محمد سعيد جمعة
أعتقد أن معظم الشخصيات الرئيسة في الأعمال الروائية الكُبرى مُلتَقطة من الواقع، مع إضافة خيالية من الكاتب هُنا وهناك. لكنْ قِلة نادرة من الشخصيات الرئيسة هي التي اختُرعت اختراعًا.
في روايته "العطر" الصادرة عام 1985، اخترع لنا الروائي الألماني "باتريك سوزكيند" بطلًا فريدًا من نوعه. هذا البطل، أو هذا الاختراع بمعنى أدق، وُلد في أقذر مكان بباريس في القرن الثامن عشر، ويُدعى "جان بابتيست غرونوي".
ما يجعل "غرونوي" أشبه باختراع هي موهبته الكُبرى المُرتكزة في أنفه. فأنفه يستطيع أن يلتقط رائحة الأشياء مهما كانت بعيدة عنه. على بعد عشرات الكيلومترات يُمكنه أن يشم قطعة خشب ويعرف الظروف التي مرت بها هذه القطعة، بدءًا من كونها جزءًا من شجرة ووصولًا إلى حالتها الآنية. يُمكنه أن يرى في الظلام، ليس لأنه يمتلك عينيْ بومة، بل لأنه يستطيع أن يُحدِّد أماكن الأشياء بدقة من خلال رائحتها فقط. وكل شيء بالنسبة لأنف "غرونوي" له رائحة تُميزه كبصمة اليد.
المُفاجأة أن هذا الشخص الذي يلتقط روائح الأشياء ويُميِّز بينها بعبقرية.. ليست له رائحة! ليست له بصمة! غرونوي صاحب الأنف الأعظم على الإطلاق لا يُمكنه أن يشم نفسه، لأنه بلا رائحة. انطلاقًا من هذه المُفارقة تُنسج حبكة الرواية. فـ "غرنوي" يريد أن يكتسب رائحة شخصية، وفي سبيل هذا سيرتكب العديد من الجرائم.
يُمكننا بسهولة أن نكتشف رمزيات الرائحة في الرواية، و"سوزكيند" نفسه لم يبخل علينا بإيضاح هذا في أكثر من موضع. الرائحة هُنا قد ترمز إلى الجوهر، الماهية، الروح.. أو حتى إلى قيمة الإنسان بشكلٍ عام. لكن ما نريد أن نكتشفه ونُجيب عنه في هذا المقال هما سؤالان رئيسان:
لماذا اختار "سوزكيند" الرائحة تحديدًا كتعبير عن ماهية الإنسان، عن روحه، عن جوهره؟
ولماذا اختار "غرونوي" أن يكتسب ماهيتَه من خلال روائح الفتيات العذراوات تحديدًا، مع أنه رجل وليس أُنثى؟
للإجابة عن هذين السؤالين، سنُركِّز على المواضع التي تعامل فيها "باتريك سوزكيند" مع الرائحة ورموزها بشكل مُباشر خلال أحداث الرواية. وفي النهاية سنتحدث عن الفيلم الشهير المُقتبس من الرواية، ومدى الإفادة والضرر اللذين ألحقهما بجوهر العمل.
الرائحة كصورة ظاهرية وباطنية للأشياء:
من خلال العرض المبدئي لموهبة "غرونوي"، نفهم أن الرائحة يُمكنها أن تكون بديلًا عن الصورة الخارجية للأشياء، وعمَّا وراء الصورة أيضًا: "بدأ يُميز بأنفه بين الخشب العتيق والطازج والهش والمُتعفن، بل حتى بين أنواع الحطب وكسراته وفتاته. كان يشمها بوضوح كمواد مختلفة عن بعضها، في حين أنه لم يكن بمقدور الآخرين التمييز بينها ولا حتى بعيونهم". ص 33.
لو وضعنا أمام "غرونوي" عدة أكواب مختلفة من الحليب سيُفرِّق بينها حسب نوع البقرة التي حُلب منها كل كوب، وحسب نوع الحشائش التي التهمتها كل بقرة. من هُنا يؤسس "سوزكيند" لفكرة أن الرائحة ترمز لشيء أعمق بكثير من الصورة الخارجية، فهي لا تحمل الحالة الآنية للشيء فحسب، بل تحمل سيرته وتاريخه أيضًا، وتُقدِّم لـ "غرونوي" بيانات لا يُمكن أن تُقدمها الصورة لأعظم المُبصرين. في هذه الحالة لا يُصبح أنف "غرونوي" مجرد أداة بصرية مُذهلة، وإنما هو أداة للبصيرة أيضًا. وبالتالي فإدراكه للأشياء ووعيه بماهيتها أشمل وأعمق من إدراكنا جميعًا. مع ذلك كان بحاجة إلى لحظة فارقة يزداد فيها وعيه بموهبته وبما يُمكنه أن يصنعه. وقد حدث ذلك في أحد أزقة باريس.
