أ.د. شهلا العجيلي
كتب لوكاش هذا الكتاب بين عاميّ 1936 و1937، وترجم إلى الإنجليزيّة في العام 1960، وظهر للمرة الأولى باللغة العربية في العام 1978 بترجمة صالح جواد الكاظم. وجورج لوكاش (1885-1971) هو فيلسوف وناقد هنغاريّ ماركسيّ، ولد في بودابست، وطوّر النظريّة الماركسيّة في الأدب متأثّرًا بفلسفة هيغل، ليعيد للذات موقعها في حركة التاريخ، إذ يجد أنّ التاريخ ينشأ عن التفاعل الجدليّ بين الذات والموضوع، وقد ظهر ذلك بوضوح في كتابه (التاريخ والوعي الطبقيّ)، وتعدّ أفكار لوكاش مرجعًا رئيسًا لدراسة الاتجاه الواقعيّ في الأدب، وعلم اجتماع الأدب، ومن أهم كتبه (نظرية الرواية)، و(دراسات في الواقعيّة)، و(بلزاك والواقعيّة الفرنسيّة). أمّا كتابه (الرواية التاريخيّة) فهو عمدة في موضوعه، والمرجع الأساس لكلّ دارس في نظريّة الأدب أو علم الجمال، أو تاريخ الأدب، أو الأدب الحديث، إذ يجد فيه الباحث الأصول الفلسفيّة والجماليّة لعلاقة الرواية (والملحمة والدراما) بتحوّلات التاريخ.
التنوير والثورة:
يشير لوكاش في الفصل الأول إلى أنّ الرواية التاريخيّة الكلاسيكيّة نشأت في القرن التاسع عشر، وأنّ ما سمّاه النقد بالرواية التاريخيّة في القرن السابع عشر ليس دقيقًا، فالأخيرة مجرد إيهام يركّز على المظهر، والأزياء، أو اختيار الموضوع، والتصوير المجرّد للزمان والمكان، من غير جوهر يمنح تلك العوامل حيويّتها، ويرى أنّ الرواية التاريخية قبل السير والتر سكوت كانت تفتقد (ما هو تاريخيّ على وجه التحديد)، ويتركّز سؤال هذا الفصل المؤسّس حول السرّ الذي يجعل من الرواية تاريخيّة، ليصل إلى أنّه حضور السمات الخاصّة بالعصر من الناحية التاريخيّة، ويوضّح ذلك بتحليل تاريخيّ فلسفيّ عميق. لا شك في أنّ لوكاتش اليساريّ العتيد يربط فهم الرواية التاريخيّة بالثورة الفرنسيّة، فهي منطلق الأساس الاجتماعي والأيديولوجي الذي انبثقت عنه الرواية التاريخية، لكنّه لا ينكر على الحركة التنويريّة فهم التاريخ، إذ تبدّى الحسّ التاريخيّ عند المنوّرين أمثال مونتسكيو وفولتير: إنّ "كتابة تاريخ الحركة التنويرية كانت في اتجاهها الرئيس تمهيدًا أيديولوجيًا للثورة الفرنسية" ص13، كما عدّ أسباب انحطاط الدول الكلاسيكية أحد أهم الممهدات النظرية للتحول المقبل للمجتمع، وقد ربط تلك الجزئيّة بصورة رئيسة بالرواية الاجتماعية الإنجليزية التي لفتت النظر إلى أهمية الحسّ التاريخيّ، أي فهم التاريخ بوصفه عملية، أو ما أسمّيه سيرورة، وشرطًا مسبقًا ملموسًا لما سيظهر عليه الحاضر.
