top of page
سياق

الضفة الأخرى | ثقافة الرائحة وتجلياتها في الأدب الأمريكي

د. غزال الحربي

أستاذ مساعد الدراسات الثقافية والأدبية  في جامعة الملك سعود



اهتمّ الدرس العلمي الغربي بالسمة الحيوانية للرائحة، وانصرف إلى دراسة حاسة الشمّ لدى الحيوانات بوصفها أداة غريزية لازمة للسلامة, وتناول كيفية استخدام الحيوانات للروائح كوسيلة للتواصل, ومعرفة الشريك, والتحذير من المخاطر المحتملة. كما ركّزت الدراسات العلمية للرائحة على معرفة طبيعة تحفيز الروائح للسلوك البشري على المستوى الغريزي، وعلى طبيعة تأثيرها في اللاوعي الإنساني. ومقابل هذا الاهتمام العلمي الواسع بموضوع الرائحة, خاصة لدى الحيوانات, نجد أن حاسة الشم لم تحظ بالدراسة والاهتمام الكبير بأبعادها الرمزية وتمثلاتها الجمالية في الدراسات الأدبية والثقافية. فعلى الرغم من حضور الرائحة بشكل مكثّف في الأعمال الأدبية إلا أن النقد الأدبي والفلسفي ظلّ مقصّرًا في تحليل وقراءة رمزياتها الثقافية والاجتماعية. كما نلحظ أن حاسة الشمّ لم تنل الاهتمام نفسه الذي حظيت به حاستيّ السمع والبصر في تجاوزهما للحيّز البيولوجي إلى دراسة طبيعة تمثلاتها الرمزية والجمالية في فكر الشعوب وآدابها وثقافاتها منذ القدم حتى وقتنا المعاصر؛ حيث تشير بعض الدراسات الحديثة في مجال الرائحة إلى ندرة طرح موضوع الرائحة في الدراسات الثقافية والأدبية وحتى الأنثروبولوجية, وقد يكون ذلك بسبب صعوبة وصف وتحليل التأثير النفسي والثقافي والاجتماعي الخفيّ للرائحة، وفهم كيفيّة تسرّبها إلى جوانب ثقافية مختلفة تتجاوز الحيز البيولوجي المتمثل في كونها حاسة للشم والإدراك الحسيّ فحسب. 


الوعي بأهمية الرائحة في الدراسات الثقافية الغربية

  ظلّ الوعي بأهمية دور الرائحة في تشكيل فهمنا لأنماط سلوكية وثقافية واجتماعية محدودًا في الدراسات الثقافية الغربية. حيث بدأ عدد قليل من الدارسين والمهتمين بالشأن الثقافي في القرن الحالي بتسليط الضوء على هذا الموضوع، وركزوا على دراسة وفهم رمزيات الرائحة في الأعمال الأدبية والفكرية والثقافية, وحاولوا تقديم قراءة منهجية مختلفة لتجليات الروائح في الأدب وكيفية اختزالها لمعاني إدراكية أخرى تعكس طبيعة فهمنا لأنفسنا، وطبيعة نظرتنا للآخرين من حولنا. وظهرت إحدى أهم الدراسات  في هذا السياق عام 2006 وكانت تدعو إلى عدم التقليل من شأن الرائحة، وتحفّز الدراسات الثقافية على طرح موضوع الرائحة من جانب ثقافي مختلف يساعد على فهم تداعياتها الثقافية والفلسفية في سلوك المجتمعات؛ حيث يوضح جيم دروبنيك Jim Drobnick، أستاذ الفن المعاصر في جامعة تورنتو في كتابه "قارئ ثقافة الرائحة" The Smell Culture Reader إلى أن الروائح متداخلة بطرق خفية في مختلف الجوانب الثقافة، وأنها تلعب دورًا مهمًا في تشكيل الهوية الشخصية، وتحديد المكانة الاجتماعية، وتأكيد الانتماء الاجتماعي والديني، والحفاظ على التقاليد. فالرائحة, من وجهة نظر دروبنيك, ليست مجرد ظاهرة بيولوجية بل هي قوة اجتماعية وثقافية ذات تأثير كبير.

وعلى مرّ العصور, استُخدمت الأعمال الأدبية الروائح لتجسيد معانٍ عاطفية واجتماعية ونفسية. واستطاع الأدب أن يكشف لنا عن تلك المعاني الخفيّة للرائحة التي تجاهلها الدرس العلمي, وقدّم لنا الأدب صورة واضحة لطبيعة اختزال المجتمعات البشرية لمعاني متنوعة، مثل: الحرية، والعنصرية، والظلم الاجتماعي، والمقاومة، والخذلان، والانتماء للمكان، والذاكرة، وتحديد الطبقة الاجتماعية وغيرها, وذلك من خلال إضفاء روائح لهذه المعاني تنتشر في الأفق السردي والشعري بوصفها بوابات إلى عالم اللاوعي في النفس البشرية. 


