د. فيصل صالح السرحان*
تمر الإنسانية بلحظات مفصلية في التاريخ ينتج عنها حالة من حالة الإدراك والوعي على المستوى الفردي والاجتماعي، وينتج عنها الكثير من التساؤلات والسعي الحثيث لفهم الواقع، ومن هنا يأتي دور التاريخ بوصفه معطى من المعطيات المهمة التي تشرح الواقع وتحلل الصيرورة التي أفضت إليه، ولذلك كانت نشأة التاريخ يقظة في الوعي بصيرورة الحياة وتغيراتها، ومحاولة فهمها ومن ثم فهم اللحظة الراهنة.
ولا تكاد تظهر ملامح التاريخ بجلاء إلا حين تتخذ الأحداث مكانها في سردية زمنية قبل أن تصير خطابًا يروى، وكأن العملية الإدراكية آلية لموضعة الأحداث في التتابع الزمني والسببي ينتهي بها إلى صورة نهائية واضحة ومفهومة؛ إذ يعين التشكيل السردي للتاريخ على فهمه أولًا ثم ملاحقة أثره، فهو -أي السرد- وسيلة للفهم ومن ثم الإفهام، بقطع النظر عن علاقة السرد التاريخي تمثلًا ذهنيًا وخطابيًا بالوجود العيني الحقيقي؛ إذ يكاد يتفق الجميع على أن ثمة دورًا ذاتيًا في صناعة الصورة التاريخية تحتمها الضرورة في ربط الأحداث بعضها ببعض.
ينساق ذلك على الرواية التاريخية التي تأخذ من وهج التاريخ واشتراطاته كونها تتأسس على الخطاب التاريخي، وتتشارك -إلى حد بعيد- مع الكتابة التاريخية في صناعة الخطاب الروائي، من جهة علاقة نشأتها ونشاطها باللحظة المفصلية في التاريخ التي ينتج عنها حاجة ملحة لفهم الواقع والوعي بأهمية التاريخ في ذلك؛ لذا يعزو جورج لوكاش سبب ظهور الرواية التاريخية للوعي التاريخي، ويقدم في كتابه (الرواية التاريخية) بفصل يتحدث فيه باستفاضة عن التحولات الاجتماعية والسياسية التي شكلت الوعي التاريخي لدى الجماهير، ويربط تلك اللحظة ببروز نابليون، وما حف زمنه من أحداث، كـ"الثورة الفرنسية، والحرب الثورية، ونهوض وسقوط نابليون هي التي جعلت التاريخ لأول مرة تجربة جماهيرية، وأكثر من ذلك على نطاق أوروبي"(1).
وفي السياق العربي جاءت الرواية التاريخية استجابة للواقع وقتئذ وما فيه من أحداث عصفت به، وجعلت العودة للتاريخ وسيلة من وسائل البحث عن الهوية الإسلامية والعربية الخالصة في مقابل الآخر غير العربي، وكذلك للنظر في التمايز والائتلاف والاختلاف، وأسباب التراجع والتقدم الحضاري إلى غير ذلك من الأسباب، كل ذلك صنع وهجًا للرواية التاريخية، وأيًا ما يكن فالرواية التاريخية مرتبطة بالوعي، وتزداد أهميتها متى ما كانت الحاجة ملحة لفهم الواقع، ومتى ما حدثت تغييرات كبيرة ترمي الفرد في أتون التساؤلات.
وبلا شك فإن لحظتنا الراهنة هي لحظة مفصلية؛ فما نشهد من تحولات كبيرة في المستويات كافة تجعل الإنسان أمام جملة من التساؤلات التي ترتد به للتاريخ؛ سعيًا للفهم وربط الواقع بسردية تاريخية، وربما حنينًا لزمن انقضى لم يعد بالإمكان العودة إليه، وبعيدًا عن الأسباب الداعية للعودة إلا أن الشرارة التي تجعل الرواية التاريخية متوهجة بحسب ما يكشف لنا تاريخها، هي لحظة تاريخية مفصلية غالبًا ما تحمل تغيرات كبرى.