صعوبة فصل الرائحة عن الجسم:
في ذلك الزقاق سيشم "غرونوي" رائحة بائعة البرقوق التي كانت في نحو الرابعة عشرة من عمرها. عبق هذه الفتاة سيفتح أنفه على الجمال الكامن في العالم الذي لم يكن يعرف عنه شيئًا: "خامره إحساس غريب بأن هذه الرائحة الطيبة هي المفتاح لعالم الروائح الطيبة الأخرى كلها، وبأنه ليس بمستطاع الإنسان أن يفهم الروائح الطيبة إن لم يفهم هذه بالذات. وأدرك أن حياته ستضيع هباءً إن لم ينجح في امتلاك هذه الرائحة بعينها". (ص49).
لو تخيلنا أن "غرونوي" مُقدرٌ له أن يكون فنانًا أو شاعرًا، فهذه الفتاة هي بمنزلة القصيدة الأولى التي لمست روحه وجعلته راغبًا في أن يُنتج قصائد بنفس جودتها. الباحث الأمريكي الشهير "جوزيف كامبل" في كتابه "البطل بألف وجه" يُسمِّي هذه اللحظة في حياة الأبطال باسم: "نداء المُغامرة". وهي اللحظة التي تُناديك فيها قوة غامضة وتوجِّهك ناحية هدفك.
"غرونوي" الذي ألهمته فتاةٌ عذراء بعطرها الساحر، يُريد أن يعرف مصدر هذا العطر ويريد أن يُنتج عطرًا بالجودة نفسها. يخنق الفتاة ويقتلها ليشم عطرها ويحتفظ به في روحه، والقتل بالنسبة له ليس قتلًا بالمعنى الفيزيائي، وإنما هو استخلاص للجوهر. الأمر بالنسبة له أشبه بقطف وردة أكثر من كونه قتلًا لفتاة.
ما سيُزعج "غرونوي" فيما بعد أنه لا يستطيع استخلاص روائح الأجسام ووضعها في زجاجة كما يستخلص رائحة وردة. فعندما يصبح تلميذًا عند "بالديني" صانع العطور، سيحاول أن يستخلص الرائحة عبر تقنية التقطير من عدة مواد: "قطَّر النحاس والخزف والجلد. قطَّر التربة والدم والخشب والسمك الطازج. قطَّر شعر رأسه، وحتى ماء نهر السين". (ص118).
يفشل "غرونوي" في استخلاص الرائحة من هذه المواد عبر تقنية التقطير، مما يجعله يمرض ويوشك على الموت من فرط الإحباط. لكن "بالديني" يُخبره أن هناك تقنيات أخرى لاستخلاص العطر أكثر فاعلية من تقنية التقطير؛ منها تقنية تشريب الأزهار بالزيت والدهن، ويُمكنه أن يتعلم هذه التقنيات في مدينة "غراس" في جنوب فرنسا.
هُنا يُمهِّد "سوزكيند" لإمكانية استخلاص رائحة البشر، مع التأكيد على أن ليس سهلًا بحيث لم يجرؤ أحد على فعل ذلك قبل "غرونوي". فصعوبة استخلاص رائحة إنسان كصعوبة استخلاص ماهيته.. روحه.. وفصلها عن جسده.
حتى الآن فهمنا أن الرائحة يُمكنها أن تكشف ما وراء الصورة، وأن فصلها عن الجسم أمر شديد الصعوبة إن لم يكن مستحيلًا. وهذا يُساعدنا على المُقاربة بين الرائحة والماهية، وبالتالي الإجابة عن السؤال المُتعلق باختيار "سوزكيند" للرائحة تحديدًا كتعبير عن ماهية الإنسان.
تحسين رائحة البشر الكريهة:
يتجه "غرونوي" إلى مدينة "غراس" مشيًا على الأقدام ليتعلم التقنيات المختلفة لاستخلاص الرائحة. ورغم أنه قتل فتاةً، مما يعني أنه مُجرم، إلا أنه حتى هذه اللحظة كان يُريد الخير للأرض: "كان يتصور نفسه كإنبيق مثل هذا، يغلي، ومنه يتدفق السائل المُقطر، سائل مقطر من نباتات نادرة ومُنتخبة زرعها في داخله، نباتات سيحول عطرها الفريد هذا العالم إلى جنة عدن". (ص 116).
