د. عبدالله العقيبي*
أدب مزعوم
قد يظن البعض حين يسمع أو يلاحظ كلمة التفاعلي/الرقمي مقرونة بالأدب بأنه وقع على منجم من أنواع وأجناس الأدب الجديد، القريب بالضرورة لارتباطه بالتقنية، وسيكون معذورًا بسبب بريق كل ما له علاقة بالتكنولوجيا، مثل التجارة الرقمية، أو الفن الرقمي، أو التعليم التفاعلي، وما إلى ذلك من المصطلحات التي ترتبط باللغة العالمية الجديدة، وتتوافق مع مكونات الثورة الرقمية التي يعتقد كثير من الباحثين والمراقبين أنها تمثل ثورة إنسانية تشبه إلى حد بعيد ما حصل أثناء وبعد الثورة الصناعية، الأمر الذي جعل بريق الموضوع ينتقل بكل سلاسة إلى أروقة الجامعات، التي بدأت السماح لطلاب الدراسات العليا بخوض غمار البحث عن هذا الأدب المزعوم، ومحاولة ملاحقته بالدراسة، وقد توقفت أخيرًا عند بعض هذه الدراسات لأرى ما يمكن أن تكون قد خرجت به من هذا الجنس الأدبي، وبعد الاطلاع والفحص، صُدمت بحقيقة سأحاول تفصيل أجزائها لاحقًا في هذا المقال.
شهوة المصطلح
أستطيع القول بضمير مرتاح إن مصطلح الأدب التفاعلي/الرقمي عربيًا مصطلح معملي؛ بمعنى أنه ظهر ونشأ بشكل عكسي، من المعمل النقدي إلى النموذج الكتابي، وليس العكس، وهذه أكبر مشكلاته، فالطبيعي للعمل النقدي تتبع الظواهر الأدبية لا التنبؤ والتبشير والتحفيز لها، والدليل على ذلك يتضح من خلال عدد الدراسات التي حُبرت في الأدب التفاعلي/الرقمي مقابل عدد النصوص التي تدعي انتماءها لهذا الجنس الكتابي الجديد، وكل ذلك منشؤه فرضية تبدو للوهلة الأولى منطقية، تقول: طالما أننا في زمن رقمي فلا بد للأدب أن ينحو هذا النحو، على افتراض دور الوسيط، بعيدًا عن أهمية وكفاءة الفاعل نفسه (الأديب)، الذي ما زال يتعامل مع التقنية من خارج شروط وجودها، والملاحظ لتاريخ ظهور الأجناس الأدبية سيلاحظ أن الوسيط لا يكفي، ولا يقوم بحمل الفلسفة الفنية، وأن من يفعل ذلك هو الفن ذاته، فإذا ما كان وجود الوسيط جوهري ومؤثر بشكل حقيقي في الفن، فإن ذلك سيعكس أثر هذا الوسيط عليه، وأقرب مثال لذلك دخول الكاميرا الفوتوغرافية لعالم الفن، أضف إلى ذلك مدى معرفة إمكانات الوسيط في تحريك الفن. السؤال الذي يفرض نفسه الآن، هل الأدباء المنخرطون في إنتاج الأدب الرقمي متعلقون أو منصهرون تمامًا مع مفهوم الرقمنة؟ هل هم مبرمجون مثلًا؟
أسباب غياب النموذج
لكي نجيب عن السؤال في نهاية الفقرة السابقة، يجب علينا تأمل أسباب غياب نموذج الأدب الرقمي/التفاعي العربي، وهي أسباب متعددة بعضها يحدد الغياب التام، وبعضها يتعلق بالغياب الجزئي أو النوعي، أما ما يخص الغياب التام، فإن أبرز الأسباب هو مشكلة الأمية التقنية التي تُعد شديدة الوضوح في مناطق كثيرة من العالم العربي، وهذه الأمية تمنع وصول هذا الشكل الأدبي إلى شريحة كبيرة من القرّاء تعاني انقطاع الاتصال بالإنترنت أو تردي خدماته، فبالتالي يغيب هذا المكون الأدبي عنها أو يضعف إلى حد كبير، وهناك سبب آخر مرتبط بالسبب الأول هو الثقافة الرقمية، فإذا صحّت التسمية يمكننا ملاحظة كثير ممن يتعاطون مع الوسيط الرقمي يعانون تدنيًا في مستويات التعامل معه، وبالتالي يقل تفاعلهم أو يكاد ينعدم، لهذا يتعاطون مع النموذج الأدبي بالطريقة التقليدية، فيغيب بوجود هذا السبب وجود القيمة المضافة لأن هذا الأدب رقميًا، ويحتاج إلى الوعي بإمكاناته، وبالتالي تسقط قيمة الوسيط، وهذا قد يتحقق في وسط مثقف بالشكل التقليدي، لكن بسبب تفاعله السلبي مع هذا النوع من الأدب يُغيب قيمته ويحوله إلى أدب تقليدي، وكأن وجود هذا السبب في حاجة إلى الكفاية النقدية التي يجب توفرها في المتلقي، فضلًا عن الكفاية التقنية التي تجعله يتفاعل بشكل واعٍ مع محددات و إمكانات النص الرقمي.
