top of page
سياق

المقال | الموسيقى كقطعة بازل: هويتنا الموسيقية، منطلق معرفي

صفية الجفري




سياق معرفي 

حضور (الموسيقى- الأوتار) في ثقافتنا الإسلاميّة حضور ملتبس، فعبر التاريخ الإسلامي، نُقل عن بعض الصحابة والتابعين سماعهم للموسيقى، وطربهم بها، ونقل ذلك أيضًا عن علماء القرون الأولى وما بعدها، وناقش فقهاء متمكنون مسألة جواز الموسيقى، وألّفوا في ذلك مؤلفات(1) ترفع ما نقل من وهم الإجماع على تحريم الأوتار الموسيقية(2)، ومع هذا كله فإن سماع الموسيقى فضلًا عن تعلّمها أو ممارستها كهواية أو مهنة لا زال في الوعي الثقافي الجمعي مرتبطًا بالبعد عن مسلك التديّن. ولعل بعض السبب في ذلك، هو قلق كثير من المتصّدرين في الخطاب الديني من أن توسع على الناس مساحات الحلال لئلا يقودهم ذلك إلى التساهل في دينهم. قلت بعض السبب لأن هناك أسبابًا لها نصيبها من القوة وترتبط ببعد ثقافي ظرفي كانت الموسيقى فيه جزءًا من ممارسات ترتبط بالتفريط الديني والأخلاقي، فينظر إليها كجزء من صورة مركّبة يجتمع فيها الخمر والزنا والفساد، ومن ثمّ كان من جملة الأدلة على تحريم (الموسيقى– الأوتار) استصحاب هذه الصورة غير الأخلاقية، والبناء عليها في فهم النصوص المحتمِلة الواردة في موضوع الموسيقى.

لا أريد في هذه المقالة أن أفصّل في بيان الخلاف الفقهي في حكم الموسيقى(3) فهو مما أشبع القول فيه، ولا أن أتناول حضور (الموسيقى- الأوتار) عبر العصور في حياة نخبة من الفقهاء والمحدّثين(4) رغم قوة القول بتحريم الموسيقى منهجيًا، وسطوته واقعًا عند جمهور أهل العلم الشرعي، وإنما سأتناول في هذه المقالة الموقف المعرفي الكلي الذي يصوغ علاقتنا كمسلمين بالموسيقى؛ ما السياق الذي تصبح الموسيقى فيه جزءًا أصيلًا من علاقة وجوديّة مطمئنة بالله -عز وجل- وبدين الله، دون تشوش أو كتمان لمشاعر تتعلق بالشعور بالذنب حيال ممارسة يعتقد البعض أنها معصية يحتاج إلى التوبة عنها. 

ميزان العقول 

كان للصحابي عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- جوارٍ عوّادات –أي يعزفن على العود- فدخل عليه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فرأى العود، فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله  صلى الله عليه وسلّم؟ فناوله له، فتأمّله ابن عمر وقال: هذا ميزان شامي(5). فقال ابن الزبير: توزن به العقول(6).

عبارة ابن الزبير هذه: "توزن به العقول" هي عندي مدار الموقف المعرفي الديني من الموسيقى، فالموسيقى ارتقاء بالعقل من وراء الروح، وصور هذا الارتقاء بعضها ذاتي، وبعضها اجتماعي، وبعضها ثقافي، حيث نظرنا إلى الموسيقى كقوة ناعمة. 

لعل الإشكال الأساس دينيًا في الموقف من الموسيقى، والأوتار منها تحديدًا، هو إشكال يتعلق بأمر خارج عن الموسيقى، وهو إشكال (الهيئة الاجتماعية)(7) كما هي العبارة الفقهية، أو إشكال سياقي كما هي عبارتنا المعاصرة، في أي سياق سيتعلّم الموسيقيّ هذا الفن، وفي أي سياق سيمارسه؟ وفي أي سياق سيكون الأنس من المتلقي بهذا الفن، وما موقع الموسيقى في حياة الفنّان أو المتلقي؟ هل هي غاية لذاتها، أو هي وسيلة للارتقاء بإنسانيته، والتحقق باستقامة سلوكه، وطهارة قلبه بحيث تنتظم في سياق واحد مع بقية الوسائل التعبّدية من شعائر وأخلاق وأعمال بر واجبة ومستحبة؟ 

فإذا ضبطنا الإطار العام الذي جُعلت فيه الموسيقى وما يتصل بها من كلمات مغنّاة، بحيث كان إطارًا لا فحش فيه ولا فساد، وكان هذا الفن له رتبته في سلّم الأولويات عند المسلم بحيث لا يعطّله عن واجب يتعلق بعباداته أو صلاح أمره أو علاقاته، ولا يكون وسيلة إلى محرّم نفسي أو سلوكي أو اجتماعي،  فإن ذلك كله يكون محققًا لمصلحة لها اعتبارها شرعًا، وتكون هذه المصلحة وسيلة لجلاء القلب والعقل.

