top of page
سياق

الضفة الأخرى:من النصوص الورقية إلى الشعر الرقمي

بقلم: موسى سيلفا ساستر وإنريك فالجيرا غارسيا

ترجمة: سمر آل موسى*

يُعرف الأدب، وهو فن التعبير المكتوب أو المنطوق، بوصفه مظهرًا فنيًا ضرب بجذوره في كل مجتمع ثقافي على مر العصور. وبالتالي، ليس بغريب ما شهده هذا اللون الفني من تقدم فرض نفسه على الحضارات نتيجة لعوامل متعددة نذكر لكم منها اثنين على وجه التعميم هما: التطور الذي شهده الفكر البشري والتقدم التكنولوجي المرتبط به (Solbes and Traver, 2015). من هذا المنطلق، فقد شكل الأدب تحديًا للقارئ، خاصة منذ اكتشاف المطبعة، وبالتالي فإن نقل النص الأدبي من وسيلة مطبوعة، يمكن تلخيصه على النحو التالي: يتوقع المؤلف صدور رد فعل من قارئه المحتمل، ممثلًا موضوع دراسة النقد الأدبي (Chiappe, 2015).


إننا نعيش اليوم منغمسين في عالم قد هيمنت عليه الرقمية بشكل ملحوظ؛ إذ عمل التطور التكنولوجي على توسيع نطاق العلاقة بين المؤلف والقارئ (Handayani et al., 2020: 65–74). من ثم، تكون الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا ذات شقين: كيف يفهم القارئ، المنتمي إلى بيئة ذات صبغة تكنولوجية جليّة الأدب وكيف يراه، وما إذا كانت هناك تغييرات جوهرية موروثة من الثقافة المكتوبة فيما يتعلق بالنص الأدبي. ولتناول هذه المسائل، التي تستند إلى أساس مفاهيمي ومعرفي ملحوظ، فسنركز على مجال القراءة الأدبية، وبشكل أكثر تحديدًا، على الأدب الرقمي، وهو ما يُقصد به تلك الأعمال الأدبية التي كُتبت خصيصًا كي تُستخدم بصيغة رقمية – بصفة أساسية لنشرها على الإنترنت لكن ليس لهذا الغرض وحده، ولا يمكن العثور عليها خارج هذا الإطار(Bootz, 2021: 7–22). إنّ الأدب الرقمي ليس ما هو موجود في مكتبة افتراضية، ولا بالمعنى الدقيق للكلمة، السرد الخطي الذي يُنشأ كي يُنشر على شبكة الإنترنت، وذلك حيث يمكن تقديم اللون الأدبي نفسه في شكل كتاب. كما أن تفاعل القارئ مع النص الأدبي بناءً على الإمكانات التي تتيحها التكنولوجيا هو ما يحدد ملامح الأدب الرقمي.


في هذا الصدد، نضع بين أيديكم ثلاث مسائل نود تسليط الضوء عليها من حيث جوانبها الأساسية، ألا وهي: تناول سياق الثقافة الرقمية الذي تنشأ فيه القراءة والأدب بوضوح؛ وتحديد المعايير التي تتيح لنا تسليط الضوء على الإبداع بعدّه أساسًا ودعامة تقوم عليها قراءة النصوص الرقمية؛ وأخيرًا، الوقوف على عوامل إنشاء النصوص الرقمية التي تتطلب قراءة خاصة جدًا لهذه النصوص. ويهدف كل ما سبق إلى المضي قُدمًا في تنفيذ الإستراتيجيات الرامية إلى فهم وتدريب القراء والكُتاب في سياق الأدب الرقمي.