يناقش لوكاش التاريخ بوصفه تجربة جمالية، ارتبطت بالتجربة الجماهيرية للثورة الفرنسيّة: "لقد كانت الثورة الفرنسيّة والحروب الثورية ونهوض وسقوط نابليون هي التي جعلت من التاريخ لأول مرة تجربة جماهيرية" ص17، ويرى أنّ الحرب قبل الثورة كانت تشنّها الدول الاستبداديّة بجيوش صغيرة محترفة، إذ تعزل الجيش عن السكان المدنييّن، والمؤن عن المستودعات، وكانت عبارة عن مناورات ضئيلة حول القلاع، لكنّ الثورة الفرنسية خلقت جيوشًا جماهيرية، وحوّلت أوروبا كلّها إلى منطقة حرب، وصار الفلاحون الفرنسيون يقاتلون في مصر وإيطاليا، وروسيا، ولم يعودوا أفرادًا معزولين عن الفعل والتأثير في التاريخ، فتحقّقت تجربة جماهيرية لمئات الألوف والملايين، ولعلّ لهذا التحليل أهميّته الكبيرة لأنّه يشير إلى جوهر الرواية التاريخية، وهو فاعلية الفرد في التاريخ، والتجربة الجماهيرية التي تربط التاريخ القومي بالتاريخ العالميّ. ويشير إلى التغيّر الذي ستمثّله الرواية التاريخيّة بعد الثورة من حيث حضور الطبقات الاجتماعيّة- الاقتصاديّة، ففي الماضي البعيد كانت البروليتاريا تعيش على حساب المجتمع، أمّا في العصور الحديثة فالمجتمع يعيش على حساب البروليتاريا. تمثّل لحظة سقوط نابليون وإعادة الملكيّة إلى إنجلترا لدى لوكاش لحظة للوعي التاريخيّ، لكنّه ينبّه إلى أنّ الروح التاريخية لا تكون رجعية، وإنّ تكريسها في الرواية التاريخيّة سيجعل منها تاريخيّة زائفة، وينتقد ما يسمّى بالمدرسة الشرعيّة للتاريخ، التي تعني العودة إلى ظروف ما قبل الثورة الفرنسيّة؛ بسبب عودة الملكيّة، ويجدها حالة من النكوص التاريخيّ، فهي تستأصل من التاريخ أحداثًا عظمى، وتستبعد كليًّا نشاط الإنسان في التاريخ، وهذه حالة من التزييف تفتعلها الأيديولوجية الرجعيّة.
وفي هذا الإطار يجادل لوكاش في موقف هيغل التنويريّ من الثورة، ويحاول أن يبقي فلسفته حليفة لها، مبرهنًا على عدم التعارض بين الثورة والتطوّر التاريخيّ، وأنّ الثورة تلغي مفهوم التنويرية لترفعه إلى مستوى أعلى، كما أنّ المسألة التاريخية المركزيّة هي إظهار ضرورة الثورة الفرنسيّة، فـ" العقبة الكبرى في أي فهم للتاريخ تكمن في مفهوم التنويرية حول طبيعة الإنسان غير القابلة للتغيّر" ص25. في حين تمثّل الرواية التاريخيّة حسب لوكاش تغييرًا في مجرى التاريخ وليس تغيّرًا في الأزياء أو مجرد التقلّبات الأخلاقيّة لنفس الإنسان.
اغتراب البطل التاريخيّ:
تُعدّ فلسفة هيغل الإنسان نتاج نفسه، ونتاج نشاطه في التاريخ معًا، وتعيش الذات مع الروح في صراع صعب للوصول إلى الوعي، فالذات هي العقبة المعادية للتقدّم في الروح للوصول إلى الوعي، الذي يجده لوكاش ممثّلًا في جزء منه بالثورة، في حين تبقى عند هيغل في حدود ما قبل الغوغائيّة. أجد في هذه المرحلة من تفسير لوكاش لرؤية هيغل جوهر الرواية الذي عبّر عنه لوكاش في كتاباته عامّة، إنّه صراع الإنسان مع الوعي، ومع الفكرة، إذ يرغب بتحقيق فكرته ورغباته، لكنّه يشعر باغترابها عن حقيقة التطوّر التاريخي، فتنشأ الإشكاليّة الروائيّة، ولا يحدث التغيير على السطح فحسب، وإنّما في الفكرة، فالفكرة نفسها يجري تصحيحها، كما يشير لوكاش.
يجادل لوكاش في المفارقة بين ضرورة التقدّم والنوستالجيا للغنى الثقافيّ البورجوازيّ، ولعلّ جوهر اغتراب البطل التاريخي هو الإحساس بتناقضات التقدّم، أي تناقضات الوضع التاريخيّ المستمرّة، وهو ما يضفي مسحة كآبة على مفهوم التاريخيّة برمّته: إنّه "الشعور بأنّ المرء يمرّ بربيع للإنسانيّة قصير وأخير وفكريّ لا سبيل إلى استرجاعه، على العكس من المفهوم الفلسفيّ والتاريخي الواعي الذي ينادي بالتقدّم المستمرّ والسلميّ" ص27. وهذا ما أجده التمثّل الأعمق لإشكاليّة الرواية التاريخيّة.