وعلاوة على ما سبق فإن عودة الرواية التاريخية للتوهج -كما هو الحال اليوم- أيضًا هو وعي بالفرص الإبداعية التي تحملها، وبما يتخلل النص التاريخي من ممكنات تتيح للفن الولوج فيه وإضفاء صورة حية للتاريخ، وإشباع فراغاته النصية بالتخييل، فتكون الوقائع نشاطًا متحققًا سرديًا ومُحققًا لما تضطلع به الرواية من دور جمالي، إضافة إلى خدمتها للتاريخ حين تبعث الروح فيه، فما يهم في الرواية التاريخية –بتعبير لوكاش- ليس إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبيرة، بل الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث(2).
من هنا كانت ألمعية المبادرة التي قدمتها دارة الملك عبد العزيز تحت مسمى (تاريخنا قصة) بتوجيه كريم من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي وجه -مشكورًا- دارة الملك عبد العزيز بأن تنهض بهذه المبادرة، وهو وعي باللحظة الزمنية الفارقة التي نعيشها اليوم، في ظل سعي المملكة لتحقيق مستهدفات رؤيتها التي من أهمها تعزيز للهوية المرتبطة بالضرورة بالتاريخ، إضافة إلى ما تمنحه الرواية التاريخية من مجد أدبي خالد حين تتحول إلى وثيقة فنية أدبية مرتبطة بجذور الكاتب وتاريخه وأرضه، وهي أقرب لأن تحقق مقروئية أوسع محليًا وعربيًا وعالميًا متى ما أوجدت شروطها الفنية، ومرتكزاتها التاريخية الغنية.
والمتتبع للحركة الأدبية في المملكة يلحظ بجلاء بأن النشاط النقدي والإبداعي الذي أحدثته المبادرة أعاد للسطح القضايا والإشكالات المتعلقة بالرواية التاريخية، سواء في التنظيرات النقدية أو الصناعة الإبداعية. وأود تسليط الضوء هنا على بعض النقاط المتداولة، وهي: التاريخية سؤال الماهية، والتأريخ الروائي، وتمثلات الهوية في الرواية التاريخية، والروائي صوت المهمشين الذين يصرخون طالبين السرد.
أولًا: سؤال الماهية، ما الرواية التاريخية؟
لعل أهم نقطة تشغل الكتَّاب عمومًا ليس السؤال الأجناسي بحد ذاته من جهة نسبة العمل لنوع الرواية التاريخية، فليس من هموم الكاتب -فيما رأيت- طرح هذا السؤال بخلاف النقاد الذي يعنون بمسألة الأجناس الأدبية، ولكن ما يهم الكاتب هو معرفة المدة الزمنية المقدرة بين الواقع والتاريخ.
تدور غالب الإجابات عن هذا التساؤل حول تقدير مدة زمنية تتفاوت بحسب تقدير الشخص كما يقول روبرت إيغلستون: ثمة اقتراح سائد بأن الرواية التاريخية هي عمل يوظف حوادث تأريخية حصلت قبل كتابة الرواية بخمسين سنة على أقل تقدير. ويشير إلى أن والتر سكوت يقترح ستين سنة بدل الخمسين(3). غير أن الاعتماد على مبدأ القياس السنوي غير دقيق؛ لأن الزمن يكشف عن نفسه في المتغيرات التي تدرك بعد تبلورها في مدة زمنية يصطلح عليها في عرف التأريخ بالحقبة، وأي اشتغال على مفهوم الزمن يفضي إليها. فـ"لا يمكننا قياس المسافة الزمانية باعتماد العقد، أو الجيل، أو القرن، ولكن بما يمكن تسميته بالحقبة الزمانية، ونقصد بها المدة التي تشترك بمجموعة من المواصفات المتصلة بالعصر المحدد، وتلتقي في مجموعة من المقومات، وعلى المستويات كافة"(4).