الأدب في نطاق الثقافة الرقمية

يُنشئ الأدب، المعروف بوصفه فن الكلمة، خطابات من أنواع شتّى. كما أنه لا ينشئها فحسب، بل هو مرتبط كذلك بمثل هذه الخطابات؛ حيث إن جميعها مرتبطة ببعضها البعض من خلال علاقات الاستمرارية والتناقض والإثارة التي تربطها ببعضها وفي الوقت ذاته تجعلها متناقضة (Morales-Sánchez and Martin-Villarreal, 2019). وقد غيّر الأدب الرقمي كذلك العلاقة التقليدية الناشئة بين مؤلف النص وقارئه لدرجة أنه كاد يقضي على دور الناشر بضربة واحدة. جرى تعديل هذا المثلث التقليدي الذي تتكون أضلاعه من المؤلف والقارئ والناشر في سياق أدبي تهيمن عليه الثقافة الرقمية، بسبب الاختفاء الوشيك للناشر، وهي حقيقة تتيح التواصل بين مؤلف النص الأدبي وقارئه بشكل متزامن ومتبادل وليس مؤجلا (Cordón García, 2016).


ولم تعد المشكلة فيما إذا كان سيصبح من الممكن قراءة النصوص الأدبية الورقية خلال 100 عام، وإنما ما إذا كان من المنطقي قراءتها على الورق أصلًا. لذلك، عند التفكير في الأدب الرقمي، سيكون من المنطقي التركيز على الإستراتيجيات الحوارية الكائنة في إطار التفكير الرقمي (Engen, 2019: 9–18). وإذا ما تناولنا كل ما سبق من منظور الخطاب الأدبي، سنجد أن منهج المؤلف في كتابة النص الأدبي أو عملية قراءته تكتسب أهمية بالغة حقًا. لذلك، تعد قراءة الأعمال الأدبية واستلهامها من هذا الفضاء الرقمي الجديد ضرورة لفهم الأدب الرقمي ومفهوم القراءة والإبداع الذي يضعه في سياقه (Pajares, 2015). مع التركيز على الجوانب التي تبرز عادات كتابة وقراءة النصوص الأدبية الرقمية، ومن الضروري تسليط الضوء على الكيفية التي تطور بها الأدب الرقمي بشكل لا يمكن إنكاره بالوتيرة السريعة نفسها التي تتغير بها التكنولوجيا أيضًا.

في ضوء ما تقدم، يتطلب الخطاب الأدبي الرقمي استجابة فاعلة من القارئ وتفاعلًا مع العمل الأدبي؛ حيث تنقطع العلاقات الهرمية الكلاسيكية بين المؤلف والقارئ. وبالتالي، عندما نسأل أنفسنا كيف تغيرت طريقة إنشاء واستقبال النص الأدبي – باعتباره خطابًا جماليًا - من حيث التواصل الأدبي، فإننا نرى تغييرات مهمة ليس فقط في طرق نقل المعلومات، وإنما في صياغة أسلوب الإقناع كذلك، حيث لم يعد التركيز منصبًا فقط على المحتوى الخالص للرسالة الأدبية (Alghadeer, 2014: 87–96). كذلك يتلبس النص الأدبي الشكل الذي يأخذه، وبالتالي يمكننا الاعتقاد بشكل منطقي أن كل مرحلة تاريخية ثقافية لها طريقتها الخاصة في الإبداع والإقناع وفقًا لمجالها التكنولوجي وسمات جماهير القراء فيها، وهم الذين يتلقون الخطاب الأدبي.

في الوقت الحاضر، توفر الثقافة الرقمية، التي تضم الأدب باعتباره شكلًا رقميًا من أشكال التعبير، إمكانات تواصل لا حصر لها تتطلب طرقًا جديدة للقراءة والإبداع بما يتماشى مع الفجوة الرقمية والتكنولوجية (Kangasharju et al., 2021: 52–91). وينعكس كل هذا في أحدث الأعمال الأدبية الرقمية في شكل مقترحات فنية تنقل التهجين والتنوع والتعقيد في الطرق الجديدة لفهم وتفسير الخطاب الأدبي.


الأدب الرقمي والقراءة الأدبية والإبداع: ثلاثي أساسي

تنطوي قراءة نص أدبي معين على جهد يُبذل لبناء معنى رسالة النص باستخدام قصد جمالي واحد أو أكثر. وبالتالي، تُفهم القراءة الأدبية على وجه التحديد على أنها عملية فكرية مبدؤها الأساسي هو التفسير الأدبي. فمن خلال التفسير الأدبي، لا نفهم فعل الكتابة لأغراض جمالية فحسب، بل يجب أن نفهم كذلك كيف تتطلب القراءة جهدًا مضاهيًا للإبداع، وأحيانًا أكبر منه.


