top of page
سياق

تشكيل | عن سرديات اللون


نوف السماري

فنانة تشكيلية



وردت مفردة "السرد" في المعاجم العربية عبر التاريخ بمعنى النسج وحسن السبك، مما يتضمن بناء الأحداث والشخصيات والزمان والمکان أثناء تسجيل أشعار العرب قديمًا، وما يتناقلونه في الرواية التاريخية ممزوجًا بالعاطفة، وكذلك الموقف من القصص القديمة التي شقت طريقها حتى وقتنا الحالي عبر الزمن. ومنذ قديم الأزل والإنسان يجرب الفنون بتعبيرها المختلف الذي يتفاوت ويتشكل ويتطور بمرور الوقت والأزمنة. وفي عالم الفن البصري الساحر، حيث تزين الألوان التعبيرية والأنماط المتباينة اللوحات أحادية اللون، يظهر شكل مختلف من رواية القصص يتضح في التأثير العميق للسرديات في التعبير الفني، إذ يتكثف عند بناء اللوحة في السياق الأفقي ما يعرف  بـ"السرد التشكيلي للفن"، الذي يقصد به تجلي السرد في محتوى العمل الفني، وبصورة أدق محتوى ما يُرسم وليس كيفية رسمه.


يحكي فن السرد قصة أُلقيت شفويًا أو نصًا تنعكس صوره من خيال الفنان واضعًا شيئًا من التفاصيل غير المعروفة ليرسم في مخيلتنا المشهد كاملًا. يمكن أن يكون سبب ذلك هو القبض على لحظة من الزمن أو استنتاج سلسلة من الأحداث التي جرت خلال فترة زمنية معينة. تتفاعل مشاعر المشاهد مع العمل الفني السردي عادة؛ للبحث عن أصل القصة أكثر من تكوينها وتاريخها أو حتى دوافعها، وعادة يكون بالطريقة التي يستخدم فيها الفنانون الوسائط البصرية (كاللوحات، والمنحوتات، والرسومات) لنقل قصص أو أحداث معينة معتمدين فيها على الصور والرموز والعناصر الفنية بدلًا من الكلمات لتوصيل الرواية أو الفكرة.


حين يقدم السرد في الفن التشكيلي بصورة مباشرة أو غير مباشرة،  حسب قدرة الفنان على تنظيم العناصر البصرية، مثل: اللون، والتكوين، والحركة لخلق قصة أو إيحاء ضمني، فإن ذلك التقديم لا يكون دائمًا واضحًا أو حرفيًا؛ بل يكون في كثير من الأحيان مجرد اقتراح أو تعبير عن مشاعر حول فكرة تتعلق بموضوع معين. ولو أخذنا -على سبيل المثال- انتقال النص للصورة في رواية تاريخية مثالية مثل لوحة مشهد العشاء الأخير ليسوع مع تلاميذه الاثني عشر، التي وردت في إنجيل يوحنا عبر ثقافة الدين المسيحي وتعليماته وكتبه -وتحديدًا اللحظة التي تلت إعلان يسوع أن أحد تلاميذه سيخونه–، نجد أن تعامل اللوحة مع الفضاء وإتقان المنظور ومعالجة الحركة والعرض المعقد للعاطفة الإنسانية جعلها واحدة من أكثر اللوحات شهرة في تاريخ الفن عند الغرب بصورة أخص، عدا أنها أحد أشهر أعمال الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي التي يرى بعض المؤرخين أنها عمل محوري نحو الانتقال إلى ما يسمى الآن عصر النهضة العليا. 


لوحة العشاء الأخير– ليوناردو دافنشي ١٤٩٨


العشاء الأخير– بيتر بول روبين ١٦٣١


يُعدّ هذا العمل مثاليًا بمعيار الفن السردي الذي يجب أن يستوفيه العمل الفني؛ بسبب وجود سلسلة من الأحداث في القصة (الماضي، والحاضر، والمستقبل)، حتى لو لم يُصوّر الثلاثة جميعًا في لحظة العمل. وقد يبدو أن هذا هو أصعب المعايير التي يجب استيفاؤها، وعلى الأغلب قد تكون الأحداث الماضية والمستقبلية معروفة لدى أحد المشاهدين من خلال الإلمام بالموضوع الذي يصوره الفن، بينما لا تكون واضحة للمشاهد الذي لا يشاركه هذه المعرفة، أي أن هذا المعيار قد يعتمد بصورة أساسية على ثقافة المشاهد. غير أن المشهد قد صُنع من فنانين عدة أو إن شئنا القول هنا رواة مختلفين، وعليه تختلف فيها بعض التفاصيل الصغيرة للمشهد من تصور ردود الفعل والألوان والتعبيرات، ومن الفنانين الذين رسموا القصة ذاتها "العشاء الأخير" بتفاصيل تختلف سواء من المكان والألوان والملامح، مثل لوحة "بيتر روبن" التي رسمها سنة ١٦٣١ حيث تختلف من زاوية المشهد، والتفاعل، وحتى عاطفة الفنان، وتوجد حاليًا في متحف بريرا في مدينة ميلان إيطاليا.