ينبني على ذلك بأن الحقب تختلف باختلاف التحولات التي تشهدها مختلف المناطق تراجعًا وتقدمًا، فلربما كان التحول في منطقة ما قريبًا، وعليه تكون الحقبة الماضية أقرب منها في منطقة شهدت تحولات في فترة بعيدة، فالتاريخ -على سبيل المثال- في بعض البلدان الإفريقية أقرب منه في منطقة الخليج العربي التي تشهد نموًا متسارعًا.
ثانيًا: هل الرواية تاريخٌ وهل الروائي مؤرخٌ؟
بخلاف ما يذهب إليه عدد من النقاد وما يطرح في السياق النقدي اليوم من أن الرواية التاريخية محض خيال لا ينبغي أن يقلق الكاتب بشأنه فليست مرجعًا تاريخيًا يمكن الاعتماد عليه، كما أنها عمل فني لا يرتقي لأن ينظر فيه من يروم التعرف على تاريخ منطقة ما، وهذا صحيح في المستوى النظري، ولكن هذا الطرح يغفل ما اضطلعت به الرواية من دور تأريخي كبير له طبيعته المخصوصة، صحيح أن المرجعية الروائية هي خيالية لكنها في الوقت ذاته لا تبني صورتها من العدم، وإنما من الإمكانات التي يتيحها التاريخ، وينبني عليها تصور الحقب والناس الذين عاشوا فيها، يعبر كونديرا عن هذا المعنى بقوله: "لا تبحث الرواية في الواقع، بل في الوجود، والوجود ليس هو ما وقع، الوجود هو حقل الإمكانات الإنسانية، هو كل ما يمكن أن يصيره الإنسان، هو كل ما يكون الإنسان قادرًا عليه، إن الروائيين يرسمون خريطة الوجود باكتشافهم هذا الإمكان الإنساني"(5)، ثم يصل إلى نتيجة مفادها أن "الوفاء للواقع التاريخي أمر ثانوي قياسًا إلى قيمة الرواية، فالروائي ليس مؤرخًا ولا نبيًا، إنه مستكشف الوجود"(6).
من هنا كانت الرواية التاريخية تأريخًا، ولكن بصورة مخصوصة إذ هي –إن جاز التعبير- صوت متخيل لوجود ممكن من منطلق الوجود الحقيقي الذي تتأسس عليه الرواية التاريخية.
- ثالثًا: تمثلات الهوية في الرواية التاريخية:
ترتبط الرواية التاريخية بالهوية لكونها ترتكز على التاريخ في صناعة أحداثها، فصورة الهوية في التاريخ أبرز منها في غيره، وأعني بالهوية هنا تلك الأطر العامة التي تشكل خطوطًا عريضة لها امتدادها في التاريخ وجذورها العريضة، من قيم وعادات وتقاليد وسلوك اجتماعي، وهذا لا ينفي التحولات التي تطرأ عليها مع التقادم في الزمن، ومن هنا تبدو ملامح الهوية في التاريخ ظاهرة؛ فالحركة التاريخية بطيئة لا يترتب عليها تحولات سريعة تؤثر في صورة الهوية، ولذا كانت العودة للتاريخ في الأدب الروائي العربي عودة تتلمس طريقها نحو الهوية العربية والإسلامية ثم تعيد إنتاجها أدبيًا بعد ذلك، يترتب على ذلك ضرورة مراعاة الأوصاف التي تبدي ملامح الهوية السردية في الروايات التاريخية، وأخص هنا الهوية في التاريخ المحلي الذي ظل بعيدًا عن تناول الروائيين -إلى حد كبير- قياسًا بالنتاج العربي والعالمي.