يمضي "غرونوي" في البراري، فيشعر بالراحة كلما ابتعد عن روائح البشر. الآن فحسب يُدرك أن حُريته وسعادته تكمن في الابتعاد عن روائحهم الكريهة. في هذا الجزء تحديدًا من الرواية نُدرك مُشكلة "غرونوي" الفلسفية مع البشر. الأمر لا يتعلق فقط بأنه نشأ في بيئة قذرة وجرى التعامل معه باحتقار، مما جعله ناقمًا على الآخرين.. لا.. بل إنه غير مُعجب بهم من الأساس، غير مُعجب بجوهرهم ولا بماهيتهم: "وبعد أسابيع من سفره لم يعد يحتمل رائحة المسافرين النادرين الذين يلتقيهم، ولا حتى رائحة الفلاحين، ثم أصبح يتجنب قطعان الماشية، لا بسبب الغنم، وإنما تجنبًا لرائحة الراعي". (ص137).
هُنا يبدو "غرونوي" كفيلسوف مُتطرف، يُمكننا أن نتعاطف معه ونفهم أفكاره مثلما نفهم أفكار "نيتشه" -على سبيل المثال- هذا إن استبعدنا أنه قتل فتاة.
هذه الكراهية الفلسفية لرائحة البشر سيُعبِّر عنها "سوزكيند" بحسٍ ساخر أثناء صُنع "غرونوي" لها، وذلك عبر اختياره للمواد الأساسية التي تُشكل رائحة الإنسان: غائط قطط، سمك الزنج، بيضة فاسدة، وشحم الخنزير المُصفى: "كانت رائحة المزيج قاتلة كمرحاض متآكل". (ص 172)
رغم كراهيته العميقة لرائحة البشر، إلا أن "غرونوي" كان مُضطرًا لوضعها على جسمه، وذلك بسبب لحظة وعي أخرى فارقة في حياته. هذه اللحظة لم تحدث في أزقة باريس، وإنما في كهف.
فعندما خرج "غرونوي" من باريس وابتعد عن روائح البشر عاش في كهف لمدة 7 سنوات، كانت أفضل سنوات عمره. هناك نسي حلمه في استخلاص رائحة الأشياء وبأن يصبح أعظم صانع عطور في التاريخ، وتوحَّد مع نفسه. يُسمي "جوزيف كامبل" هذه المرحلة من حياة الأبطال بمرحلة "بطن الحوت"؛ نسبةً إلى حوت يونس عليه السلام، وهي تتشابه مع بئر يوسف ونار إبراهيم عليهما السلام. أي المكان الذي يدخله البطل ويتعرَّض فيه إلى تجربة روحية كُبرى يخرج منها إنسانًا مُختلفًا.
لحظة الوعي تزور "غرونوي" في حلمه، إذ يرى في المنام أنه بلا رائحة. وعندما يستيقظ ويشم نفسه يتأكد من هذا. يستعيد "غرونوي" تاريخه مع البشر فيُدرك أنه لم يكن مرئيًا طوال حياته بالنسبة لهم. صحيح أنهم كانوا يرونه كجسم يتحرك، لكنهم لم يروه كإنسان. لم يكن ذا قيمة بالنسبة لهم.
في هذا الجزء تحديدًا من العمل تتكشف لنا بوضوح رموز الرائحة في الرواية، وارتباطها بجوهر الإنسان وماهيته.
يُقرر "غرونوي" أن يترك كهفه ويعود للاندماج بين البشر ليصنع لنفسه رائحة. انطلاقًا من هنا لم يعد "غرونوي" مُنشغلًا بأن يجعل من الأرض جنة عدن، بل يريد أن يصنع مجده الشخصي وفقط. وفي سبيل هذا المجد سيرتكب أشنع الجرائم، كأنه ينتقم من أنه وُلد بلا رائحة.
ينجح بالفعل في صنع رائحة بشرية من المواد التي أسلفنا ذكرها. وبما أنه يشعر بالقرف منها، يعمل على تحسينها وتطويرها للتأثير في الناس والتلاعب بهم. وبعد أن ينجح في ذلك ينتقل إلى هدفه الأكبر: صُنع العطر الملائكي الذي يجعل منه ملاكًا على الأرض، ومَلِكًا عليها.
