top of page
سياق

سجال | سرديات التاريخ: حدود التخييل وموثوقية النص في الرواية التاريخية


تحرير: د. إبراهيم المرحبي



لم تكن الرواية التاريخية مجرد سرد لأحداث مضت، بل هي عملية إبداعية تتجاوز حدود الزمان لتعيد تشكيل الوقائع والمشاهد بروح الحاضر، كما تتسم بقدرتها على استنطاق التاريخ بلغة الحكاية، حيث يصبح التاريخ فيها ميدانًا إبداعيًّا تتجلى فيه شخصيات حية، وأحداث متشابكة، وصراعات إنسانية تعكس عُمق التجربة البشرية. إنها استكشافٌ جمالي وفلسفي للماضي؛ تتشابك فيها الخيالات مع الوقائع، وتندمج الرؤية الفنية مع التاريخية لتخلق نصوصًا تتحدث بلسان الحاضر والمستقبل لتمنح القارئ فرصة فريدة لاكتشاف التاريخ من وجهات نظر جديدة ومن زوايا متعددة. وفي ظل هذه التحولات تصبح الرواية التاريخية نافذة نطل منها على عوالم رحبة، تضج بالحكايات والرموز التي تعيد تشكيل وعينا بالزمن، وتطرح أسئلة دائمة عن معنى الإنسانية في سياق التغيير والتحول. في عددها الحادي والعشرين تنتفش "سياق" في سجالها عن العلاقة بين الرواية التاريخية والإبداع الفني والنقد، وتفتح في ذلك سجالًا ثقافيًا موسّعًا في محاولة لإلقاء نظرة بانورامية تستقرئ نواحٍ متعددة من ذلك، بمشاركة نخبة من النقاد والأدباء في الخليج العربي، وهم أستاذ النقد والنظرية بجامعة الملك سعود الدكتور معجب العدواني، والروائية أميمة الخميس، وأستاذ الأدب المشارك بجامعة الباحة الدكتور أحمد السعدي، والكاتبة والروائية الإماراتية ريم الكمالي، وعضو المجلس الأعلى لدارة الملك عبد العزيز الأستاذ بجامعة أم القرى الدكتور عبد الله الغامدي، والأديبة الكويتية منى الشمري. 

يا ترى!، كيف يمكن أن يسهم فهم التاريخانية في إعادة تأطير القراءات النقدية للروايات التاريخية؟، وهل يمكن أن يتفوق السرد الأدبي على المصادر التاريخية التقليدية في تقديم فهم أعمق للتاريخ؟، وإلى أي مدى يمكن للخيال أن يتداخل مع الوقائع التاريخية دون المساس بموثوقية النص ومصداقيته؟، وكيف يتداخل التدوين التاريخي مع الأدب، في تشكيل السرديات الكبرى، التي تحدد فهمنا للتاريخ، وهل يمكن للأدب أن يقدم بدائل لهذه السرديات؟، وإلى أي مدى يمكن أن تعد الرواية التاريخية تمثيلًا صحيحًا للتاريخ، في ظل الانتقائية في تناول الأحداث والشخصيات؟ إن هذه الصفحات من سياق تدعوكم للتأمل في العلاقة العميقة بين الرواية التاريخية والواقع، وكيف تسهم في تشكيل فهمنا للزمان والمكان؛ لنستكشف سويًا كيف يمكن للأدب أن يُعيد الحياة إلى الأحداث الماضية، ويمنحنا الفرصة في تحفيز الذاكرة الجماعية؛ لإعادة تقييم مسارات التاريخ من منظور مختلف. دعونا نستعد لخوض هذه الرحلة الفكرية في سجال هذا العدد.


في مستهل النقاش، يطرح الدكتور معجب العدواني رأيه النقدي حول الإسهام الذي يمكن أن يحدثه فهم التاريخانية في تأطير النقد الأدبي قائلًا: "أظن أن فهم التاريخانية ينبغي أن يكون متصلًا بالكتابة الروائية قبل أن نجد له التسويغ في الكتابة النقدية؛ فما يُشرّع نقديًا يفترض تأسيسه على مستوى النص الروائي التاريخي الذي يُسهم في خلق تأطير للقراءات النقدية؛ إذ يتمكن النقد آنذاك من الوصول، بصورة استثنائية، إلى التحليل العميق مُمثلًا في درس الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية المرسخة، وتحديد المسافات القائمة بين الأزمان الثلاثة: زمن القص، وزمن الكتابة، وزمن القراءة النقدية"، ويرى أن "بين هذه المسافات يكمن إنتاج قراءات نقدية معاصرة للرواية التاريخية، تجتاز التحليل المباشر إلى قراءة تستوعب فحص كيفية تعامل الرواية مع الأحداث التاريخية، وتتفهم تأثيرات الأيديولوجيا وتفاعلات السلطة والهوية وانزياحات توظيف الرموز التي كانت سائدة في المراحل الثلاث السابقة."