إن ما يمنح الرواية التاريخية روحها التاريخي، هو إبرازها للهويات في سياقها التاريخي، ويتحقق ذلك من خلال "سيرورة طويلة الأمد وليس فترة قصيرة أو محدودة في الزمان"(7)، تكون قادرة على رسم ملامح الهوية في الشخصيات والمجتمعات في الرواية.
الروائي صوت "المهمشين الذين يصرخون طالبين السرد":
إن الدور المنوط بالروائي الذي يتخذ من التاريخ موضوعًا لم يعد هامشيًا، وصدى للصوت التاريخي، وإنما هو صانع للتاريخ، وصحيفة يرقم عليها المهمشون قصصهم، وبذا يحدث التكامل بين التاريخ والأدب، وتتسع صورة التاريخ لتصل إلى المسكوت عنه، وتبرز أدوارهم المنسية، صحيح أن للشخصيات التاريخية رونقها، ولكن تمثّل الشخصية التاريخية روائيًا يتطلب اشتراطات أعقد، ربما ضيقت الإبداع وخنقته، والمتصدر لمثل تلك الموضوعات لا ينبغي له أن يعيد أفعال الشخصية؛ إذ هي مطروحة في كتب التاريخ، وإنما يذهب إلى الجهة الخلفية المجهولة لدى القارئ، ويمازج بين أفعالها وما خفي من تلك الأفعال، غير أنها -إلى حد كبير- مخدومة، ولذا يتجه الطرح النقدي الحديث نحو تعزيز فكرة التاريخ الهامشي، وتمثل وجهات نظرهم تجاه واقعهم وحكاياتهم خلف جدران التاريخ، يشير ريكور إلى ذلك بقوله: "إن مضامين السرد بوصفه إعادة سرد للتاريخ جديرة بالاعتبار، وليس التاريخ قصصًا تأريخًا عن الملوك والأبطال المنتصرين، أو تاريخ العظمة وحسب، ولكنه قصة الضعف والانتهاك -أيضًا-، وهو -أيضًا- تاريخ الموتى المقهورين الذين يصرخون طالبين السرد"(8).
خلاصة ما نصل إليه إن الرواية التاريخية ليست ما تبديه لوهله من كونها نوعًا سرديًا يقوم على التخييل والتاريخ فحسب، وإنما ترتكز وتتأسس على الوعي في مستوياته المختلفة: الوعي بالواقع وإشكالاته المعرفية وقضاياه وهمومه، ثم بطبيعة الرواية التاريخية وأشكال الكتابة فيها وتنوعها وتعددها، وما تفرضه على الكاتب، وما تحمله من قضايا وفرص، وما وصلت إليه من نضج فني.
*دكتوراه في النقد والأدب، المشرف على مبادرة "تاريخنا قصة" تحت مظلة دارة الملك عبد العزيز، صدر له: الأيديولوجيا في الرواية السعودية روايات يوسف المحيميد أنموذجًا، وأبحاث ومقالات أخرى.
1- الرواية التاريخية، جورج لوكاش، تر: صالح جواد الكاظم، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط2، ت1986م، (ص:11).
2- يُنظر: الرواية التاريخية، لجورج لوكاش، (ص: 46).
3- يُنظر: الرواية المعاصرة، روبرت إيغلستون، تر: لطيفة الدليمي، دار المدى، بغداد، ط1، ت 2017م، (ص:116).
4- قضايا الرواية العربية الجديدة (الوجود والحدود)، سعيد يقطين، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، ت 2012م، (ص: 162).
5- فن الرواية، لميلان كونديرا، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، ت2017، (ص: 52).
6- المرجع نفسه، (ص: 53).
7- الرواية التاريخية الجديدة ورهان التخييل، مصطفى النحال، الصائر للبحوث والدراسات، الإمارات، ط1، ت2024م. (ص: 139).
8- الذاكرة والسرد (حوارات)، بول ريكور، تر: سمير مندي، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، عمّان، ط1، ت2016م. (ص: 58).
Comentários