رمزية الرائحة في الأدب الأمريكي

حضرت الروائح بشكل ملحوظ في أعمال كثير من الأدباء الأمريكيين على امتداد الحقب الزمنية لهذه الأعمال الأدبية، وذلك بوصفها عنصرًا فنيًا وجماليًا مهمًا. غير أنه لم يأتِ الالتفات إلى دراسة تجليات الرائحة في هذا الأدب من جانب ثقافي وتحليلي معمّق إلا في دراسة حديثة صدرت عام 2017 نظرت في رمزية استعمال الرائحة في الأدب الأمريكي، وكشفت عن تمثلات الرائحة المتنوعة في السياق الثقافي للمجتمع الأمريكي. جاءت الدراسة بعنوان: "قوة الرائحة في الأدب الأمريكي: الرائحة والعاطفة والتفاوت الاجتماعي" The Power of Smell in American Literature: Odor, Affect, and Social Inequality للأكاديمية المتخصصة بالأدب الأمريكي دانييلا بابيلون. وتُعدّ دراسة دانييلا هذه من الدراسات الرائدة في تحليل رمزية وتجليات الرائحة في الأدب الأمريكي؛ حيث تؤكد في كتابها على أن ظهور الرائحة في الأدب الأمريكي كان بارزًا، مما يجعلها موضوعًا مهمًا في تحليل هذا الأدب عبر أزمنة مختلفة. ووضحت أن الغاية من تأليف هذا الكتاب هو سد الفجوة في تناول موضوع الرائحة في الأدب من خلال تحليل شامل للرائحة كعنصر أدبي واجتماعي. يتمحور الكتاب حول كيفية استخدام الإشارات الشمية في الأدب الأمريكي بغرض انتقاد الهياكل القمعية أو تقويضها. وتؤكد دانييلا بأنه على الرغم من الاهتمام المستمر بالجسد البشري في الدراسات الأدبية والثقافية الأمريكية، فإن حاسة الشم والدافع الأدبي لاستعمال الرائحة يفتقران إلى تحليل واسع وشامل, وأن هذا الاستعمال الأدبي للرائحة غير مدروس بشكل كافٍ. ولا توجد دراسة واحدة -بحدّ قولها- تقدم تفسيرات متعمقة وتعطي نظرة تحليلية شاملة لكيفية استخدام الأسلوب الأدبي لإشارات الرائحة في الأدب الأمريكي وتمثلات ذلك في سياق القوة المهيمنة. وهذا أمر لافت للنظر؛ لأن معرفة تمثلات الرائحة ورمزيتها في الأدب بشكل عام من شأنه أن يكشف لنا عن جوانب ثقافية واجتماعية تجعلنا نفهم جوانب نفسية من سلوكياتنا تجاه أنفسنا والآخرين وتجاه القضايا الكبرى التي تطرحها الأعمال الأدبية. وبالتالي فإن كتاب دانييلا يُعدّ خطوة مهمة ومرجعًا ملهمًا لكثير من الدراسات الأدبية والثقافية لسد الفجوة العلمية في دراسة رمزية الرائحة وتجلياتها في الأدب، من خلال تحليل الاستعمال الفني والجمالي للروائح والوقوف على الدوافع المختلفة لهذا الاستعمال، والكشف عن رمزياته ومرجعياته في السياق الاجتماعي والثقافي العام.

 يقدم الكتاب قراءات متعمقة لأعمال أدبية أمريكية من فترات زمنية مختلفة، ويسلط الضوء على كيفية توظيف الرائحة كعنصر نقدي لممارسات اجتماعية محددة. ويكمن أهم ما قدمه الكتاب في الجانب التحليلي الذي يكشف عن رمزيات الرائحة في الأدب الأمريكي التي تفاوتت ما بين استخدامها كأداة للتفرقة الاجتماعية القائمة على العرق والطبقة والجنس, ووسيلة لمقاومة الظلم والاستبداد في المجتمع؛ حيث استخدم الأديب الأمريكي الروائح في بعض الأحيان لتعزيز التفرقة الاجتماعية والعرقية والجندرية، وفي أحيان أخرى جاء استعمال الرائحة بدافع تحدي هذه التفرقة وتقويضها. ويشرح الكتاب كيف يُمكن للرائحة أن تكون أداة للإقصاء وكذلك وسيلة للمقاومة، مما يعكس التعقيد الذي تنطوي عليه حاسة الشم في الأدب والحياة الاجتماعية بشكل عام.       

