top of page
سياق

الضفة الأخرى | الرواية التاريخية بين الترجمة والتأثير


د. وليد بن بليهش العمري




إن مادة كتابة التاريخ، أي تلك الكتابة "الواقعية" التي تدوّن الوقائع والأحداث، يصعب فيها الفصل بين الواقع والمتخيل، والحقيقة والتزييف. وقد قال تشرشل مقولته الشهيرة: "سيحنو التاريخ علي إن رمت كتابته"، والتاريخ كما شاع وذاع، يكتبه المنتصرون الذين غلبوا على أمر القوم، وصاروا أكثر نفيرًا، و "ما الأمة إلا سردًا"، كما قال هومي بابا، يعمل فيها البناء الرمزي للأمة تمامًا كما تعمل حبكة رواية واقعية، ويصل فيها السرد بين أحداث وفاعلين متنوعين هم غُفل عن بعضهم البعض تمامًا، ولم يتواطؤوا على أمر قط، ويقدّمهم وهم يؤدون أدوارهم في صورة مشرقة على مسرح الأمة. والصراع في الماضي والحاضر والمستقبل هو صراع سرديات، الغلبة فيه لا للمطرقة والسندان، بل لليراع والبنان! صراع أزلي يحاول كل فصيل فيه سحب مركز الجاذبية إلى طرفه، مستخدمًا جميع الأدوات المتاحة في عصره؛ مرويات التاريخ ومدوناته، الأعمال الأدبية الخيالية، الأشرطة والمواد السمعية، والمواد المرئية والفيديو، السينما والأفلام والمسلسلات، البودكاستات! ترسانة ضخمة تسخَّر في سبيل كسب معركة القلوب والعقول هذه.      


ورواية التاريخ في شكلها الأدبي الإبداعي قد تكون فعل مقاومة للسردية السائدة أو خادمًا لها، أو توثيقًا لحدث تاريخي، أو بكل بساطة عمل نتج عن اعتلاج القلب بخواطر الإبداع فعمد إلى الماضي ينسج من أحداثه واقعًا يجد لخياله من خلالها متنفّسًا. وعند روايته للتاريخ يمزج الكاتب بين الحقيقة والخيال، ويصوّر حقبة أو حدثًا بارزًا بأسلوب روائي مستميل، مستندًا إلى المعطيات التاريخية ولكن دون أن يلزم نفسه بها تمامًا، ومن هنا قد تكون الرواية التاريخية من أخفى أنواع الكتابة الإبداعية أثرًا، أو هي أخفاها على الإطلاق؛ فهي تأخذ من التاريخ مادة لها، وقد يرى فيها البعض، أو الكثير، شاهدًا عليه أو سجلًا صادقًا له أفلت من مقص الرقيب وعين السلطة الحانقة، بفضل كونها مغلّفة بغلاف سرد قد يتملص بسهولة من كونه يعكس الواقع كما هو أو كمان كان؛ لذا فهو عندهم حقيق بأن يؤمَن به، لا سيما وأن السرديات الرسمية كلها في نظرهم مكذوبة، وتجمّل القبيح. ومن هنا يأتي أثرها والتأثر بها، فهي تطرح إشكاليات تتعلق بالعلاقة بين الخيال والتاريخ، وتمنح كاتبها سلطة على كل من التاريخ وقرائه، ما يضعه في موقع فريد يتيح له إعادة تشكيل الأحداث الماضية بما يخدم رؤيته.

وقد شُغف بهذا "الفن" الروائيون على اختلاف مشاربهم وتنوع مذاهبهم، ولغاتهم وبلدانهم وأزمانهم، بدءًا بالإنجليزي والتر سكوت، الذي يُعدّ أول من أرسى قواعد هذا النوع الأدبي في أوروبا بروايته "ويفرلي" عام 1814، مرورًا بالروسي ليو تولستوي وروايته "الحرب والسلام" التي تُعدّ من أبرز الروايات التاريخية، وحتى الفرنسي فيكتور هيوجو بروايته الشهيرة، المؤثرة عبر الأجيال واللغات "أحدب نوتردام".  