ولا يجوز للمسلم أن يستمع إلى غناء يحزن قلبه حزنًا يضرّه، أو يؤجج شهوته، أو يثبّط همّته، بل ولو كان المستمع في حال تألّه -أي حال تجتمع فيها الروح على معاني التأليه لله- فقد اشترط الإمام الغزالي أن لا يبحر المستمع في بحر المجازات ما لم يكن مُحكِمًا لظاهر العلم الشرعي لئلا يتعبّد الله -عز وجل- بباطل(8).  

 وسأنقل نصّين ساقهما الإمام الغزالي في الإحياء نقلا عن بعض الحكماء، أراهما نموذجًا عاليًا للمصالح المعتبرة التي يستحسنها الشرع. 

أحدهما: "نتائج السماع استنهاض العاجز من الرأي، واستجلاب العازب من الأفكار، وحدّة الكالّ من الأفهام والآراء، حتى يثوب ما عزَب، وينهض ما عجز، ويصفو ما كدر، ويمرح في كل رأي ونيّة، فيصيب ولا يخطئ، ويأتي ولا يبطئ"(9).  

والثاني: "من حزن فليسمع الألحان، فإن النفس إذا دخلها الحزن خمد نورها، وإذا فرحت اشتعل نورها، وظهر زبرجها –أي حسنها- فيظهر الحنين بقدر قبول القابل، وذلك بقدر صفائه ونقائه من الغش والدنس"(10)

فالغناء قد يكون وسيلة لراحة القلب بعد عناء، وصفاء الذهن، وتجلّي العقل، وانشراح الصدر، مما يعين على حسن الرأي، وسداد القول والعمل. قد يحتاجه المربّي ليجدّد نشاطه في تربية أبنائه، وقد يشاركهم ما يكون ذكرى تكون لهم عونًا وسندًا، وقد يحتاجه أهل الفكر ليصفو ذهنهم ، وقد يحتاجه المرء بعد أو أثناء عمل شاق ليعينه وينهض بهمته كما ينهض الحداء بالجمال، وقد يحتاجه مكسور القلب لينشط من عقال، وقد يكون سببًا لوقت صاف يجتمع فيه الأهل على ما يقوّي رابطتهم. 

ودون هذه المنزلة منازل، ولعل عبارة الإمام الغزالي تجمع المراد في هذا السياق، قال: "اللهو مروّح للقلب، ومخفف عنه أعباء الفكر، والقلوب إذا أكرهت عميت، وترويحها إعانة لها على الجد، فالمواظب على التفقه مثلًا ينبغي أن يتعطّل يوم الجمعة، لأن عطلة يوم تبعث على النشاط في سائر الأيام، والمواظب على نوافل الصلوات في سائر الأوقات ينبغي أن يتعطّل في بعض الأوقات، ولأجله كُرهت الصلاة في بعض الأوقات، فالعطلة معونة على العمل، واللهو معين على الجد، ولا يصبر على الجدّ المحض والحق المر إلا نفوس الأنبياء عليهم السلام، فاللهو دواء القلب عن داء الإعياء والملال، فينبغي أن يكون مباحًا، ولكن لا ينبغي أن يُستكثر منه كما لا يُستكثر من الدواء" (11).

ذكر الإمام الغزالي هذا النص في سياق بيان حكم سماع الغناء الذي يذكّر الإنسان بربه، وكلامه على شرطه فيما يجوز وما لا يجوز من الآلات الموسيقية، وهو أيضًا في سياق ينظر إلى الغناء كلهو عارض لا كأمر أصيل ثقافيًّا، مع كون ما ذكره من فوائد تترتب على هذا الأمر العارض ينقله إلى الأصالة، وإنما يأخذ منه الإنسان ويترك بحسب ما فيه صلاح حاله كسائر الأمور المباحة، والغناء في عصرنا -كما الشعر- يعبّر عن هويّة الشعوب، وميزان ينبئ عن عقولهم، وقيمهم الأخلاقية، ونضجهم الإنساني، وهو جسر ثقافي يعزز الاحترام والمكانة والتآلف. 



خط رفيع

يؤرقني دائمًا سؤال الاتساق، الاتساق بين المرجعية التي أؤمن بها، وبين ممارساتي اليومية. يتجاوز كثيرون هذا السؤال في مسائل حياتية باتت جزءًا أصيلًا في حياتهم، كمسألة التعامل مع الموسيقى، أو لأقل إنهم يعتذرون لأنفسهم عنه، بمواءمة من عمق الموقف المعرفي الذي يؤمنون به، فالإسلام مساحة التوبة فيه واسعة، وفيها موازنات لا تجعل المحرّمات كلها في مرتبة واحدة. ومن هذا البراح في فقه التوبة، يتساهل كثيرون في خلق نمط حياة يبتعد في بعض جوانبه عن مرجعيتهم الدينية، وينظرون إلى موقفهم السلوكي هذا كتصرّف جزئي وليس كارتباك معرفي يتعلق بمسألة الاتساق بين المرجعية والسلوك.