تنتقل الروائية السعودية أميمة الخميس إلى الإجابة عن تساؤل آخر يتمثل في كيفية تداخل التدوين التاريخي مع الأدب، في تشكيل السرديات الكبرى، التي تحدد فهمنا للتاريخ، وإمكانية الأدب في تقديم بدائل لهذه السرديات. تشير الخميس إلى أن "مفهوم السرديات الكبرى في السؤال "إن كان هو ما أشار إليه الفرنسي ليوتار الذي يلخص فكرة ما تستند إليه فئة من الفئات ضمنيًا في مقولاتها، من خطابات فوقية تزودها بالمادة الخام لنتاجها، كما نتج عن المركزية الأوروبية الحداثة وعصر التنوير والديموقراطية والماركسية"، فلا يصبح الأدب هنا -من وجهة نظرها- "وعاء لنشر هذه السرديات وتثبيتها فقط، بل قد يصبح أداة لمقاومة سطوتها، عبر سرديات تناهض هيمنتها وتفككها، في عصر ما بعد الحداثة". وترى الخميس أن الأدب "يمتلك القوة لمقاومة هذه السرديات المركزية عبر تقديم روايات مضادة تستند إلى الهوامش التاريخية والثقافية تمنح منصة للهامش كي يرمم ذاكرته ويعيد تنظيم شظاياها التي اكتسحها الطوفان المركزي، وفي هذه الروايات "يصبح الأديب مستحدثًا للتاريخ وخالقًا له في كل سياقاته الإنسانية والمعرفية والمادية، ومعيدًا لتشكيل الواقع؛ لفهم الذات والحياة، وليس لنقده والاحتجاج عليه فقط".

وتمثل الخميس على ذلك بروايتها البحريات التي تجسدت فيها "معاناة التجذر والمحاولة الوصول إلى المركز القوي المهيمن والتماهي مع هويته، فعندما كانت تكتمل حلقة النساء حول سفرة الطعام في بيت آل معبل، لم يعد هناك مكان لبهيجة الغريبة الطارئة على المكان وهذه رسالة قوية وعنيفة لها، بأن مكانك الصفوف المتقهقرة. وأمام هذه المركزية التي تستمد سطوتها من حلقة مركزيات حولها تحجبها عن الوصول لقلبها - ترى الخميس- أن الحكاية والأدب أصبحت مركبتها التي تصنع للبحرية بهيجة مركبًا تبحر به فوق واحات نجد المستريبة دومًا من الغرباء". وفي السياق ذاته تمثل المثال الخميس بالأحداث في روايتها (مسرى الغرانيق)، حيث "كان البطل القادم من قلب جزيرة العرب واقعًا تحت سطوة سردية كبرى للمركزيات الثقافية في بغداد والقاهرة والأندلس، دفعت به إلى الأطراف، فأتى بإرثه الحنفي ابنا لقبيلة عريقة مهددة بالتلاشي، وقصد تلك العواصم، لكنه لم يحمل انكسار اللاجئ الذي يبحث عن ماء يذوب فيه وتختفي ملامحه، لكنه وضع سرديات تلك المدينة المركزية على منصة الاستجواب، صراعها المذهبي، استبداد التغلب، وقصد لبيت الحكمة، يبحث عن سرديته الهامشية الخاصة التي منها يدخل بوابة الكون، فكان المعتزلة المنفيون آنذاك، هم أكثر الناس إجابة على حيرة أسئلته".



ويُضيف أستاذ الأدب والنقد الحديث المشارك بجامعة الباحة الدكتور أحمد السعدي، بُعدًا آخر للنقاش حول تداخل مع الوقائع التاريخية دون المساس بموثوقية النص ومصداقيته، قائلًا: "يحيل السؤال إلى حجم الأثر الذي يحدثه الخيال في التاريخ، وسأقصر إجابتي على الأثر المحدود، باستعراض روايات لم تنل من التاريخ كثيرًا، بسبب قوة حضوره في الثقافة الوطنية أو العالمية، إضافة إلى موقف الروائي الذي أراد أن يناقش ذلك الحدث أكثر من توظيفه، ومن ذلك رواية الحرب والسلام لـ(ليو تولستوي) الذي ضمنها حادثة الغزو الفرنسي لروسيا، وما صاحبه من دواع وعواقب سياسية واجتماعية واقتصادية تأثر بها الروس في ذلك الوقت، فلم يجرؤ الكاتب على تغييرها، لكنه حاور المؤرخين حولها، مستدركًا أخطاءهم في التحليل والاستدلال، ولم يكن للخيال سوى ابتكار قصص درامية وغرامية لعوائل أرستقراطية، حفزت الانتباه إلى ما كان تولستوي يرفضه من آراء حول طبيعة تلك الحرب وبعض قاداتها، وهيأت في النفس مساحة إن لم تكن لقبول رأيه، فستكون مناسبة للتعاطف معه".