وأشهر من اتخذ التاريخ مادة لسرده الروائي بالعربية جرجي زيدان، فبعد أن أصدر كتابات تاريخية لم تحقق نجاحًا كبيرًا يمم وجهه قِبل الرواية التاريخية، وبدأ مشروعه الذي أعاد فيه كتابة التاريخ الإسلامي سردًا في روايات تجاوز عددها الـ20! وحققت في زمنها إقبالًا هائلًا، وتُرجمت إلى لغات عديدة، ونالت قسطًا وافرًا من النقد والتحليل والدراسة، وكانت صوته الذي أسمعه العالم. ويرى النقاد أنه اختزل التاريخ الإسلامي في قصص العشق، والمؤامرات والدسائس، وبدا الدين فيها ليس إلا أداة للتوسل إلى الطموحات السياسية، وأنه عمد إلى كتب المستشرقين، واستحضر تاريخًا مشوّهًا، زينه بأسلوب أدبي مشوق، يشد القراء. وقد توفي واستمر الجدل حول مصداقية كتاباته. ومثّل زيدان "الآخر" خير تمثيل في إعادة صياغة التاريخ الإسلامي من خلال رواياته؛ لذا نرى أنه لم يُكتب لها الحياة طويلًا رغم كثرتها وتنوعها وثرائها وتلبسها بثوب القصص المشوقة، فهي تعطي رؤية مخالفة للرؤية السائدة للذات عن نفسها.

وعلى النقيض منه فقد مثّل نجيب محفوظ "الذات" خير تمثيل من خلال ثلاثيته التاريخية الشهيرة "بين القصرين"، و"قصر الشوق"، و"السكرية"، متناولًا من خلالها ثلاثة أجيال مختلفة، ومتوغلًا في تلافيف مآس فكرية واجتماعية وقضايا وطنية، ليُبرز معاناة جيل بأكمله؛ ونظرًا إلى موافقتها لرؤية الذات عن نفسها فقد تأثرت بها الدراما وتحولت إلى أفلام ومسلسلات تشاهدها الأجيال حتى يومنا هذا. كما أنها لحبكتها الفنية الباذخة، وربما لغرائبية شخوصها وبيئاتها ترجمت إلى عدة لغات، ومن أهمها الإنجليزية، ونال محفوظ بفضل هذه الترجمات جائزة نوبل في الآداب.                

إلا أن رضوى عاشور وقعت على مأساة "ذات" أمة بأسرها وجسدتها أيما تجسيد في "ثلاثية غرناطة" بالغة الأثر، وفيها تذوب الحواجز بين الخيال والتاريخ، ربما لأن المآسي التي مر بها أهل غرناطة بعد سقوطها أشد مرارة من أن يتخيلها عقل، وقد ثقلت بها بطون الكتب، وقد وقعت هذا الثلاثة موقعها في القلوب لأنها نفذت إلى حسرة العرب الجمعية وأمسكت بها. وقد قالت عنها الناقدة منى حوا: "هذه الرواية تساهم في تقريب الحالة الموريسكية بتفاعل إنساني عميق، وهي تذكرة للسفر نحو التاريخ ومتابعة الأحداث بصورة فاحصة حتى وإن جاءت خالية من الحوار مع الطرف الآخر". ورغم أنها تجلد الذات المستعلية أو "الآخر" إلا أنها تُرجمت إلى الإسبانية، ربما لتصالح الآخر (أو فصيل منه) مع ماضيه، أو لأنها تُشاكل حالة تجلّت في تاريخه الحديث حينما قضى الجنرال فرانكو والوطنيين من ورائه وأعملوا القتل في خصومه الجمهوريين عند انتظارهم المرير في ميناء أليكانتي، كما انتظر المورسكيون على أمل الهروب من القتل من قبل ولم يفلحوا، ولكن يبقى أن لكل عمل، وترجمة حساسة كهذه، عتباتها التي تؤطّرها وتؤثر في قراءتها.    


وثمة روايات تستعصي على الترجمة؛ وهي تلك الروايات التاريخية التي أصبحت نوعًا أدبيًا مستقلًا، يؤرخ للصراع العربي الإسرائيلي، وتعطي الآخر "المتعاطف" أو "المحايد" صورة تعزز موقف الآخر "المعادي"، أي الإسرائيلي، في مواجهته مع الذات العربية، كروايات "الحاج" و"الحياة على الضد" و"العملية شايلوك: الاعتراف"، وهي ذات أثر بالغ في تشكيل الوعي والمواقف، ويقف وراءها جماعات الضغط الصهيونية، وتوزع على صناع القرار في الأمم المتحدة والبرلمان الأوروبي والكونجرس الأمريكي، وبيع منها بالملايين. وهي تعمد إلى التاريخ وتعيد صياغته عن طريق روايته على هوى الكاتب. ومما يميزها أن جميع كتابها هم من الأمريكيين، أي من "الآخر" نفسه؛ وفيها يسوّغون الاستعمار ويصورونه على أنه حركة تقدمية تاريخية محتومة تمضي في اتجاه جلب الحضارة إلى بلاد "الهمج والبرابرة". وهو باختصار خطاب استعماري يزيف التاريخ، وهذا العمل كما يقول الناقد فرانز فانون في كتابه "معذبو الأرض" ليس إلا وسيلة يتوسل بها المستعمِر لإحكام سيطرتهم على البلدان المستعمرة، ويرى أن عملية كتابة التاريخ من وجهة نظر المستعمِر منحى رئيس لا غنى عنه لإدامة الاستعمار، إلا أنه في حالنا هذا يأخذ السرد شكل الرواية التاريخية المشوّقة الجاذبة التي تحاكي شيئًا في أعماق النفس وتستميله، مستخدمة جميع الأدوات والحيل النفسية المتاحة. 

