مراجعة: عائشة فهد القحطاني*
تسعى أستاذة الأدب والنقد د. أشجان هندي في مؤلَّفها (تجليات القصيدة الرقمية في المملكة العربية السعودية) الصادر عن نادي الأحساء الأدبي لرصد تعالق النصوص الأدبية مع الفضاء الرقمي؛ وتؤطر هذه الدراسة المُقَدَّمة حدودَها الجغرافية في المملكة العربية السعودية؛ حيث تقدِّم مقاربةً تأويلية للقصيدة الرقمية في هذه الدائرة المكانية؛ بغيةَ تقديم دراسة تطبيقية للمنجَز الشعري السعودي المعاصر؛ سعيًا للكشف عن علاقته بالتكنولوجيا الرقمية الحديثة، وبيان أثرها في عملية إبداع وتلقِّي النص الشعري؛ وذلك في إطار ما أُنْجز منذ أواخر تسعينيات القرن العشرين حتى صدور المنجز النقدي عام 1441هـ. ويقع هذا المنجز النقدي في 200 صفحة، وتأتي هذه الدراسة وَفقَ ترتيب متسلسل ينطلق لتَتَبُّع البداية الأولى بين النص الشعري السعودي والرقمية، وقد سميت هذه المرحلة بمرحلة النسيج الشعر- التكنولوجي، وهي مرحلة أفادت فيها القصيدة من تقنيات التكنولوجيا الحديثة في عملية كتابتها، وطريقة رصفها على الورق، واستلهام عناصر ورموز وموضوعات تتصل بالمرجعية الرقمية. وصولًا لمرحلة متقدمة من إنتاج النص رقميًّا وتلقِّيه أيضًا، وهذا يزيد من قيمة هذا المنجَزِ النقدي، ويصنفه من ضمن الدراسات المرجعية الثَّرية، المؤسسة في مجال النقد الرقمي.
تشتمل هذه الدراسة على: مقدمة، وأربعة فصول؛ يأتي الفصل الأول في جزأين، يُعنى الأول بتعدد مصطلحات نظرية التلقي والتأويل، وتاريخ ظهورها، ومنطقة اهتمام هذه النظرية المنصبَّة على دور القارئ في فكِّ شَفرة النص الأدبي وتأويله؛ كون اللغة تؤدي وظيفة التواصل القائمة على ركنَيِ الدالِّ والمدلول، وهو -أي النص- يحمل بين طيَّاته رسالة ومعنى يقدمه القارئ؛ فلا وجود للقصيدة قبله، تَلَتْها مرحلةٌ تشكَّل فيها التصور الحقيقي والجهد الفعلي لهذه النظرية على يد النقَّاد الأمريكيين والأوروبيين؛ ولم تُغفل أشجان وجود الإرهاصات الأوَّلية لهذه النظرية في التراث العربي عند البلاغيين، بل قدَّمت في أثناء هذا المطلب تبلورَ النظرية قديمًا وحديثًا في المنظور الغربي والعربي؛ في محاولة لربط ومقاربة المفاهيم التي تدور حول تعدد المصطلحات؛ لتصل في نهاية حديثها إلى نقطة الْتِقاء النصِّ بالقارئ، وهي نقطة تَهَبُ النصَّ وجودًا وحقيقة بحسَب رؤية أيزر، هذه النقطة تشكِّل أهميةً تكمن في تشكُّل تراكم تاريخي ومعرفي يخلِّفه القُرَّاء يستند عليه المؤلف لاحقًا، ويحضر في المشهد النقدي القارئ الضمني والافتراضي، اللَّذان يحقِّقان التفاعل مع النص من خلال المنظور الجمالي أو الفني، وتخلص في نهاية حديثها إلى أن منطقة اشتغال النظرية منصبَّة على القارئ الذي يُصدِر حكمًا. ثم تلتفت أشجان إلى طبيعة الإبداع وتلقي النصوص الرقمية، وتقف على إشكالية تحوُّل القصيدة بصورتها الراسخة إلى صورة جديدة، قابلة للتطور بشكل سريع وسهل ومربك أيضًا، وكذلك كيفية تلقِّي النص والتفاعل معه، وتأويله في الفضاء الرقمي.