أما ما يتعلق بالأسباب الجزئية فغالبًا ما يكون المتسبب فيها هو صانع الأدب الرقمي نفسه، في الغالب سنجد أن نصوصه لا تتوفر على شرط الاستدامة، فالنص الرقمي الذي كان موجودًا قبل فترة من الزمن لا نجده اليوم، فكثير من النصوص التي قرأت عنها في المراجع النقدية التي تتحدث عن الأدب الرقمي العربي لم تعد موجودة، إما بسبب متابعة الكاتب نفسه، وإما غياب المنصة التي كان ينشر فيها، فأين ذهبت النصوص التي كانت منشورة في المنتديات الأدبية التي ظهرت في بداية الألفية؟ وما مصير المواد التي نُشرت مع بداية ظهور مدونات (مكتوب)؟ التي عاد الكثير منها بسبب عدم وعي كتّابها بمفهوم الأدب الرقمي/التفاعلي إلى صفحات الكتب بشكل انتكاسي، ما يجعل من سؤال فاعلية الوسيط في التكوين الفلسفي للأدب الذي تعامل معه في البداية على أساس وصفه أدبًا رقميًا سؤالًا جوهريًا، وهذا ما قصدته في بداية المقال؛ أي أن الوسيط لا يقوم بدور مهم من ناحية جعل فعل الرقمنة أساس من أسس أدبية هذا النوع أو الجنس الأدبي.
الأدب الرقمي أم الأديب الرقمي؟
كل الأسباب السابقة تفترض هذا السؤال: هل يجب أن تكون علاقة الأديب الرقمي علاقة مصيرية؟ بصيغة أخرى: هل لو افترضنا غياب التقنية هل سيتحتم غياب الأديب الرقمي؟ هل بلغ الأمر هذا المستوى المصيري في وجود الأديب الرقمي ذاته؟ أعتقد من خلال المتابعة أن بعض الأدباء العرب الذين ارتبطت أسماؤهم بالأدب الرقمي مثل (محمد سناجلة) و(مشتاق عباس معن) يتحقق في وجود أدبهم الرقمي ضرورة وجود مفهوم الرقمنة، مع الأخذ في الاعتبار مشكلة جودة هذا الأدب وأهميته في خريطة الإبداع الأدبي العربي في عمومه، فهما وغيرهم ضالعين في هذا المجال الأدبي، لكن أتساءل هنا، هل هذه النماذج القليلة من حيث العدد والكثافة والقيمة تكفينا لإصدار أحكام نقدية بالغة التعقيد؟ مثل التي قرأتها في دراسات هذا المجال الأدبي، مثل دراسات الدكتور سعيد يقطين أو دراسات الدكتورة فاطمة البريكي؟ وهي دارسات مهمة من ناحية التنظير، ووضع التعريفات، والأطر، والأشكال.
الإجابة في تصوري، لا بطبيعة الحال، فهي دراسات افتراضية تحاول مسابقة الفعل الأدبي أو التبشير به لا أكثر، كما أنها اعتمدت في التنظير لهذا الأدب على مراجع ونماذج من خارج حدود النص الأدبي الرقمي العربي، لذلك قلت إن الأدب الرقمي/التفاعلي العربي هو بشكل من الأشكال معملي، نشأت فرضياته داخل المختبر النقدي قبل ظهور تأثيره وأهميته الأدبية داخل خريطة الأدب نفسه، ما جعل من أي تجربة عربية هشة ومتداعية تكتسب لدى هؤلاء النقاد قيمتها من مجرد الفعل لا من قيمته الإبداعية.
