. ونذكر مثالًا على ذلك أن المستشرق جورج هنري فارمر وغيره كتبوا تأريخًا مختلفًا عن الواقع الموسيقي في المنطقة دحضه الباحث دكتور صبحي أنور رشيد وغيره من الأكاديميين الذين وضعوا نصب أعينهم آثار الحروب الثقافية على هوية المنطقة.
ومع تعرض المنطقة العربية برمتها لأكثر من استعمار تداول عليها وحاول طمس هويتها، نجد أن هذه الهوية الموسيقية ظلّت تقاوم وهي تستقي من التراث وتجدّد وتتأقلم مع المتغيرات العالمية محتفظة بأساسها المتين. تعرّضت منطقتنا لحرب عصر ما بعد الاستعمار post-colonial age ، ذلك الصراع الذي تأجج منذ أزمان بعيدة وما زال مستمرًا، وهي حرب ضروس رافقت التاريخ وما زالت مصرة على المضي بهذه الحرب نحو المستقبل.
الحفاظ على الهوية الموسيقية لا يقل أهمية أبدًا عن الحفاظ على الحدود الجغرافية للمنطقة، فهذه الهوية ترسم رسمًا تفصيليًا للسياق الإنساني الذي عبَر على أرضها، كما تؤرخ للطبيعة بتحولاتها القاسية في المنطقة لحر صحرائها أو برد جبالها، وتأتي بكل تراكمها لتعبّر عن الإنسان الذي ترعرع على هذه الأرض. وكما يحارب لأجل مساحة تراب أو مجرى نهر، على إنسان هذه الهوية أن يحارب لأجل هويته الموسيقية، ويحارب لأجل هويته الثقافية، فليس بالكلام وحده يُكتب التاريخ، بل إن الفنون تستطيع أن تدون ما لا يستطيعه المؤرخ؛ فكاتب التاريخ الذي يُسجّل اندحار جزيرة في البحر لا يصوّر إنسان الجزيرة غارقًا يودّع آخر ما تبقى له قبل أن يبتلع البحر أنفاسه، وهذا مثلًا ما قرأناه عن سفينة التايتانيك التي ذكر التاريخ الكثير عنها، ولكن عندما تحولّت إلى أثر فني بما فيه من سرد وموسيقى أصبح تأريخًا مختلفا لغرق التايتانيك؛ لأن التأريخ هذه المرة سرد قصة إنسان التايتانيك وليس الجسد الضخم للسفينة وحسب.
تؤرخ الموسيقى للإنسان وتنتصر له غير مكتفية بالحدود الجغرافية لهذه المنطقة، بل تعمل أساسًا على تأريخ ما يُغفله التأريخ وتسجيل الوقائع غير المعلنة في الكتب؛ لأن حدودها ليست مرئية أبدًا بل مرتبطة بأرواح البشر الذين أقاموا وعاشوا في هذا المكان ومرتبطة أيضًا بأحوالهم النفسية وبأفراحهم وأتراحهم. لذا يجب أن ينتصر الإنسان لهويته ليس من باب ضيق الأفق، ولا من باب الانغلاق على الذات، بل من خلال الاستناد على المعرفة الأساسية بالتراث ومن ثم العمل على تطوير وإغناء هذا التراث، أي أن يتمكن صاحب الهوية من هويته ثم يعمل على منحها حياة جديدة تليق بالمستقبل، عكس عدم المعرفة والدراية بهذا الإرث التي تبني هجينًا لا يليق بتراث المنطقة.
تشكّل المهرجانات الثقافية والفنية ضرورة في الحروب الثقافية لأنها تبني معرفة وتؤكد على هوية وتمنح هذه الثقافة الأنفاس لتستمر في توهجها. ولهذا نجد دولًا عديدة ترصد ملايين الدولارات للعمل الثقافي، تمامًا كما ترصد ميزانياتها لحروب المياه وللتغير المناخي أو للحروب على الحدود الجغرافية.
د. نصير شمّه موسيقار عالمي حاصل على بكالوريوس من المعهد العالي في بغداد، وماجستير ودكتوراه في فلسفة الموسيقى من الجامعة العربية في واشنطن. أسس "بيت العود" الذي انتشر في عواصم الشرق الأوسط كجزء من مشروعه العالمي لنشر ثقافة العود. نصير شمّه هو فنان اليونسكو للسلام منذ 2017.
Comments