يُطلع الأدب الرقمي القارئ على مجموعة من النصوص التي لا تكون كلماتها هي المُستهدفة أساسًا بالقراءة فحسب، وإنما توسع آفاقه كذلك نحو الرموز التناظرية والبصرية والصوتية الأخرى، مما يتيح له خوض تجربة مرتبطة بالإمكانات التقنية والبرمجية والرقمية المحيطة بالرسالة الأدبية (Torres and Côrtes, 2021: 3–26). كل ما سبق يعني أن عملية بناء النص الرقمي تتحرر من العوامل التي عادة ما يواجهها قارئ النص. وتتمثل إحدى خصائص التأليف الرقمي في طبيعته الجمعية بشكل ملحوظ؛ حيث يتعاون الكتّاب والمصممون وعلماء الحاسوب وفنيو السمعيات والبصريات وغيرهم في عملية جمعية تتّسم بالتناغم حيث يكون الإبداع هو القاسم المشترك (Saum-Pascual, 2018: 34)، وبالتالي التقاء نقاط الإنشاء المختلفة التي تتجاوز الإبداع الأدبي كما تُصور حتى أيام قليلة مضت. لذلك يمكننا التحدث عن خطاب متعدد المعاني حيث يسمح التعايش الإبداعي للقارئ بفهم وجهات نظر مختلفة ومقاربات جمالية متزامنة.


من هذا المُنطلق، فإنه من المنطقي، باتباع منهج باختين لمفهوم تعدد المعاني الجمالي، أن نتحدث عن تعدد قدرات التلقي بوصفه أساسًا وركيزة تقوم عليها النصوص الأدبية الرقمية، آخذًا في الاعتبار أنّ القراء ينتمون إلى بيئات ثقافية ورقمية مختلفة، وبالتالي، تختلف لديهم عادات القراءة والتناص (فهم العلاقة بين النصوص) (Navarro-Romero, 2021: 75–81). ويتيح لنا نطاق القراءات التي يمكن أن يقترحها النص الرقمي نفسه التحدث عن مفهوم القراءة والكتابة (Llosa, 2019: 105–112)، أي إمكانية التعامل مع النص ليس فقط في عقل القارئ، وإنما تمكين القارئ من تقمص دور مُنشئ المعنى من خلال قدرته على التدخل في الرسالة الأدبية مباشرة. وبالتالي فإننا نتحدث عن شخص ينتج نصوصه الخاصة في وقت واحد تقريبًا بالتزامن مع تلقيها.


سيؤدي بنا هذا المنهج إلى التأكيد على أن تأليف النص الرقمي يمكن أن يقع أيضًا على عاتق القارئ. وبالتالي، يتعين أخذ ثلاثة عوامل أخرى في الاعتبار في عملية الكتابة هذه: أولًا، تصور القارئ طرفًا فاعلًا يضع الإستراتيجيات والأساليب المستمدة من عالم الوسائط المتعددة؛ ثانيًا، تمييز القارئ ممثلًا يقوم في الوقت نفسه ببناء وتفكيك نمط قراءة وكتابة يجب رؤيته أثناء اختيار الأدوات المُستخدمة للقيام بذلك والوصول إلى معنى النص الرقمي؛ ثالثًا، للأدب الرقمي مسار فني ملحوظ يلجأ إليه الكاتب بالتوازي مع رمز مزدوج، وهو رمز اللغة الأدبية وذلك الخاص ببرامج الكمبيوتر على نحو لا يكون فيه ثمة خلاف على وجود التكنولوجيا في معايير الإنشاء. في هذا السياق، يحول الأدب الرقمي القراء إلى مبدعين تجريبيين (Escandell, 2020: 91–103).