ويمثل د. السعدي في السياق ذاته "بالروايات القائمة على سير شخصيات تاريخية بعينها، ومن ذلك رواية ذئب السهول للروائي الهولندي (كون إيغلدن) التي بسط فيها الحديث عن سيرة القائد المنغولي هولاكو، وكيف تمكن من قيادة قبائل التتار لتكون قوة مهددة للكثير من القوى والحضارات المعروفة في وقتها، ومنها الحضارة العربية. ولقد اضطره ذلك الهدف إلى متابعة التاريخ المنغولي ومسايرته، والاستعانة بالخيال لجعل السيرة متماسكة، والبناء الدرامي منتظمًا ومبررًا، خصوصًا ما يتعلق بمرحلة الطفولة التي كانت المعلومات حولها ضئيلة، لتكون الرواية تاريخًا حاول فيه الكاتب فهم تلك الشخصية وفهم مجتمعها بطريقة تكون أكثر عقلانية وموضوعية".

ويصل د. السعدي من خلال هذين المثالين إلى مفارقة غير متوقعة؛ ألا وهي "محاولة الخيال بواسطة الرواية عقلنة التاريخ، رغم أن الخيال كان ضحية الإقصاء والتهميش بسبب تلك العقلانية عند المؤرخين والفلاسفة".  


 من زاوية أخرى، تطرح الكاتبة والروائية الإماراتية ريم الكمالي رؤية مختلفة حول إمكانية تفوق السرد الأدبي على المصادر التاريخية التقليدية في تقديم فهم أعمق للتاريخ بين الأدب والتاريخ، قائلة: "يؤكد البعض أن الرواية التاريخية رواية غير إبداعية، بوصفها أحداث وأفكار وشخصيات قائمة، وموثقة تاريخيًا، ولا يفعل السارد سوى استخدام الأدوات الإبداعية لنقلها، مثل اللغة الأدبية والعقدة والحبكة، مع التشويق، والممكنات التخيلية الأخرى." لذا فإن الرواية التاريخية –من وجهة نظرها- نوعان: "نوع يأتي بالفكرة الموجودة كما تذكر، وهو ما لا تعده الكمالي "إبداعًا؛ لأن من شروط الرواية الإبداعية هي الفكرة الجديدة والمميزة؛ فالرواية فكرة أولًا، لذا تأتي الرواية التاريخية الأخرى التي تحمل الفكرة الإبداعية الجديدة والشخصيات المتخيلة، مع الفارق أن الروائي يضعهم في زمن بعيد، يختاره بعناية وأحداث مختلفة لذلك الزمن المختلف، وعلى الروائي -والقول لها- أن يكون دقيقًا وحذرًا في اختياره هذا الزمن البعيد، متى وأين، ويفضل أن يكون زمنًا متحولًا، ليستطيع إثراء العمل، ويسرد فكرته الإبداعية بشخصياته وكأنهم كانوا هناك فعلًا، بالتالي ينقل فكرته الخاصة بأحداثها وفلسفتها كما يريد، وهو أسلوب شجاع لتأسيسه شروط الرواية الإبداعية، وبمعنى أصح الرواية التاريخية الإبداعية، فقد يكون هنا يكتب تاريخًا جديدًا، أو لعله يصحح التاريخ الإنساني ويظهره كما ينبغي أن يظهر، أو لعله يبين معنى التاريخ ودائرة الأحداث بمعانيها العارية، ليقوم باحتواء دائرتها الروحية وبأفق جمالية نستلذها، وليس الزمن والمكان فقط.." كما تشير الكمالي أيضًا إلى أن الرواية التاريخية الإبداعية "يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة وتكشف عن معاني أعمق للتاريخ، وذلك من خلال معالجة الزمن والأحداث والشخصيات بطريقة تثير التساؤلات وتحفز الفكر، فهي التي تسرد أدبًا تحليليًا، ونقدًا معاصرًا عن طريق الزمن البعيد كحجة، ويفتح الأسئلة من غنى التخيل والرؤية والذاكرة، بلغة المخاطرة وأهوال السرد، ليضيء القضية الشاسعة، بذاكرتها الاسترجاعية من رحم زمنٍ قد فَرَّ سريعًا دون محاسبة".  



