نوف السماري
فنانة تشكيلية
يُحكى أن رائحة ماء الكولونيا كانت تجعل سلفادور دالي مريضًا، فكان يفتش دومًا عن رائحة مختلفة، ربما شيء أكثر واقعية ووحشية في خيال ذلك السريالي، حتى مر قرب نافذة بيته كبش، ويومًا بعد يوم وهو يمر من نافذته بشكل متكرر، استغرق دالي في رائحته التي دفعت به بكل ثقته الإبداعية نحو مرسمه، أشعل موقدًا للكحول، وغلى بعض الماء، ملقيًا بعض المواد الضارة الموجودة حوله من أدوات الرسم الموجودة لديه، وكأن أنفه لا يزال غير راضٍ، وكأنه في حاجة لشي أكثر حيوانية، أعاد التجربة ملغى منها بعض المواد ومستبدلًا إياها بمخلفات الماعز من الفناء الخلفي لمنزله، حينها أعجبه صنيعه، لدرجة أن مسح بالخليط على جسده كاملًا ظنًا منه أنه تحول لذلك الكبش الذي يعبر نافذة منزله، ليمثل حيوانية الإنسان حتى بالرائحة، ومن هنا وصلت علاقة دالي الدائمة بالعطور إلى مستوى جديد ومختلف.
سكتش لحيوان الكبش
كانت مصممة الأزياء الإيطالية إلسا سكياباريلي من أوائل من أقنعوا دالي بالإبداع خارج أسوار الفنون الجميلة. ويُعدّ تعاونه معها في ثلاثينيات القرن العشرين من أشهر أعمال سكياباريلي: فستان جراد البحر، وقبعة الحذاء، وفستان الهيكل العظمي. وللاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية، والتعبير عن الفرح الذي شعر به الناس في فرنسا، أصدرت سكياباريلي عطر Le Roy Soleil "ملك الشمس"، بوصفه رائحة مبهجة في عام 1946م، الذي كان قد صمم زجاجته العطرية دالي حيث تحاكي إحدى لوحاته. كان مغلفًا بصدفة ذهبية على شكل فينوس تحمل زجاجة بلورية ذات دبابيس تشكل شمسًا ذهبية، حتى أصغر تفاصيل الزجاجة كانت تحتفل بنهاية الحرب، كانت هذه الزجاجة ذات الإصدار المحدود بمنزلة عمل فني؛ حيث ابتكر دالي أيضًا الفن الخاص بالحملة الإعلانية لذلك العطر، ومنها انطلق لتصميم أكثر من عطر بتصاميم مستوحاة من أعماله وكأنها قطع فنية قائمة بذاتها.
دالي مع إلسا سكابيرالي
إعلان زجاجة العطر
من متحف العطور في باريس
وفي السياق الفرنسي، نجد متحف العطور (Paris Musee de Parfum)، حيث تحتوي غرفه على معروضات للعطور وتاريخها وأساليب صناعتها القديمة، بما في ذلك زجاجات العطور العتيقة، والحاويات، وأطقم أدوات الزينة، وعروض مصورة لتقطير مستخلصات العطور، وأعمال تفاعلية حول كيفية صناعة العطور وتمييز مكوناتها حديثًا، ويقدم أيضًا تاريخ تصنيع العطور قديمًا وتعبئتها.