وتستدعي في الفصل الثاني حتمية الحاجة لأداة العصر (التكنولوجيا) كاشفةً مفهوم هذه الأداة، التي جعلتها شاملةً لكلِّ وسيلةٍ تُسهم في إنجاز مهامَّ معيَّنة بشكل أبسط وأسهل. تتوقف أشجان عند التكنولوجيا الرقمية والكتابة الرقمية، مُستعرِضةً قبل ذلك تطور التكنولوجيا، وما أَضْفَتْه على القصيدة حتى وصولها للعالم العربي، لتقف عند تطور النص الشعري وانتقاله من الشفهي إلى الرقمي مستعينةً ببعض النماذج من مدبَّجات الجلياني، لتنتهي لرسم مخطَّطين يمثِّلان تطور التواصل البشري، ومراحل تحول القصيدة العربية قديمًا وحديثًا، وهي تُمَهِّد بهذا للمطلب الثالث، الذي كشفت فيه عن مفهوم القصيدة الرقمية، وتعدد مصطلحاتها التي جاوزت أربعين اسمًا لها؛ لحداثة هذا النوعِ من القصائد، كما إنّ للترجمة ونقلِ المصطلح من الحاضنة الأولى –اللغة الإنجليزية- دورًا في هذا التعدد، تخلص أشجان إلى أنّ هناك مصطلحات برزت في الممارسات النقدية، وتنتخب ثلاثة مصطلحات فقط، هي: (القصيدة الرقمية أو الإلكترونية- القصيدة الرقمية متعددة الوسائط- القصيدة الرقمية التشعبية)؛ لتناقش هذه المصطلحات في أثناء الدراسة، وهي مصطلحات شكَّلت مراحل القصيدة الرقمية العربية المعاصرة منذ التحامها مع الفضاء الرقمي حتى وقت تقديم هذه الدراسة؛ وتسعى من خلال هذه المناقشة للوقوف على الفروق وإبانتها. والمتأمل في هذه الدراسة يجد أن أشجان قد اختارت هذه المصطلحات وَفق استعمال المبدِع، وبحسَب الوسيط الرقمي المنتخَب، الذي يتمتع بخصائص مختلفة عن الوسيط الرقمي الآخر؛ وهذا –بدوره- ينعكس على الممارسات الإبداعية؛ حيث تسهم في تشكيل العمل الإبداعي بكيفية معيَّنة، إلَّا أنها التزمت بمصطلح الرقمية الذي يشكِّل المسمى الأعمَّ والأشمل -بحسَب رأي النقاد- وتبتعد عن مصطلح القصيدة التفاعلية؛ لأن التفاعلية حاضرةً في تلقِّي النص الشعري الرقمي، وفي الممارسة الأدبية الرقمية.
يأتي الفصل الرابع بصورة حقلٍ تطبيقي للدراسة النقدية السابقة؛ حيث يُؤطِّر الدراسة على المنجز الشعري السعودي المعاصر، ويبدأ بتتبع تاريخي لرصد حركة حضور الصورة والرسوم في الدواوين الشعرية، ومظاهر تطور القصيدة في المملكة العربية السعودية منذ مطلع السبعينيات حين واكب مرحلة الحداثة الشعرية حتى تعالُقِه مع التكنولوجيا في أواخر تسعينيات القرن الماضي. واللافت في تناول أشجان لمفهوم القصيدة الرقمية أنها تقسم هذا التعالق زمنيًّا ولا تنظر للمسمى؛ حيث تصنِّف كلَّ المنجَز الشعري حتى صدور المنجز النقدي إلى قصائد رقمية أو إلكترونية، لكنها ليست تفاعلية –بحسَب رأيها- باستثناء ثلاث قصائد متعددة لمحمد حبيبي. وهنا يظهر تساؤل مهم عن مفهوم التفاعلية الذي ترمي إليه أشجان؛ لأن التفاعلية تأتي على ركنين: تفاعل المبدع/ الوسيط الرقمي الذي يتشكل معه العمل الإبداعي، وتفاعل المتلقي مع العمل الإبداعي ابتداءً من تلقِّيه حتى إعادة إنتاج النص مرةً أخرى وفق تأويله.
لقد تناولت أشجان القصيدة من ثلاثة محاور: الشكل الخارجي للنص الشعري، ثم المضمون، ثم البناء الفني للنص الشعري الرقمي. وهي ترمي بهذا إلى كشف علاقة القرَّاء بالإنتاج الشعري ودورهم فيه وفق نظرية التلقي؛ حيث تقف على مظاهر هذا التحول منذ بروز الإرهاصات الأولى لتحول القصيدة في الشكل الكتابي على الورق، ثم تضمين النص بعض الصور والرسوم؛ لأن ذلك يشكل انزياحًا وعدولًا عن شكل الكتابة التقليدي، خالقًا بذلك فراغات وأفق تثير وتستفز المتلقي، وهي -في حقيقتها- شفرات تبنَّاها المبدع؛ لينقل التأويل من فضائه إلى فضاء المتلقي. ولو نظرنا لهذا المظهر لوجدنا أن أشجان ركزت على شكل القصيدة، ثم قفزت لمضمونها المتمثِّل في موضوعات القصيدة، المتشكل -وفق عصر التكنولوجيا وحضور عناصرها- في مضمون النص الشعري، وهو أمر طبعي؛ لأن المبدع ابن بيئته. لتنتهي إلى تعالق المنجز الشعري بالرقمية، وتشكُّله وفق ذلك.
تستند أشجان إلى المنجز الشعري السعودي؛ لتميز بين القصيدة الرقمية متعددة الوسائط والرقمية التفاعلية؛ لتستنتج صعوبة تحقق التفاعلية، إلَّا إذا تضافر البناء اللغوي مع الوسائط المتعددة، وأسهمت هذه العملية في بناء التفكير بواسطتها، وتتجاوز هذه المنطقة لتجعل للمتلقي دورًا في بناء النص الشعري وتوجيهه وفق ذوقه ورؤيته؛ من هنا تأتي تسمية القصيدة الرقمية التفاعلية.
يعدُّ هذا المنجز النقدي منجزًا تأريخيًّا قائمًا على تتبُّع تطور نظرية التلقي والتأويل، ثم تحولات القصيدة وتعالقها مع التقنية، كما يرصد أثر ذلك في تشكيل ذوق القارئ الجمالي ورؤيته الثقافية، التي تنعكس على فعل التأليف الذي ما زال قاصرًا في العالم العربي عن صناعة مُبدِع عصري جديد، بوَعْي مختلف يلتحم بعوالم التكنولوجيا الحديثة.
*عائشة فهد القحطاني: طالبة دكتوراه مسار أدب بجامعة الملك عبد العزيز، ماجستير أدب ونقد من جامعة الملك خالد، مهتمة بالأدب الرقمي والشعر العربي المعاصر.
Commentaires