لا بل الأديب الرقمي، لكن كيف؟
يحيلنا ما سبق إلى محاولة تلمس سبب غياب النموذج العربي للأدب الرقمي/التفاعلي رغم وجود الدوافع الطبيعية لظهوره، وأغلب الظن أن سبب غياب هذا النموذج -المفقود حتى الآن- يعود إلى تأخر ظهور جيل من المبرمجين الذين يميلون كل الميل إلى الفعل الأدبي، فمن خلالهم ربما يتأسس أدب رقمي حقيقي بدوافع طبيعية بعيدة عن التنظير النقدي، مثل الذي حصل في الفن التشكيلي الرقمي، الذي بات حاضرًا بشكل عضوي في الفضاء الإلكتروني الذي تطورت خوارزمياته وأصبح ضروريًا لدرجة يتعذر معها الاستغناء عنه، بل ودخل في المكون الفلسفي الجمالي للوجود الرقمي نفسه، فلا أحد يمكنه اليوم إغفال اللوحات الرقمية التي تستخدمها أعظم الشركات في عالم التقنية واجهات لبرامجها وتطبيقاتها، وصولًا إلى عالم الـ NFT الذي بات حديث الفنانين في هذه اللحظة الذي خلق أفقًا فلسفيًا جديدًا لا علاقة تكوينية له بمفاهيم الجمال خارج لغات البرمجة، فإذا وضعنا هذه المفارقة في تصورنا للأدب الرقمي/التفاعلي العربي، لا بد لنا أولًا أن نطلب هذا الأدب من أهله؛ أعني المبرمجين.
السؤال المحير لي شخصيًا: هل الأدب الرقمي/التفاعلي كمفهوم قادر على الصمود أمام أسئلة التقنية ودهاليزها؟ وفي ظني ليس للناقد التقليدي هنا إلا أن يفترض أسئلته الكبيرة، أما الإجابات فتحتاج أن يتكون من داخل مجتمع التقنية أو الرقمنة أو البرمجة مشتغلين يطرحون أسئلتهم الجوهرية ثم يجيبون عنها، كما هو حاصل في عالم التجارة الإلكترونية على سبيل المثال، إذا كان التاجر تاجرًا فإن ذلك لا يكفيه للوصول إلى الربح، بل يتحتم عليه أن يكون متماهيًا مع نوع وجنس تجارته، وإلا خسر خسرانًا مبينًا.
رقمي أم تفاعلي؟
من أكثر الأمور ارتباكًا في مصطلح الأدبي الرقمي/التفاعلي، هو افتراض وجود التفاعل بمجرد وجود النص الأدبي في الفضاء الرقمي، وهذا افتراض غريب، وغير صحيح البتة، فالكثير من الأدباء العرب يتعاملون مع التقنية كوسيط نشر، لا وسيط للتفاعل بمفهوم التفاعل العميق، الذي يفترض تعدد أشكال التلقي بقدر إمكانات النص التفاعلي نفسه، من هنا يمكن القول إن معظم التجارب الأدبية التفاعلية الحقيقية، يتحكم بأهمية حضورها مشكلة القيمة الأدبية، فهي وإن كانت تفاعلية من حيث التكوين نجدها ساقطة من ناحية أدبيتها، وهذا ما يفسر غياب نموذج عربي فريد يمكن الاحتفاء به، وعدّه حافزًا حقيقيًا، وبالتالي غابت أسماء أدبية عربية مهمة عن هذا الشكل الأدبي. ولعل تهيب الأسماء الفاعلة في خريطة الأدب العربي سببه الوعي بأهمية وقيمة الوسيط بوصفه تفاعليًا في حقيقته، وعدم قدرتهم على التعاطي مع الرقمنة بشكل جاد.
ولأن الأيام حبلى كما يُقال، يمكننا أن ننتظر بزوغ أدب تفاعلي حقيقي، أما من ناحية الأدب الرقمي العربي فهو موجود منذ اتصال العالم العربي بفضاء الإنترنت، إذا ما عُدّ كل نص أدبي منشور إلكترونيًا ولا وجود له ورقيًا هو نص رقمي، وهذا في حد ذاته يحتاج إلى قول آخر.
*كاتب سعودي، حاصل على الدكتوراه في الأدب والبلاغة. صدر له: صوت الموجة - قصص ٢٠٠٩ يوتيرن - غير مصنف ٢٠١٣ تباً كخطأ مقصود في ترجمة الأفلام - شعر ٢٠١٩ التضحية بالقارئ - أنماط التجريب في الرواية السعودية - دراسة نقدية ٢٠٢٣ له نشاط نقدي حول السرد والسينما والفنون المعاصرة نشره في عدد من الدوريات والمنصات المحلية والعربية.
Comments