انشغل العديد من الفنانين البصريين في تقديم تجارب حسية تفاعلية في الكثير من أعمالهم، ولعل الأكثر يكون بصريًا خياليًا بطبيعة الحال، لنجد الكثير من الأعمال القديمة -على سبيل المثال- تُقدّم صورًا تعطي إيحاءات الروائح، فقد كان الفنان الإيطالي غيسيبي أرسيمبولدو معروفًا بلوحات بورتريه قطعية ذكية ومخادعة في القرن السادس عشر، أكسبته تلك الصور وشخصياته المجازية المكونة من أشياء، مثل: الفاكهة، والخضروات، والأصداف البحرية، والطعام، استحسانًا كرسام للبلاط، وشكلت تصورًا مسبقًا للحركة التاريخية الفنية اللاحقة للسريالية، وفي هذه اللوحة "شعور الرائحة" قدم شخصية أنثوية مجازية لها حضن من أزهار الياسمين، وأصابع مثل جذور الزنجبيل، وثوب مزين بالورود والزنبق، مخايلًا عنقها كاملًا كحبات صغيرة الحجم، قطع صغيرة مثقوبة تحتوي على مواد معطرة، وتحمل في يدها مجمرة معلقة مع بخور باعث لرائحة عطرة، مُكسبًا العمل شكلًا خياليًا جميلًا للنظر وخيال الرائحة له.
عمل دوشامب مع بالين في المعرض العالمي للسريالية
وفي ريادة الفن المفاهيمي وتجدده في الخروج عن المألوف، وما يؤديه أغلب الفنانين البصريين لا يمكننا إغفال دور مارسيل دوشامب (1887-1968). ففي ثلاثينيات القرن العشرين، حين لاحظ أن زملاءه كانوا مهتمين بالصناعة البصرية، الذي أطلق عليه باستخفاف اسم "فن الشبكية" مما دفعه إلى أشكال تجريبية للتعبير عن العقل من خلال مناشدة الحواس المختلفة، سواء في وقت واحد أم لا. في الواقع، كان أول أعماله الفنية الشمية حين أقام المعرض العالمي للسريالية (1938) في معرض الفنون الجميلة في باريس، وعمل دوشامب كقيم فني لصناعة فكرة المعرض بالتعاون مع فنانين سرياليين، مثل: مان راي، ورينيه ماغريت، وماكس إرنست، وقد تعاون مع الفنان النمساوي فولفغانغ بالين لتصميم الغرفة الرئيسة للمعرض، الذي كان أشبه بالعرض المسرحي، حيث غطت مجموعة من أوراق البلوط والأعشاب أرضية المعرض، ليواجه الزوار بركة مملوءة بالمياه ممتلئة بزنابق الماء والقصب، وبسبب تركيب محمصة القهوة وجد أغلبهم تمكنوا من تمييز ما ظنوا بأنه "رائحة البرازيل"؛ بسبب رائحة القهوة المحمصة، ومن السقف أيضًا كانت هناك أكياس ثقيلة من الفحم معلقة، التي كانت تتسرب منها رائحة نفّاذة ببطء ليشكل تجربة شم تفاعلية تُسهم في الإضافة للمعنى من العرض كاملًا.
آنيه توندور في بينالي الدرعية 2024
وفي رائحة الأرض والتربة والحنين المتعلق بذلك كله، يأتي العمل المشارك في بينالي الدرعية لعام ٢٠٢٤ "ما بعد الغيث"، قدمت الفنانة الفرنسية "آنيه توندور" تجربة عمل "رائحة الغيث في المدينة" من بحث قائم على أثر رائحة التربة الندية بعد المطر، كانت قد شرعت في البحث حتى يومنا وبتعاونها مع عالم الأنثروبولوجيا جيرمان موليمانز، دعت الفنانة أكثر من مائة ساكن في باريس لتحويل انتباههم إلى العمليات العضوية المزدهرة في شقوق رصيف المدينة. خلال جولات جماعية عبر مدينة باريس والمناطق المحيطة بها مباشرة، جمعوا التربة، التي قُطّرت بعد ذلك باستخدام العملية التقليدية للتقطير المائي، لتظهر نواتج التقطير من التربة في قوارير صنعت في فلورنسا، وعُبئت وعُلقت بشكل متتالي، لتتحول محتوياتها إلى كيمياء مرئية، بينما في جالية الجانب البصري منها نجدها تلقي بظلال متغيرة لتعكس الضوء بشكل جميل.