العذراوات.. والعطر الأعظم على الإطلاق:
ما جعل "غرونوي" يؤمن بقدرته على صنع العطر الملائكي هي لحظة إلهام جديدة تُشبه تلك التي حدثت في أحد أزقة باريس، وذلك عندما يشم عبق فتاة ثانية. مرةً أخرى الفتاة عذراء وشعرها أحمر وفي نفس عُمر الفتاة الأولى، لكنها من طبقة راقية ولا تبيع البرقوق: "أن يجد هذا العبق في هذا العالم ثانيةً جعل دموع الفرح تترقرق من عينيه". (ص 165).
يستعيد "غرونوي" حالة السحر والنشوة التي شعر بهما من قبل، ومع الوقت يُدرك أن عبق هذه الفتاة أرق وأغنى من عبق الفتاة الأولى. كأن الشاعر عثر على قصيدة أكثر جودة من القصيدة الأولى التي جعلته شاعرًا.
هذه المرة لا يريد أن يحتفظ برائحتها في ذاكرته، وإنما في زجاجة، خاصة أنه تعلَّم كيف يستخلص رائحة إنسان. يقتلها بعد أن يقتل 24 فتاة عذراء قبلها، ثم يمزج رائحتها برائحتهن ليحصل على عطره الملائكي.
نفهم من هذا كله أن الرائحة المثالية بالنسبة لـ "غرونوي" هي رائحة الأُنثى العذراء البريئة. هذا هو الشكل الأمثل للروح البشرية بالنسبة له، أو بالنسبة لأنفه. هذه هي الماهية الوحيدة التي يستطيع أن يتصالح بها مع البشر. وأظن أن هذا يُجيب على سؤالنا الثاني: لماذا اختار "غرونوي" أن يكتسب ماهيتَهُ من خلال روائح الفتيات العذراوات، مع أنه رجل وليس أُنثى؟
أما فيما يتعلق بالسؤال الأول، فأظن أنه اتضح لنا العلاقة الرمزية بين الروح والرائحة التي جعلت "سوزكيند" يختار الرائحة تحديدًا للتعبير عن ماهية البشر. فإذا اخترنا أكثر مادة فيزيائية تُناسب الروح أو الماهية، ستكون الرائحة. كلتاهما يصعب فصلهما عن الجسم أو تحديدهما، غير مرئيتين، شبحيتان، تسللان إليك دون وسيط ملحوظ: "إن بوسع البشر أن يُغمضوا عيونهم أمام ما هو عظيم، أو مروِّع أو جميل، وأن يغلقوا آذانهم أمام الألحان والكلام المعسول، ولكن ليس بوسعهم الهروب من العبق، لأنه شقيق الشهيق، معه يدخل إلى ذواتهم، ولا يستطيعون صده إن رغبوا بالبقاء على قيد الحياة. إنه يدخل إلى أعماقهم، إلى القلب مباشرةً حيث يُفصل بين الميل إليه أو احتقاره، بين القرف منه أو الرغبة فيه، بين حبه أو كرهه". (ص 177)
نجح "غرونوي" في استخلاص روح الفتاة ذات الشعر الأحمر، وعندما وضعها على جسمه أصبحت روحه. وخير دليل على نجاحه أن والد الفتاة تغاضى عن الرغبة في الثأر منه، وأصبح يحبه كما كان يُحبه ابنته، لدرجة أنه أصبح يُناديه بـ "بُني" وأراد أن يُكمل معه بقية حياته.
مع ذلك يُدرك "غرونوي" أن هذه ليست ماهيته هو، وأنها مجرد خُدعة ساحر. صحيح أنه نجح في الحصول على الماهية الملائكية التي لا تقبل الشك، وخضع الجميع له. لكن كل هذا مُزيَّف. مُجددًا يعود الفيلسوف المُتطرف الذي يكره البشر لأن ماهيتهم كريهة، ويكره نفسه لأنه بلا ماهية. وهذه صفات كائن يكره الحياة ويكره وجوده أكثر مما كان يعتقد.
لذلك قضى "غرونوي" على نفسه بطريقة شاعرية في النهاية.. فارتاح من البشر وأراحهم من شره.