ريادة السير والتر سكوت:
ينطلق لوكاش في تتبّع سير الرواية التاريخيّة قبل الثورة من عند من يراه رائدها المؤثّر، وهو الروائيّ الإسكتلنديّ السير والتر سكوت، الذي أثّر بطريقة أو بأخرى بكل من كتب بعده في هذا الإطار، ويقدّم لوكاش تشريحًا لطبيعة رؤيته الروائيّة للتاريخ ضمن السياق الاجتماعيّ لحقبة عودة الملكيّة بعد الثورة الفرنسيّة، ويجيب لوكاش بنفسه عن سؤال سيخطر في بالنا عن اختياره سكوت تحديدًا، فيقول: "لأنّ المفهوم التاريخي الجديد لمؤرّخي عودة الملكيّة الكبار يسجّل ظهوره في أعمال سكوت" ص28، وقد كوّنت مدرسة المؤرّخين الفرنسيّين الجديدة نفسها تحت تأثير الروائي الإسكتلنديّ، إذ أراهم مصادر جديدة كليًّا كانت قد بقيت مجهولة رغم وجود دراما شكسبير وغوته التاريخيّة.
الهروب إلى التاريخ:
تبرز موضوعيّة سكوت في توظيف التاريخ في رؤيته إلى العالم، التي ترتبط بشكل وثيق بتلك الأجزاء من المجتمع التي كانت قد دفعت بها كلّ من الثورة الصناعيّة ونمو الرأسماليّة السريع إلى الخراب، إذ لا ينتمي سكوت إلى أولئك المتحمّسين لهذا التطوّر، ولا إلى متّهميه المتألّمين الغاضبين، إنه يحاول أن يعثر لنفسه على طريق وسط بين الطرفين المتحاربين، بفحص سيرورة التطوّر الإنجليزيّ، الذي يجد فيه العزاء، حيث كانت أعنف تقلبات الصراع الطبقي تهدأ في النهاية دائمًا وتتحول إلى طريق وسط مقنع. وهكذا يعطي مفهوم التاريخ الإنجليزي في روايات سكوت ملامح للتطور المستقبلي، لذا هو مع الإيجابية المذعنة للواقع، فهو من المفكرين المحافظين في إنجلترا الذين لا يبرّئون أيّ شيء في تطوّر الرأسماليّة، والذين لا يرون بوضوح فحسب، بل يتعاطفون بعمق أيضًا مع شقاء الناس المستمر الذي سيجلبه انهيار إنجلترا القديمة، إلا أنه وبسبب النزعة المحافظة ذاتها لا يبدي أي معارضة عنيفة لمظاهر التطور الجديد الذي يرفض التسليم به. نادرًا ما يتحدث سكوت عن الحاضر، متجنبًا الصراع الطبقي الدائر في إنجلترا المعاصرة بين الرأسمالية والبروليتاريا، بل يذهب للتعبير عنه بتجسيد مراحل من التاريخ، ويُعدّ هذا عند لوكاش التمثيل الفنيّ الغني للتاريخ في الرواية.
يصوّر سكوت صراعات التاريخ عن طريق شخوص يمثّلون في نفسيّاتهم ومصائرهم الاتجاهات الاجتماعيّة والقوى التاريخيّة، وينظر إلى الأفراد اجتماعيًّا و طبقيًّا وليس فرديًّا، إذ لم يستقلّ بعد الحسّ الفرديّ، فهو يتجنّب تحليل الحاضر، ويحتفظ في تصويراته بالموضوعيّة التاريخيّة العظيمة التي يتّصف بها الكاتب الملحمي الحقيقي، ويعتمد على النمذجة التاريخية أكثر من التمايزات الفردية للأبطال، وهذا ما انتقده به بلزاك أكبر معجبيه. ويقول لوكاش: "تكمن عظمة سكوت في قدرته على إعطاء الأنماط التاريخيّة- الاجتماعيّة تجسيدًا إنسانيًّا حيًّا، قبل أن تصير اتجاهات مألوفة نتيجة تطور الوعي بهذا النوع من التصوير، كما يعرض رؤية الناقد الكبير بيلينسكي لنمذجة سكوت الجماليّة.