ومن البرازيل ومن فخاخ الرائحة المعلقة، يحضرني الفنان البرازيلي المعاصر إرنستو نيتو، الذي تُوصف أعماله بأنها تتجاوز البساطة المجردة، تركيباته عبارة عن منحوتات كبيرة وانسيابية ذات شكل تفاعلي يملأ مساحة العرض التي تمكن المشاهدين من التفاعل معه أو من خلالها. إذ تتكون من كرات كروشيه قطنية متعددة الألوان، معلقة من السقف بأطوال مختلفة تملؤها التوابل العطرية، يمكن عدّ منحوتاته تعبيرًا تجريديًا تفاعليًا مع المشاهد، غير أنها تأخذ شكلًا مختلفًا في تأثير الرائحة، وذلك من خلال انبعاثات القرنفل الخشبي، الذي قد يثير الراحة الشتوية مثلًا، وغيره مثل روائح الكمون النفّاذة، أو الزنجبيل، أو الفلفل كلها تتشكل ليُستنشق مزيج التوابل ذلك كله معًا، ليتحدى براعتنا الشمية ويجذبنا إلى مساحة روحية حسية، تتطور رحلتنا الحسية عندما نتأمل في قوام وأشكال وأغراض الحصى وروائح الطين الممدد والتربة والنباتات، والمياه، والطوب والخزامى، والبابونج، وكلها ينبعث منها المزيد من الروائح لتضخيم رغبتنا في تمييز ما هو بالضبط ما يحفز الحس الإنساني الأكثر ارتباطًا بالذاكرة.
في عام ٢٠٢٠ ومع جائحة كورونا وحظر اللمس والتوجس من الشم، أُقيم رغم ذلك معرض "عابر- الرائحة من اللون"، الذي كان مبنيًا على بحث للأستاذة ليزي ماركس المعيدة في قسم تاريخ الفن في جامعة كامبردج، يتقصى بعض المعاني للوحات من القرن السابع عشر، وأغلبها أعمال لفنانين هولنديين، بمنزلة رحلة استكشاف ستُلهم الزوار لـ"استنشاق الفن" من منظور مختلف، وذلك عن طريق موزعات الروائح المختلفة يمكنهم شم رائحة خزانة الكتان النظيفة، وحقول التبييض، والعنبر، والمر، وبالطبع قنوات النهر ذات الرائحة الكريهة، العجيب أن الحضور حينها كان ملزمًا بالكمامة، ورغم ذلك كان التفاعل من خلال المتابعة للأعمال وموزعات الروائح التي تكبس بدواسة للقدم للجهاز أمام كل عمل ممثلًا الرائحة المتخيلة لذلك المشهد. عُرضت خمسون لوحة؛ حيث أُقيم العرض في متحف مورتاوس في مدينة هايج في هولندا.
ومن ممرات الرائحة في الصور، لا نستطيع أن ننسى كيف لجمال الورد الطائفي ورمزية رائحته الجميلة وأيقونيته، ولا نملك إلا أن نستشعر ذلك الجمال الملتف شكلًا ورائحة ورمزًا، الذي بات مسجلًا في قائمة اليونسكو الآن في التراث غير المادي، ولعل أحد أجمل الصور التي تعبّر عن كيف تنغمر بذلك الجمال المنهمر للورد الطائفي، كانت الصور الفوتوغرافية للمصور السعودي عبد الرحمن الدغيلبي، الذي يتميز بالتقاطاته للورود العطرة ذات الروائح العالقة بذاكرة الجميع؛ مما يزيد من جمال الصورة.
الرائحة في الفن هي افتتان محول في طُرق الذاكرة، الخيالات العطرة المطرزة بالألوان . . وملامح الحنين منها، وكل ما توقظ من مشاعر لدى الرائي هي حتمًا مرحلة مختلفة، وتأخذ شكلًا عميقًا وواضحًا نحو عوالق ذات الإنسان في تعريف متاهات الجمال الموشى في روحه.
Comments