كارافاجيو– نارسيس ١٥٧٩- ١٥٩٩


ويمكن القول إن العديد من الأعمال الفنية المصنفة على أنها روائية قد لا تفي بمعيار التراتبية الزمنية، مثل: الأعمال التي تحمل قصص الأساطير اليونانية، كانت موضوعًا لكثير من الأعمال من خلال السردية التي كانت شائعة منذ زمن طويل. هذا الشكل من الفن السردي لا يمكن أن يفي بمعيار التسلسل إلا إذا كانت الأساطير مألوفة للمشاهد، أما إذا لم يكن المشاهد يعرف الأساطير، فستغيب معرفة ما حدث قبل ذلك وما يمكن أن يحدث بعد ذلك، وسيُنظر إلى الفن على أنه تمثيلي وليس سرديًا، ولعل من تلك القصص القديمة كانت نارسيس التي ذُكرت في كتاب دانتي اليجيري، ورُسمت أيضًا من رسامين عدة وبتفاصيل مختلفة. والأشهر بينها أعمال الإيطالي كارافاجيو التي توجد حاليًا في متحف الناشونال روما,  ورسم الشخصية محاولًا اختزال القصة بأسلوبه الرمزي في خلق الرواية، كما فعل سلفادور دالي في لوحة "تحول نارسيس" ١٩٣٧ والموجودة حاليًا في متحف تيت الحديث في لندن. 



تحول نارسيس- سلفادور دالي  ١٩٣٧


هناك أيضًا السرد من خلال الاستنتاج المتلقي لما قد يكون الموقف في العمل، وغالبًا يكون ذلك الاستنتاج تقديريًا وغير ثابت من المتلقي أيضًا، إذ يتضمن نوعًا من الحركة. ففي نهاية المطاف، لا يمكن للكائن الثابت أن يروي القصة. وفي هذا السياق نجد الفنان الفرنسي إدجار ديجا في أغلب أعماله ورصدها للحركة عرضًا في القصة، وكمثال على أعماله تأتي لوحة "الانتظار" التي تظهر فيها امرأتان تجلسان جنبًا إلى جنب على مقعد خشبي في ممر داخل أوبرا باريس لحفل رقص الباليه، حيث المرأة الموجودة على اليسار هي راقصة باليه ترتدي ملابس الرقص الكاملة, وتميل للأسفل ممسكة بكاحلها الأيسر بيدها اليسرى، على الرغم من أنها لا تنظر إلى ذلك الكاحل، بل إلى الأمام نحو فراغ الأرض، وتجلس على يمين الراقصة مباشرة امرأة ترتدي ملابس سوداء طويلة، تحمل مظلة سوداء غير ملفوفة وكأنها في حالة إما وصول أو استعداد للخروج بينما ترتدي حذاء أسود للمشي أو العمل وقبعة سوداء ومعطفًا أسود، ومعصميها متقاطعان على حجرها، وتنظر إلى الأسفل قليلًا: وجه الراقصة محجوب تمامًا وعيون المرأة الأخرى محجوبة بحافة قبعتها. تشغل المرأتان النصف الأيسر فقط من المقعد الخشبي، وتتركان النصف الآخر خاليًا, وهي حتمًا قصة مثالية متعددة الاتجاهات الاستنتاجية. وتوجد اللوحة حاليًا في متحف بول قيتي في لوس أنجلوس بالولايات المتحدة. 


لوحة الانتظار– إدجار ديجا ١٨٨٠ - ١٨٨٢


ظل الفن السردي ممزوجًا بالفن التشكيلي ليحكي الناس سردياتهم وأحداثًا أرادوا التعبير عنها سواء في اللوحات المرسومة على الجدران الصخرية للكهوف التي يعود تاريخها حتى أقدم البشر حيث استمر الفن السردي في لعب دور مهم لديهم. كان معظم البشر حينها أميين، لذا كانت الصور هي الطريقة الأمثل إن لم تكن الوحيدة لإيصال المعلومة إلى الجمهور، وقد كان ذلك عن طريق تحديد معايير الفن قديمًا من الأثرياء وذوي النفوذ الذين يستطيعون دفع ثمنه حين استُخدم لتمجيد القادة في عيون أتباعهم. وكان للكنيسة دور في استخدام الفن أيضًا لتقويم أتباعها وتحسين سلوكهم, وحتى في تسجيل الأحداث التاريخية التي كان يُحتفى بها، مثل: الحروب وسط لوحات سردية للأجيال القادمة، كان السرد في هذه الأعمال واضحًا ومتحيزًا في كثير من الأحيان، إلا أنها في خيارات أخرى قد قدمت محاولات نقل فظاعة الحروب والثورات، مثل: أعمال فرانشيسكو دي قويا في نقل المقاومة ضد الحرب الفرنسية آنذاك التي أصبحت من الأعمال الأيقونية للفنان الإسباني.


ومع فجر القرن العشرين، وثورات الصناعة، وتطور الحياة الإنسانية بفنونها، تنوعت المدارس الفنية وتطورت بتفاوت رواجها والاهتمام بها، ولم تعد هناك حاجة لإنتاج الفن بغرض تمجيد الأفراد أو لأغراض دينية أو لتوثيق الأحداث التاريخية، وتغير شكل السرد مع هذه التحولات على الرغم من عودة السرد في لوحات السبعينيات والثمانينيات مثل دالي وفرانسيس بيكون وضياء عزاوي، مما يشير إلى حب الناس وبحثهم المتواصل عن القصة. والدافع الإنساني في ذلك كله أشبه بمحاولة تكهن وجودي لكنه معاناة الآخرين وملهاتهم. ولطالما يعود الإنسان لذلك الفرد الذي يجتمع حول النار مساء مع أقرانه مشاركًا معهم قصص مخاوفه ومعتقداته وبطولاته وقلقه.



أحدث منشورات

Comments


bottom of page