ينطلق بعدها ليعرّف المتلقّي بتأثير سكوت في كتّاب الرواية التاريخيّة بعده، ويتحدّث عن الفروقات بين نصوص المؤثّر والمتأثّرين به ليتحدّث عن واقعيّة كلّ من بوشكين وستندال، كما يُظهر أثره في رواية الأمريكي كوبر ذات المرجعيّة الرومانتيكيّة الكولونياليّة. يُظهر لوكاش أثر سكوت في تنويريّة غوته المغلّفة بالشعريّة، ويصنف الخط المهيمن على الرواية التاريخيّة في ألمانيا بالرجعية الرومانتيكية. أمّا في إيطاليا فقد اعترف سكوت نفسه بعظمة مانزوني، ويرى لوكاش أنّ الحدث المأخوذ من الحياة الشعبية الإيطالية في نصوصه يجعل مأساة الشخصية تمثّل استعارة لمأساة شعب إيطاليا كله في حالة التدهور والتجزؤ الوطنيين، ومن غير أن تخرج من سياقها التاريخيّ الجغرافيّ. وتبقى مشكلة مانزوني هي تكرار الموضوعات في رواياته على عكس سكوت الذي يبحث في كل عمل عن الجديد. أما في روسيا البلد الذي يصفه الأكثر تأخرًا اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًّا، فقد ازدهرت الرواية التاريخية على يد بوشكين، وذلك لأنّ الاستبداد القيصريّ خلق وحدة قومية دافعت عن روسيا ضد الأعداء الأجانب، وقد حلل تلك الميول للكتابة التاريخية في روسيا كل من بوشكين وبيلينسكي وبلزاك، وأظهروا أثر سكوت من حيث التعارض الجدلي بين رؤية سكوت للرواية التاريخية ورؤية الرومانتيكيين الفرنسيين التاريخية الزائفة، فيهاجم بوشكين التحديث في أسلوب جمع الماضي والحاضر معًا بإلباس الظواهر المعاصرة لباس التاريخ لنقدها، على الرغم من أن الشخوص يحتفظون بأحاسيسهم ووعيهم المعاصر، ولكن بديكور ومورفولوجيا تاريخية. ستتطور الرواية مع بلزاك في فرنسا، وتنحو باتجاه التخفف من عبء التاريخ، وتصير أكثر روائيّة أي يظهر جوهرها وهو (الفرد) وليس التاريخ، ونستنتج ذلك من تصريح بلزاك: "إنّ الرواية الممكنة الوحيدة عن الماضي استنفدت من جانب والتر سكوت...كان نظام الطوائف الاجتماعيّة يعطي كلّ شخص مظاهره الخارجيّة التي تهيمن على شخصيّته الفرديّة، أمّا اليوم فإنّ الفرد يأخذ مظاهره الخارجيّة من ذاته هو" ص108.
فاعليّة الفرد في التاريخ وثورة بروليتاريا باريس:
يعالج لوكاش في الفصل الثاني الفروقات بين الرواية التاريخية والمسرحية التاريخية، وبين البطل الروائي وبطل الدراما، وموقع كل منهما من العمل الفنيّ، وهذا الموقع هو الذي يشير إلى سبب رواج الرواية التاريخية مقابل المسرحية التاريخية، حيث يُظهر البطل الروائيّ الموقف والمهمة والعوامل المعقدة والدقيقة للتطور التاريخيّ، ولا يكون قائدها وصانعها كما في المسرح.
يعقد الفصل الثالث للرواية التاريخية وأزمة الواقعية البورجوازية، منطلقًا من ثورة 1848التي تعرف بثورة بروليتاريا باريس، التي أثرت بكامل أوروبا إذ تُعدّ "معركة حاسمة هنا تخاض للمرة الأولى بقوة السلاح بين البروليتاريا والبورجوازيّة، وهنا للمرة الأولى تدخل البروليتاريا المسرح التاريخيّ العالميّ بوصفها كتلة أو جمهورًا مسلّحًا، مصممة على الكفاح النهائيّ...وتقاتل البرجوازية للمرة الأولى لمجرد استمرار حكمها الاقتصاديّ والسياسي" ص245.