كل هذا يعني أن رؤية العمل الرقمي يمكن أن تصبح عقبة جليّة أمام القارئ، الذي قد يتخلى عن محاولة تنفيذ العمل الرقمي. يحدث هذا عندما تُفصَل القاعدة الرقمية عن النص من خلال التعامل معها حصريًا باستخدام المعايير التقليدية. وبالتالي فهي دينامية تكنولوجية حيث تتضمن الصناعة الأدبية أيضًا صناعة تقنية من حيث إتقان البرمجيات والموارد المتعددة المرتبطة بها. كما يحتاج القارئ إلى فهم إستراتيجيات التواصل الرقمي وتأثيراتها في النص الرقمي نفسه.


اقترح Romero-López 2012))، قبل عقد من الزمان تقريبًا، التصنيف الأول للأدب الرقمي بقدر ما كان القارئ يتعامل معه. كما ميز بين ثلاثة أنواع من هذا اللون الأدبي: الأدب التشعبي، حيث يؤدي الرابط دورًا رئيسًا في العملية الإبداعية؛ الأدب الوصفي، الذي يشكل فيه كل من النص والصورة كيانًا متناغمًا؛ والأدب التصادفي، الذي يتّسم بالصدفة أو عدم القدرة على التنبؤ الذي يمكن للقارئ أن يحقق غرضه الإبداعي من خلاله.


على أية حال، ليس ثمة شك في أنّ الأدب الرقمي، بطبيعته الإبداعية الجليّة، يمنح القارئ العديد من الإمكانات الإبداعية التي سيتعين عليه تجربتها. كما أنه عبر إتقان ومعرفة جوهر الرسالة الأدبية ومقصودها ومعناها، ومن التحلّي بالكفاءة في معرفة كيفية إتقان أساليب الإنشاء الرقمي، ستنشأ تجربة إبداعية تعمل فيها القراءة والكتابة الرقمية بالتوازي وعلى المستوى نفسه.


الشعر في سياق الأدب الرقمي

لطالما كان للتطورات التكنولوجية تأثير كبير في كل مجال من مجالات النشاط البشري. لذلك من الضروري الاعتراف بأن التكنولوجيا كانت ولا تزال عاملًا رئيسًا يجب النظر إليه بعين الاعتبار عند الحديث عن التطور الذي شهده تاريخ الأدب. إذا غيرت تقنية المطبعة وسيلة نقل الأدب من الشفهية إلى المكتوبة، فإن الإنترنت يتيح للشاعر الاقتراب من القارئ من خلال الشعر الرقمي، حيث يمكن للشاعر أن يتعرف على تنظيم القصيدة للحركات والأصوات بما يتجاوز مجرد تمثيلها في بيئة رقمية.

لقد قدم الإنترنت سيناريو جديدًا للشعر من جهتين: باعتباره وسيلة لنشر النص الشعري والترويج له، وكذلك باعتباره أداة إبداعية لتصميم الرسالة الأدبية. وكما يشير (Torres 2013) في هذا الصدد، فإن النوع الشعري قد وجد في التكنولوجيا "بُعدًا جديدًا عابرًا للزمان وللمكان، يوسّع حدوده بأشكال مدهشة ومفتوحة".

وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أنه قد وقع الاختيار على أحد الأنواع الأدبية الأقل حضورًا في البيئات الثقافية الرسمية لهذا التغيير في الخطاب الرسمي. وتتمثل أسباب ذلك – أو أحد أسباب ذلك على الأقل – في أن القارئ المحتمل للشعر الرقمي هو متلقٍّ نشط وسريع، كما أنه مؤدٍ حقيقي للعمل الأدبي في البيئات الرقمية. ويلزم توضيح أنه ليس كل ما يُنشر على الإنترنت شعر رقمي؛ حيث إن الرقمنة تعني، كما أشرنا، التفاعل مع النص.



*مترجمة وكاتبة، حاصلة على بكالوريوس اللغة الإنجليزية والترجمة، ساهمت في عدة صحف ومجلات محلية وعربية، نقلت عدة قصائد من وإلى العربية، عملت كمذيعة ومعدة برامج في إحدى الإذاعات المحلية.


٥٥ مشاهدة

Comments


bottom of page