ولحدة هذا الطرح، ووقوفه على طرف النقيض من السردية الذاتية نجد الذات لا تترجمها، حتى ولو من باب الوقوف على أدوات الآخر المعادي، وإن كان عن سبيل العتبات والتأطير الصارم.        


إلا أن لترجمة الرواية التاريخية تحدياتها علاوة على اختلاف السرديات هذا؛ فقدرة الرواية التاريخية على إحياء الماضي وتوثيق حياة الناس وظروفهم في عصور بعيدة يجعل منها محملة بالإشارات الثقافية ذات الخصوصية البالغة، فالأماكن والشخوص والعادات والأدوات والممارسات والوظائف قد تكون أصبحت غريبة على الثقافة نفسها، في عالم أضحى أكثر تأثرًا بالنموذج الغربي المعولم، فما بالنا بترجمتها مع الإبقاء عليها بلغة وثقافة وتاريخ مغايرين، مما يصعّب على المترجمين نقل السياق الثقافي والتاريخي بدقة، إذ تتطلب الروايات التاريخية معرفة عميقة بالعادات والتقاليد والأحداث التاريخية التي تؤثر في النص. وفي بعد آخر مهم في عملية الترجمة الشاقة هذه نجد أن الروائي يدلف إلى معجم لغة تلك الحقبة التي يكتب عنها: مفرداتها وعباراتها ومسمياتها وتراكيبها، ويستغرق فيها ليستخرج أبعد ما فيها غورًا ليضفي "نكهة" واقعية على ما يكتب، وقد لا تكون جل هذه متوافرة في المعجم المعاصر الذي يستند إليه المترجم فيفقد كثيرًا منها، ومع هذه صبغة الأصالة. وعلى المترجم أن يحترس من أن يقع في فخ المغالطات التاريخية، ويدرس الحقبة التي يتحدث الكاتب عنها في لغته الأصل، كما الكتابات في اللغة التي يترجم إليها، في سعيه للحفاظ على الجو التاريخي والثقافي للرواية، ولكي يوجد لقرائه الجو ذاته. وقد يواجه المترجمون تحيزات ثقافية تؤثر في فهمهم للنصوص؛ ويمكن أن تؤدي إلى تفسيرات منحازة، أو إلى تجنب موضوعات حساسة، تحتك مع ثقافة المترجم ولا تعرضها في الصورة التي تريد الذات أن ترى نفسها فيها. 

وكل هذا يتطلب من المترجم البحث الدقيق حول الفترة التاريخية والأحداث والشخصيات التي تتناولها الرواية، والرجوع إلى المصادر الموثوقة، وربما التواصل مع المؤرخين المتخصصين، مما يساعد على الحفاظ على دقة التفاصيل، واستخدام اللغة الصحيحة والمناسبة للسياق التاريخي، والأسلوب الأدبي واللغوي السائدين في العصر المقابل للعصر الذي تطرحه الرواية، ليبقي على طابعها التاريخي. 

إن ترجمة الرواية التاريخية ليست مجرد نقل للكلمات، بل هي عملية تتطلب فهمًا عميقًا للنص، وثقافته وفترته الزمنية، فضلًا عن الإبداع اللغوي الذي يحافظ على أصالة النص وروحه، وهي إلى هذا تنوس بين مطرقة مغالطة السردية، وسندان المغالطة التاريخية. 



أستاذ دراسات الترجمة المشارك بجامعة طيبة، حاصل على جائزة الترجمة (2024-2025) في الدورة الرابعة للجوائز الوطنية الثقافية، وله أكثر من 40 مؤلفًا في الترجمة بين كتاب وبحث، والعديد من المقالات الثقافية. 


أحدث منشورات

Comments


bottom of page