أرى أن هناك خطًا رفيعًا يفصل بين أن تنتمي تصرفاتنا التي تخالف مرجعيتنا (الدينية– القيمية) إلى الضعف البشري النبيل، وتكون من قبيل الاستثناء الذي لا يشغّب على القاعدة، وبين أن تكون هذه التصرفات هي مظهر لاضطراب موقفنا المعرفي وعدم اتساقه. وأظن أن الإشكال هنا يتعلق بارتباك معرفي -يصدّر في الخطاب الديني- يجعل المسلم مطالبًا بالتزام مذهب معين في المسائل الاجتهادية دون مراعاة لا لطبيعته الخاصة، ولا لثقافة عصره. 

لا تتعلّق فائدة الثراء الفقهي -من حيث تعدد الأقوال الفقهية في المسألة الواحدة- بالممارسة الفردية فحسب، بل إن تفعيل هذا الثراء ضرورة معرفية يستند إليها المسلم في صياغة هويّة تشبهه، بتجدد الأحوال والزمان والمكان. 

تتمثل الضرورة المعرفية لفقه السعة (ومنه تعدد الأقوال الفقهية في المسألة الواحدة) في مساعدة المسلم على بناء هويّة كبازل مكتمل، كل قطعة فيه في مكانها، تخلق مشهدًا متسقًا لا اضطراب فيه. 


صفية الجفري: باحثة شرعية، تقدّم رؤية تجديدية في المسائل الاجتماعية والأسرية. حاصلة على الماجستير في الفقه الإسلامي. صدر لها كتاب: الثبات والتغير في الحكم الفقهي. ولها مقالات بحثية وثقافية في مجلات ومنصات سعودية وعربية.

  1. منها: ما كتبه الزبيدي في شرح إحياء علوم الدين في كتاب السماع والوجد، وما كتبه الشوكاني في نيل الأوطار في باب ما جاء في آلة اللهو، وما كتبه ابن حزم في المحلّى بالآثار في كتاب البيوع في مسألة بيع آلات اللهو. 

  2.  ممن نقل الإجماع، ابن حجر الهيتمي في كتابه: كف الرعاع عن محرّمات اللهو والسماع.

  3. اتفق جمهور أهل العلم على جواز الغناء من غير آلة موسيقية. والاختلاف في حكم الغناء -عمومًا- إنما يتعلق بالغناء الذي تصحبه آلة، إذ اختلفوا في تحريم بعض الآلات كالعود. وهناك تفاصيل مهمة بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه تُراجع في مظانّها، منها ما يتعلّق بالكلام المغنّى، ومنها ما يتعلّق بالمغنّي، ومنها ما يتعلّق بالمستمع، ومنها ما يتعلّق ببيئة الغناء. 

  4. استفاض د. محمد الصيّاد في النقل التاريخي الموثّق لحضور الموسيقى في الحياة اليومية لنخبة من الفقهاء والمحدّثين والقرّاء، في مقالته: فقهاء لكنّهم موسيقيون، الجزيرة نت، نشرت في 11/ 1/ 2022.

  5. لعل المراد أنه صنع في بلاد الشام.

  6. إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، مرتضى الزبيدي.

  7. إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، مرتضى الزبيدي.

  8. إحياء علوم الدين، الغزالي، كتاب السماع والوجد.

  9. إحياء علوم الدين، الغزالي، كتاب السماع والوجد. ولا يشغّب على هذا النقل أن الإمام الغزالي يقول بتحريم الأوتار تحديدًا، فالنص هو في الأثر الحسن للكلام المغنّى ويدخل فيه تبعًا أن تصحبه آلة موسيقية سواء أكانت مباحة عمومًا كالدف، أم مباحة عند بعض العلماء كالأوتار. هذا مع كون الغزالي ذهب لحرمة الأوتار لأمر خارج يتعلّق بالهيئة الاجتماعية، وناقش الزبيدي ذلك في شرحه للإحياء.

  10. المرجع السابق.

  11. المرجع السابق.


٢٢٢ مشاهدة

أحدث منشورات

مقدمة العدد | دَوزنة!

هيئة التحرير يخرج المولود معلنًا عن حقه في سمعنا، يصرخ فنعلم أنه بخير وصحة جيدة، فإن وُلد في سكوت، تنامت حوله المخاوف والفحص السريع لغياب...

سلالم | سردية الموسيقى

فاتن ماجد البليهشي باحثة دكتوراه في الأدب والنقد بجامعة الملك عبد العزيز إن الجدال حول أساس الموسيقى، الذي يتلخَّص في تبنِّي فريق من...

Comments


bottom of page