أدت الثورة إلى تفكيك فلسفة هيغل المحافظة، وأصبح هيغل بتعبير لوكاش (كلبًا ميتًا) ص246. ويستنتج ماركس بأنّ الأسلحة التي استعملتها البرجوازية ضد الإقطاعية صوبت نحوها، فهي حملت معها مقوّضاتها. ويدرس لوكاش هذا التغيّر الذي أفرزته الثورة في فهم التاريخ وتوظيفه في الرواية، وقد عكست تجربة التاريخ الجماهيرية التي تشاركت فيها باتساع دوائر المجتمع البرجوازي. لم تعد الأيديولوجيات بعد 1848 خاصّة بعصر بل بطبقة ضيقة، وستتضخم هنا المنافسة الرأسمالية فيحتدم الصراع من أجل البقاء، وستسود فلسفة نيتشه، وفلسفة إنكار التاريخ عند شوبنهاور، ومع التقدم في هذا الخط ستعبّر فلسفة شبينغلر عن المرحلة بمفهوم تعمية التاريخ لحظة عصر الاستعمار، ويسود التزييف المسوّغ للتاريخ، وسيظهر هنا فلوبير في كل من (سالامبو) و(مدام بوفاري)، إذ تظهر إشكالية الفرد بتناقضاته غير المحلولة بقوّة، بوصفها استعارة لإشكالية الرواية التاريخية الجديدة التي لا مناص منها، وهي انفصال الفرد عن التاريخ. يطبق فلوبير في (سالامبو) أساليب الواقعية الجديدة على المادة التاريخية تطبيقًا صحيحًا كما يقرّضه إميل زولا، ويبدو اتجاه العصر العام في الانهماك بالتحديث، والإغراب في الأخلاق البرجوازية، ولم يكن نثر الحياة اليومية المعاصر، حسب لوكاتش، مسألة لهو جماليّ بل موقف أيديولوجي من البيئة البرجوازية القذرة كما يصفها، وإنّ عودة فلوبير إلى قرطاجة في (سالامبو) هي أيضًا موقف أيديولوجي احتجاجي: "هناك مدينة طيبة دفعني إليها القرف من الحياة العصريّة" ص286. تنحط الرواية التاريخية عند مايير، ولن يعود الهدف من الرجوع إلى التاريخ الفهم الأعمق للواقع بل الهرب من التفاهة، وإنكار الحاضر الذاتي والأخلاقي والجمالي، فصار التاريخ يقصد لذاته، وصار الفنّ يمارس وظيفة الذاكرة، وأحيانًا يكون وهمًا، أي شيئًا غرسه الكاتب في الذاكرة التاريخية.
يتحدّث لوكاش في الفصل الرابع والأخير، وعنوانه الرواية التاريخيّة في الاتّجاه الإنسانيّ الديموقراطيّ، عن خروج الرواية من جغرافيّات كتّابها إلى عالم الإمبرياليّة، ويصم لوكاش التصوير التاريخيّ الواقعيّ لإشكاليّة الرواية في هذه المرحلة بالمسرحيّة المنحطة عبر الخرق الواعي للتاريخ ص369، إذ هناك تشكك متزايد في إمكان معرفة كل من الواقع الاجتماعيّ والتاريخ. وكلّما تعمّقت التجربة الإمبريالية تظهر اتجاهات توسم بالصوفيّة، تبلغ ذروتها في التزييف، والأسطورة الفاشية للتاريخ. تتطور في المرحلة الإمبريالية عبادة حقائق جديدة، وستسوّغ عدم قدرة الفن على عكس السمات الجوهرية للواقع الموضوعيّ بظهور مفهوم جديد للفنّ، ولعلّه يقصد هنا مفهوم الفنّ للفنّ، وقد حدث ذلك بوضوح بعد الحرب العالمية الأولى، إذ تكون الذات أقوى من الوعي، وذلك سيشكّل السياق الطبيعي لظهور الكتابة السيرية والريبورتاج، وظهور نظرية المونتاج، التي تشير إلى لصق حقائق منفصلة وربطها معًا، من غير معرفة بتلك الجدلية بين الذات والوعي التاريخي، حيث راح الحس الوقائعي يطغى على ذلك الوعي نتيجة انفصال الكاتب عن الحياة الشعبيّة.
*أكاديميّة وروائيّة، أستاذة الأدب الحديث والدراسات الثقافيّة في الجامعة الأميركيّة في مادبا في الأردن. لها العديد من الكتب في النقد والدراسات الأدبية، وترجمت أعمالها إلى العديد من اللغات، كالإنجليزيّة، والألمانيّة، والإيطاليّة، والإسبانيّة، والفارسيّة.
Комментарии