بدوره يضيء عضو المجلس الأعلى لدارة الملك عبد العزيز الأستاذ الدكتور بجامعة أم القرى عبد الله الغامدي جانبًا آخر من جوانب الرواية التاريخية قائلًا: "الخيال ضد الواقع، وهو نشاط عقلي يتخيل الإنسان من خلاله أفكارًا وصورًا معينة غير موجودة في الواقع. وبمعنى آخر يمكن القول: إن الخيال هو ما يتم اختراعه، بينما الواقع يجسد ما هو موجود بالفعل. وينعته البعض بأحلام اليقظة، وقد وصف جورج برنارد شو الخيال بقوله: (الخيال بداية الإبداع، إذ إنك تتخيل ما ترغب فيه، وبالتالي تصنع ما ترغب أن تراه...)". ويكمل أ.د. الغامدي حديثه بالقول: "يرى البعض أن هناك علاقة قوية بين الخيال والذكاء والإبداع والتميز والابتكار، التي قد تظهر بوضوح في الأعمال الأدبية واللوحات الفنية والمقطوعات الموسيقية وبعض الأعمال السينمائية وغيرها. ولعل خير من يجسد هذا الخيال ويتبناه: هم الروائيون الذين امتهنوا كتابة الرواية الأدبية، ويأتي في طليعتهم بلا شك الراوي العربي الشهير أبو العلاء المعري، الذي ارتبطت شهرته بروايته الشهيرة؛ رسالة الغفران، التي قلده فيها الروائي الإيطالي "دانتي أليغري" بروايته التي عنونها بالكوميديا الإلهية. ومن المعاصرين الروائي المصري الشهير نجيب محفوظ الذي ترك لنا عددًا من الروايات منها: أولاد حارتنا، وزقاق المدق، والسراب، وعبث الأقدار، وليالي ألف ليلة وليلة وغيرها. ومثله الروائي الفرنسي فيكتور هوغو وروايته الشهيرة "البؤساء" أو البائسون، وغيرهم." ومن منطلق اهتمامه بالتاريخ وتخصصه به، يؤكد أ. د. الغامدي: "بأنه لا مندوحة من إقحام الخيال ممثلًا في الرواية الأدبية ضمن العلوم البينية أو المساعدة التي تعيننا على كتابة الحوادث والوقائع التاريخية، فإلى جانب القصائد الشعرية والكتابات النظرية التي نعدها مصدرًا مهمًا لكتابة التاريخ عبر العصور، يمكن إدراج الرواية الأدبية التي تقوم على الخيال المحض ضمن ذلك، وخاصة عندما نركز على كتابة التاريخ الاجتماعي. 

والرواية الأدبية –من وجهة نظر د. الغامدي- "تقوم في الغالب على الخيال، تعيننا على دراسة التاريخ الاجتماعي لذلك العصر الذي ظهرت فيه. فعلى سبيل المثال عندما ندقق النظر في رواية أبي العلاء المعري المتوفى سنة ٤٤٩هـ /١٠٥٧م. نلحظ بأن روايته كانت إفرازًا لما عرف بعصر الزندقة الذي شهده عصره، ومثله دانتي أليغري المتوفى سنة ٧٢١هـ/١٢٦٥م، الذي كانت روايته ردة فعل على التسلط الكنسي على الكتابة والتأليف والشعر آنذاك حيث كانت نقطة انطلاق التحرر من ربقة التسلط الكنسي، إذ كان لا يسمح بالكتابة والتأليف ونظم الشعر، إلا ما يخدم تعاليم الكنيسة، وهو ما عانى منه المجتمع الأوروبي لعقود فيما عرف بحقبة العصور الوسطى الأوروبية المظلمة وهو ما نلمسه في كثير من الروايات الأدبية واللوحات الفنية والأعمال السينمائية وغيرها من الأعمال التي يلعب فيها الخيال دورًا كبيرًا عربية كانت أو أعجمية. ويختم أ.د. الغامدي حديثه قائلًا "إن الخيال ممثلًا في بعض مجالاته ومنها الرواية الأدبية والرسومات الفنية والأفلام السينمائية وغيرها، يتداخل مع الوقائع والحوادث التاريخية، دون مساس بموثوقية النص الذي جاءت به هذه الأعمال مجتمعةً، التي تقوم في مجملها على الخيال، ناهيك عن عدم الخوض في مصداقيتها، ولكنها تعبر عما يجول في الواقع الذي يعيشه الراوي أو الرسام أو كاتب حلقات المسلسل أو الفيلم التي غالبًا ما يغلفها الخيال..! وعليه فإن الخيال ممثلًا في هذه النماذج، يُعدّ إحدى الدراسات البينية والعلوم المساعدة التي يعتمد عليها في كتابة وتدوين علم التاريخ، على اختلاف حوادثه ووقائعه وسير أشخاصه. ولا مانع من توظيف ذلك والاستشهاد به وعدّه مصدرًا للواقعة أو الحادثة التاريخية أو السيرة الشخصية".


