ضياء محمد علي السلطاني
لطالما لعبت الرائحة دورًا حسيًا عميقًا في تشكيل التجربة الإنسانية، والتشكيل يتأتى من تدافع الذكريات العاطفية والمشاعر الحسية المرتبطة بتلك الرائحة، فالطفولة خير مثال؛ فتجد الإنسان يكبر ويأخذ معه من الطفولة أشياء كثيرة، يزول جزء منها، ويبقى جزء آخر، ومن البواقي التي تحفر مكانها في الذاكرة وتبقى إلى أبد الدهر غالبًا؛ الرائحة وبجميع أشكالها، فمثلًا رائحة الخبز، والقهوة، والعطر وغيرها من الروائح. وتكبر مع هذه الروائح ذكريات مرتبطة بها، فترى الإنسان يكبر وهو لا يشعر أن هذه الروائح المعلقة بذكريات كثيرة، ستتداعى فور إحساسه بها، فتأتي الذكريات دفعة واحدة، مليئة بالمشاعر والعواطف التي جلبتها هذه الرائحة معها. فالرائحة تحرك الحواس معها كأنها كلها تكوين واحد، فمن خلال الإحساس بها، تجد أن فروض الإنسان كلها تستجيب معها.
ومن خلال تتبع الرائحة في بعض النصوص الحديثة، يلاحظ أنها لم تُستخدم عبثًا، فهي توظيف وُجد في النص، لما اختلج نفس قائله عندما أحس بها، فهي بمنزلة مثير رئيس لأحداث مبنية عليها، فتوجد في النصوص لتدل على شيء -في الغالب- داخل الشاعر ويساور قلبه. فمثلًا هناك نزار، فقد استخدم رائحة العطر ورائحة القهوة وغيرها من الروائح، وأيضًا محمود درويش استخدم رائحة الخبز، وكانت واضحة في عددٍ من نصوصه، واستخدام هؤلاء للرائحة في نصوصهم كان لغاية يراد حسها أو إيصالها، وسيدلل على هذا التتبع من خلال قصيدة لمحمود درويش بعنوان (حياة مبتدئة)، فهو من خلال هذه الأبيات يجعل من الرائحة مرتكزًا لبدء عملية سرد ووصف لحالة أصابته بعد حسه لهذه الرائحة. فيقول في قصيدته التي ابتدأها:
في حانوت خبز، على ناصية شارع باريسي
ضيِّق... أَحتسي قهوتي الأولى. صباحًا
تختلط رائحة الخبز برائحة القهوة، وتوقظان
فيَّ شهية على حياة طازجة .. حياة
مبتدئة، وعلى سلام طوعي مع الأشياء
الصغيرة، ومع حمامات تُؤْثِرُ المشي بين
المارة والسيارات على الطيران. (1)
فمن خلال التركيز على الرائحة واستخدامها في المقطع السابق، يلاحظ أن رائحة الخبز قد اختلطت برائحة القهوة؛ فكأن ذلك إيعاز إلى أن هناك ذكريات ستأتي وتشعل الجو وتجعله حميمًا، فيه من الحنان والأمان ما يحتاجه الإنسان، فمع الإحساس بهذه الرائحة تبدأ حالة من تداعي الذكريات السابقة، التي تأتي معها حالة من الوصف والسرد لحياة سلفت، فالحياة هذه ليست كأي حياة، فهي منعشة حيوية فيها كثير من البساطة وعدم التكلف. ويلاحظ أيضًا ذكر للحمام الذي يكون بين المارة، ولا يخاف منهم وهذا فيه دلالة على السلام الداخلي الذي يفتقده صاحب النص، فكأن وجود هذه الرائحة أجج مشاعر الماضي البعيد الذي يحمل معه شعور السلام والبساطة والحيوية، على غرار ما هو عليه زمانه الحالي.
وهذه الصورة كما ذُكر سابقًا ليست قليلة في الأدب العربي الحديث، فذكر الرائحة يكون مبررًا لتداعي كثير من الأشياء التي تأتي معها، فالذاكرة الشمية ذاكرة قوية، تفرض نفسها بكل سطاوة، وفي الغالب لا تذهب هذه السطاوة إلا بموت الذاكرة.