هل قدَّم الفيلم إضافة للرواية، أم سطَّح منها؟
في عام 2006 تحوَّلت الرواية إلى فيلم باللغة الإنجليزية، من إخراج الألماني "توم تايكور". لو سألت أي قارئ عن رأيه في الفيلم المُقتبَس عن روايته المُفضلة، ستجد في الغالب رأيًا سلبيًّا. فالطبيعة البصرية والدرامية للسينما تقتضي أن يُبتر أذرع الروايات، خاصة عندما تكون الروايات بالعُمق الفلسفي الموجود في هذه الرواية. وهذا الفيلم لم يكن استثناءً.
لا أريد أن أُقلل من الفيلم، فأنا أحبه كثيرًا. فقط سأُشير إلى المواضع التي عزَّز فيها جودة الرواية، والمواضع الأُخرى التي أضر بها وسطَّحها.
أرى أن الفيلم كان إضافة قوية للرواية في المشاهد المُعبِّرة عن موهبة "غرونوي"، أو طريقة تعامله مع الرائحة بشكل عام. فالمشهد الذي شمَّ فيه بائعة البرقوق كان مُذهلًا في كل عناصره؛ الأداء التمثيلي وحركة الكاميرا والموسيقى في الخلفية التي قد تجعل المُشاهد يبكي من فرط النشوة.
هذه الجودة ظهرت مرة أخرى في معمل "بالديني" صانع العطور، خاصة في المشهد الذي شمَّ فيه "بالديني" أول عطر صنعه له "غرونوي". جرى التعامل مع هذا المشهد برهافة، فأوصل للمُشاهد من خلال الصورة ما عبَّر الكاتب عنه باللغة.
كذلك كل المشاهد التي تطرقت لموهبة "غرونوي" في التقاط الروائح كانت مُتقنة. تجوَّلت الكاميرا برشاقة في الطبيعة، قطعت مسافات طويلة في لحظات، نزلت تحت الماء وتجولت في مَعِدة الكائنات.. ولم تبخل علينا في التعبير الدقيق عن أنفه الخُرافي. وكاميرا "توم تايكور" بارعة في هذا الأمر، حيث تأخذ زواياها وتتحرَّك بما يتوافق مع طبيعة البطل، فتُعبِّر عن مواهبه ورغباته ومخاوفه. ومَن شاهد فيلمه: “run lola run” الصادر عام 1998 سيُدرك جيدًا ما أقصده.
لكن ما أخفق فيه الفيلم هو الحذف بهدف الحفاظ على التشويق، مما شوَّه جسم الرواية. مثلًا، الفيلم لم يُخبرنا بأن "غرونوي" جلس في الكهف لمدة 7 سنوات، بل جعل الأمر يبدو كأنه عدة أشهر فقط. مع أن قصة "غرونوي" في الكهف تصلح وحدها لصُنع فيلم كامل وتجعلنا نفهم منظوره الفلسفي إلى العالم بشكل أعمق، وقد يتغيَّر حُكمنا عليه من خلال ما حدث له في الكهف فقط.
كذلك حُذف جزء كامل من الرواية، وهو قصة تبني "غرونوي" من "الماركيز إسبيناس". في هذا الجزء تحديدًا يتحوَّل "غرونوي" من إنسان غير مرئي ومُحتَقَر إلى إنسان مقبول اجتماعيًا، فيُولد من جديد بعد أن يصنع لنفسه رائحة. مع حذف هذا الجزء والذهاب بـ "غرونوي" مباشرةً إلى مدينة غراس، فقد الفيلم الكثير من الثقل الفلسفي والرمزي للرواية.. وأصبح مجرد تتبع لقصة قاتل.
صُناع الفيلم كانوا أذكياء في اختيار مُعلق صوتي يشرح من حين لآخر ما يدور بنفس "غرونوي"، لكن الفيلم كان بحاجة إلى مزيد من تدخلات المُعلق الصوتي للحفاظ على القيمة الفلسفية للعمل.
كما ذكرت أنا أُحب الفيلم وأُشاهده دوريًا، لكنه ليس بديلًا عن الرواية بأي حال. من يُشاهد الفيلم دون أن يقرأ الرواية سيحصل على نسخة مشوهة من الفكرة. فقط يُصبح الفيلم تجربة رائعة بعد قراءة الرواية، لأن المُعادل البصري فيه كان مُدهشًا.
والدليل على جودة المُعادل البصري في الفيلم، أني الآن في أمسِّ الحاجة لمشاهدته بعد كتابة هذا المقال.
*روائي وقاص مصري، تخرج من كلية دار العلوم جامعة القاهرة، وفاز بالعديد من الجوائز الأدبية في القصة والرواية.
댓글