وتتناول الأديبة الكويتية منى الشمري العلاقة بين التاريخ والسرد الذي يُعدّ محل تساؤل وإشكال وتتطرق إلى مدى إمكانية عد الرواية التاريخية تمثيلًا صحيحًا للتاريخ، في ظل الانتقائية في تناول الأحداث والشخصيات، موضحة بأن "الرواية التاريخية كجنس أدبي تتكئ على التخييل الفني لدى الروائي بالدرجة الأولى وعينها على الزمن أو الحدث التاريخي في الوقت ذاته، وهما مساران يذهبان بالروائي والقارئ معًا إلى عوالم ربما لم يعشها الاثنان، ليتكشفا معًا في رحلة المتن الروائي الأحداث والشخصيات، والمعرفة التاريخية. والرواية التاريخية قد تلعب دورًا في إضاءة جوانب من التاريخ قد تكون غائبة عن المتلقي أو إنها تعزز معرفة تفسير ما يحدث لنا في الوقت المعاصر بناء على ما حدث سابقًا في حقب تاريخية، ولهذا يصف جورج لوكاتش أي رواية تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق بالرواية التاريخية".

وترى الشمري أن الرواية "قد تنقل حدثًا أو تختار شخصية تاريخية لكن هذا العالم قد يصغر وقد يتسع حسب رؤية تخييلية جمالية يقدمها الروائي، وحسب هدف الروائي من الكتابة في هذا الحقل من الرواية وثمة كثير من الروايات استخدمت التاريخ لتقديم وجهة نظر السلطة والنظام، وهناك روايات خدمت اتجاهات معينة لتغيير أيديولوجيا القراء وزيفت حقائق وعبثت بالتاريخ الحقيقي مثل روايات جرجي زيدان الذي تأثر بالمستشرقين في رواياته التاريخية الإسلامية وفيها نزعة عنصرية في رؤيتها للشرق والشخصيات الإسلامية".

وتضيف الشمري بأن بعض الروائيين حين يأخذون من التاريخ ما يعزز مشروعهم التخييلي ثم يتجاهلون الحقيقة في الغالب، متمثلين بذلك مقولة هيغل التي تفيد بأن التاريخ يستخدم الناس ثم يتجاهلهم. ولهذا لا يمكن الحكم على موضوعية الرواية التاريخية ولا الثقة بما جاء فيها سواء أكانت الحقبة التاريخية إطارًا عامًا للعمل السردي أم انتقاء شخصية "البطل الملهم" أم حدثًا تاريخيًا والانطلاق منه كمحرك يحمل مغزاه". ومما أكدت عليه الشمري أيضًا هو أن "الرواية ليست لديها مدرسة شرعية تاريخية تنتقي منها الحقيقة، إنما الأمر فيه الكثير من التدخل التخييلي الفني والتأثيرات الذاتية الفكرية والفلسفية للكاتب، ولهذا يلجأ الروائي إلى التاريخ من خلال رواة أو شهود على العصر، وقد يستعين بأرشيف المكتبات من وثائق تاريخية وكتب وغيرها، لكن لم يحدث أن أي ممّن كتبوا التاريخ ودوّنوا الأحداث، استعان بأعمال روائية كمرجع، لأن التاريخ لا يثق بأعمال مبنية على المخيلة. وتظل هذه التساؤلات مطروحة بلا إجابات شافية، بل أن النقاد والباحثين لم يتفقوا على موضوعية الرواية التاريخية أو أنها نقلت التاريخ نقلًا صحيحًا أو مشوهًا؛ لأن كل رواية هي عمل إما يغزل التاريخ، وإما يشوهه بشكل أو بآخر، فلا يوجد دليل على عقلانية التاريخ في الرواية". وتختم الشمري مداخلتها "بأن الرواية التاريخية تظل عملًا إبداعيًّا يستخدم التاريخ كوسيلة للتخييل وليس كأداة توثيقية". 


أحدث منشورات

Comments


bottom of page