ومن خلال المقطع السابق يلاحظ أن هناك إثارةً للحواس، وذلك لارتباطها الشديد بالذاكرة، فجاءت الرائحة مثيرةً محركة لذاكرة استيقظت وأيقظت معها الحنين والشوق. ومن الجدير بالذكر، أن الخبز غالبًا يرتبط بالألفة والمودة والحنان؛ لأن الذي يصنع الخبز في ذلك الوقت تكون الأم، وهي رمز للحنان والطمأنينة والسلام، فكأن استدعاء رائحة الخبز هو استدعاء لحنان الأم، وتمني وجوده، فهو من خلال هذه الرائحة يحصل على الشعور بالحنان، الذي مصدره في الوقت الحالي الخبز، لكن في السابق الأم.
أيضًا ذكرت رائحةٌ أخرى في النص، وهي رائحة القهوة التي تدل على حالة استجداء الشخص للتواصل، فكما هو معروف أن القهوة ترتبط غالبًا بالحديث والتواصل، واجتماع الناس حولها، وبالعودة لرائحة الخبز أيضًا فهي تدل على الحالة التي تصيب الشخص عند اجتماعه مع عائلته، التي هي مصدر الأمان والسلام.
فاختلاط رائحة الخبز برائحة القهوة لم يكن عبثيًا البتة، وإنما هو حالة ممزوجة من استجداء حنان الأم وأمان العائلة، وهذان الشيئان لا يأتيان إلا بالتواصل والتجمع الذي هو متوفر حول الأسرة، ووجود الأم.
وبعد هذا كله، يأتي المقطع الآتي مؤكدًا الفكرة السابقة، فيقول الشاعر فيه:
يجلس وحيدًا إلا من دفتر يوميات.
لكني أحس بأني أشارك السيدات المتقدمات
في العمر حماستهنّ تجاه تفاصيل يروينها عن
حياةِ غيرهنّ. وأُشارك بائعات الخبز والنادلات
الجميلات حيادهنَّ اللبق تجاه مغازلات الزبائن
المتقدمين، أكثر مني، في السن. أَتباطأ في
احتساء قهوتي لأحافظ على صحبة مفترضة
مع ما حولي، فليس للغريب إلا اختراع
أُلفة ما مع مكان ما. (2)
فيبدأ الشاعر في المقطع السابق بالتعبير عن وحدته، فهو لا يجد في المكان رفقة سوى دفتر يومياته، لكنه سرعان ما يجد نفسه يشارك من حوله في مشاعرهم وأفكارهم، فهو يشارك "السيدات المتقدمات في العمر" حماسهن الذي يأتي من متابعة تفاصيل حياة الغير، "وبائعات الخبز والنادلات" حيادهن الذي أتى من خلال حكم عملهن، فمن الواجب عليهن معاملة الزبائن بلباقة. ومن خلال هذا المشهد يلاحظ أن الشاعر يحاول أن يخترع ألفة مع أي شيء حوله؛ سواء أكان مكانًا أم إنسانًا، المهم عنده أن يجد الألفة، ومن خلال هذا كله يظهر أن هناك تناقضًا يعتري الشاعر، فهو يحاول أن يخلق ألفة مع العالم الذي حوله، لكنه مع أول حس لرائحة الخبز والقهوة يعود إحساسه بالغربة التي تعتريه في هذا المكان، وهنا تناقض واضح يعتري الشاعر، فهو مع شعوره بالغربة في الوقت الراهن، إلا أن شعورًا آخر يزاحم هذا الشعور الذي أتى مع إحساسه برائحة القهوة والخبز، فيأتي الحنين إلى الماضي الذي كان فيه كل ما يحتاجه الشاعر الآن.
وفي المقطع الذي يليه يلاحظ أن هناك تكرارًا لحضور المكان، الذي ترتبط به ذكريات عديدة، فالمكان حاضر مهم في هذا النص، فيقول فيه:
وأَنا اخترت هذا
الركن من حانوت الخبز لتأليف عادة يومية،
كأني على موعد مع ذكريات مجتهدة تعتمد
على نفسها في النمو. وأَسترسل في التفكير
بتاريخ الخبز: كيف اكتُشِفَتْ حَبَّةُ القمح
الأولى في سنبلةٍ خضراء مجدولةٍ كضفيرة.