كما تسلط الدراسة الضوء على الطرق التي تُستخدم بها الرائحة لتحدي التمييز العنصري والفقر، وكراهية النساء، والمثلية. واللافت في هذا الكتاب هو تخصيصه فصلًا كاملًا لتحليل استعمال الرائحة في الأدب الأمريكي للكشف عن تمثلات العنصرية ضد الأمريكان السود؛ حيث تشكّلت الصورة الذهنية عن الأميركيين من أصل إفريقي بأن لديهم حاسة شم أكثر حدة بسبب وحشيتهم المزعومة, وربطت المؤلفة في تحليلها بين هذه الصورة النمطية وبين ما ترمز له رائحة السود في الأدب الأمريكي, ووضحت كيفية استعمال الروائح كوسيلة لخلق صور نمطية عنصرية ومدى فاعلية هذا الاستعمال الأدبي في مقاومة هذه الصور النمطية وإعادة صياغة الهويات الثقافية. 

إن استخدام الأدب لمثل هذه المرجعيات البيولوجية القارّة في أذهان الشعوب جاء لغرض تقويض الحجج التي تبرر العنصرية والتحيّز ضد أصحاب البشرة السوداء، وتعكس النظرة الدونية لهم، وما نتج عنها من استغلال الأميركيين من أصل إفريقي كعبيد في فترة تاريخية سابقة من حياة المجتمع الأمريكي. وبالتالي فإن الرائحة في الأدب ليست مجرد حاسة ثانوية، بل هي أداة قادرة على زعزعة معتقدات قارّة في الذاكرة الجمعيّة للشعوب. كما أن الدافع وراء استعمال الرائحة في الأدب يحمل في طياته إمكانية الكشف عن النظرة الثقافية المتعلقة بالجسد، والعاطفة، والحواس عامة.


وقفة أخيرة في تأمل المعنى المهيمن للرائحة في الاستعمال اللغوي

  ألهمتني دراسة دانييلا أن أتأمل طبيعة استعمالنا للفظة (رائحة) في السياق الاجتماعي العام، وكيف نجدها في الغالب تحيل إلى معنى بذيء وسيئ, مثل قولنا في اللغة العربية: "ظهرت رائحته" إشارة إلى ظهور الشيء السيئ من طباعه وسجاياه, أما في الإنجليزية فنجد عبارة "We Smell a Rat" وتُقال عندما يشعر المرء بالريبة والشك في عدم مصداقية أو منطقية أمر ما. وفي المقابل نجد هيمنة المعنى النبيل لحاسة البصر في مختلف اللغات الإنسانية، مثل: (الرؤية/ البصيرة/النظرة الثاقبة إلخ) وهي معاني تؤصل للنبل والحكمة. وهذا الاستعمال اللغوي للحواس عامة وللرائحة خاصة في تعاملاتنا الاجتماعية أمر مهم وجدير بالدراسة, فضلًا عن الوقوف على تمثلاتها في الأعمال الأدبية ودور الدراسات الثقافية في تحليل التمثلات الأخرى التي يقدمها لنا الأدب عن الروائح، وما تختزله هذه التمثلات والرمزيات من معتقدات قارّة في النفس البشرية, وما تكشف عنه من إمكانات تنورية تجعلنا ندرك طبيعة تأثير استعمالنا اللغوي للرائحة في طريقة تفكيرنا وسلوكياتنا ونظرتنا للحياة. ويتحقق ذلك من خلال فهم طريقة توظيف الأدباء للروائح في سياقات اجتماعية ونفسية وثقافية مختلفة. 

ينبغي للدراسات الأدبية والثقافية والمقارنة اليوم أن تلتفت لهذا الموضوع، وتسعى إلى الكشف عن تمثلات الرائحة في الأدب وعلاقتها بالاستعمال التداولي للغة, وهو مجال بينيّ يجمع الدراسات الأدبية واللغوية وعلم الاجتماع والدراسات المقارنة, ويؤسس لنظرة شمولية واسعة من شأنها أن تقدم رؤى جديدة ومختلفة لفهم طبيعة استيعابنا للمعاني المجازية في الأدب واللغة من جهة، ولما تحدده هذه المعاني والاستعمالات من تصوّرات وانطباعات من جهة أخرى. 


The Power of Smell in American Literature: Odor, Affect, and Social Inequality

by Daniela Babilon


 The Smell Culture Reader by Jim Drobnick




أحدث منشورات

مقدمة العدد | طيب على طيب

هيئة التحرير دورة أخرى من سياق اكتملت، ووصلت الرحلة وقفتها الأخيرة بعد محطات تنقلنا فيها بين تجارب وموضوعات كانت أشبه بسياحة ثقافية،...

Comments


bottom of page