وكيف راقبها شخص ما إلى أن نضجت واصفَرَّتْ؟
وكيف خطر على باله أن يطحنها ويعجنها
ويخبزها حتى وصل إلى هذه المعجزة؟ أَرى
حقولًا بعيدة في زمن بعيد، وأتساءل:
كم استغرق هذا الإبداع من الوقت؟ تعلو رائحة
الخبز الطازج، وأنظر في ساعتي .. ثم أَعود
من آلاف السنين إلى حياة مبتدئة! (3)
ويلاحظ في المقطع السابق أن كلمة ذكريات ارتبطت بالحانوت الذي يشم منه الشخص رائحة الخبز والقهوة، وإن هذه الذكريات تأتي بقوة معتمدة على نفسها، وذلك لأنها تتأتى من شيء قوي يعلق بالأذهان ألا وهو الرائحة. فهو جعل من الرائحة بوابة لاستثارة الحواس الأخرى، فالمكان لا قيمة له دون رائحة الخبز والقهوة، وأيضًا الحواس الأخرى لا تعمل إلا عندما تُحس رائحة الخبز والقهوة، فكأنه جعل من الرائحة إكسيرًا يعود به إلى الحياة.
ومن شدة تعلقه برائحة الخبز، جعلته يسترسل بالتفكير ويسأل نفسه عدة أسئلة؛ كيف نشأت قطعة الخبز؟ وكيف اُكتشفت حبة القمح وهي في سنبلة خضراء مجدولة مخبأة؟ وكيف راقبها شخص ما، وعرف أنها ستنضج؟ وكيف عرف الشخص طريقة طحنها وعجنها وبعد ذلك كله خبزها؟ فهو من خلال هذه الأسئلة كأنه يعود بحاله المبتدئة الأولى، وكيف هو أتى إلى هذه الحياة، وكيف تكون وكيف عاش، وكيف أصبح هذا الإنسان الناضج الذي مر بكثير من التجارب، وكيف كانت رحلة الإبداع البشري. فهي كلها أسئلة وجودية إنسانية، يحاول أن يربط بينه وبين تكوين الخبز. فيلاحظ أن النص مليء بالتناقضات؛ تناقض الشغف الذي يتولد مع رائحة الخبز، لكنه مجرد شغف عابر، سيذهب مع ذهاب الرائحة. وتناقض الدعوة إلى الأمل والرغبة في بدء فصل جديد، لكن العمر مضى ولا يمكن ذلك إلا في الأوهام.
ومن خلال هذه القراءة كلها يمكن القول إن النص فيه دلالة واضحة على الحياة الأولى، وذلك أتى من خلال ذكر "القهوة الأولى" وذكر "الصباح"، فهذا كله إشارة إلى حياة الإنسان الأولى التي كانت تخلو من التعقيد والتكلف، وكانت مليئة بالحب والحنان والأمان. لكن هذه البدايات لا تكون وحدها، إنما تكون النهاية ملازمة لها. فحياته الأولى لم تدم على حالها وإنما زالت، ولكن بقي منها الذكريات التي ارتبطت بشيء منها، ألا وهو رائحة الخبز والقهوة. وفي هذا النص نظرة فلسفية إلى الحياة، وذلك كان عن طريق طرح العديد من التساؤلات التي جعلت المشهد مترابطًا فيما بينه، وأيضًا من خلال التناقضات الواردة.
الرائحة مكانها مهم في عاطفة الإنسان؛ فهي جزء لا يتجزأ منه، وهذه الرائحة يكون ارتباطها بالذكرى الطيبة والذكرى السيئة، فكأن الرائحة عالم يعيش من خلاله الإنسان أفراحه وأحزانه، وذلك يكون وفق ما يخبّئ له القدر.
محمود درويش، الأعمال الكاملة: ديوان أثر الفراشة، (منتدى مكتبة الإسكندرية، 2008م)، ص316-317.
محمود درويش، الأعمال الكاملة: ديوان أثر الفراشة، ص316-317.
محمود درويش، الأعمال الكاملة: ديوان أثر الفراشة، ص316-317.
باحث ماجستير في البلاغة والنقد بجامعة الملك عبد العزيز/ جدة، بكالوريوس اللغة العربية وآدابها في جامعة إربد الأهلية/ الأردن، مهتم بالأدب والبلاغة القرآنية وما يتعلق بهما من دراسات وأبحاث.
ما شاء الله تبارك الله أخي ضياء، موفق ومسدد يا صديقي 😇
ما شاء الله تبارك الرحمن، الله يبارك بعلمك ويجعلك ذخر للأمة الإسلامية، الاديب ضياء 🌹...