أ.د. عادل خميس الزهراني*
لطالما كانت الطبيعة مركزاً وجوديا للإنسان، لكنها لم تحضر في سياق النقد الأدبي إلا بوصفها موضوعاً من موضوعات الأدب، أو حاضنةً (وفضاءً) للعمل الأدبي. وقد انتظر الإنسان ظهور الموجة الرومانتيكية لتصبح الطبيعة موضوعاً محورياً للشاعر الرومانسي، يحاورها ويتماهى معها، ورغم ذلك لم تطور النظرة النقدية توجهاً أو مدرسة تخصص نظرتها وأدواتها للطبيعة حتى تبلور في العصر الحديث ما يدعى بالنقد البيئي.
أقول هذا وبين يديّ كتاب جديد ومهم في هذا السياق، أعني كتاب «النقد البيئي: مفاهيم وتطبيقات» الصادر عن دار الانتشار ببيروت ووحدة السرديات بجامعة الملك سعود عام ٢٠٢٢، بمشاركة عدد من النقاد: (معجب العدواني، وأبو المعاطي الرمادي، وبسمة عروس، وأحمد صبرة، وأحمد المنصور، وميساء الخواجا، ووداد نوفل). الكتاب مهم في رأيي؛ ليس لأن الإسهام العربي في هذا المجال محدود ونادر فحسب، بل لأنه يسد فراغاً في منطقة احتدم فيها النقاش العالمي، وأصبح سؤال البيئة سؤالاً جدلياً عالمياً، من شأن هذا الإسهام أن يضيء جانباً من جوانبه، لكي لا نظل على هامش القضايا الفكرية العالمية.
يجد المتحمسون في هذا الفرع النقدي فرصة للتعامل مع منظومة من القضايا المتقاطعة بين البيئة ومخرجات الثقافة، من هنا يعد المجال حقلاً من الحقول البينية التي يلتقي فيها الأدب، والنقد الأدبي، والنقد الثقافي، والجغرافيا، والانثروبولوجيا، وعلوم الأرض، وغيرها. وهكذا يعمد النقاد البيئيون إلى الانطلاق في أعمالهم من وجهة نظر بيئية محضة، تسعى لتكريس حقوق البيئة وإبراز المخاطر التي يواجهها العالم بتجاهلهم وإهمالهم لتلك المخاطر. يشكّل البعد السياسي -كما نلاحظ- ركيزة من ركائز الخطاب النقدي لهذه المدرسة؛ يدرس النقاد الأعمال الأدبية والفنية الكلاسيكية والحديثة اعتماداً على مقاربات مختلفة، تتفق جميعها حول واحد من أشهر أهداف الاتجاه النقدي الذي يتلخص في محو الهوة والانقسام بين الطبيعة والمجتمع، لأن المجتمع جزء من الطبيعة، والطبيعة أم المجتمع وحضنه الدافئ. وهكذا تجد أطروحات نقاد (النقد البيئي) مليئة بالإعلاء من شأن البيئة، وأهمية المحافظة عليها، وعودة الإنسان للتماهي الروحي والحسي في أحضانها، وتندد عادة بندرة المساعي التي تطرق المشاكل والأزمات البيئية، بقدر ما تنتقد الخطاب الذي يحوّل البيئة إلى مجرد مفاهيم وأفكار رومانسية في مخيلة البشر. ويعد هذا الخطاب -بطبيعة الحال- متسقاً من منظمات حقوق الطبيعة وحملات الدفاع عنها، مثل حملات مواجهة تغير المناخ التي احتدمت في العقدين الأخيرين بصورة ملحوظة.
ويشير الناقد الأمريكي بيتر باري (Peter Barry) إلى تأثر الحركتين (الأمريكية والبريطانية) بالحركة الرومانتيكية في القرن التاسع عشر. وإن كان الأمريكيون يفضلون المصطلح (ecocriticism) فإن المصطلح الأكثر تداولاً في السياق البريطاني والأوروبي هو (green studies)، كلا الحركتين متأثرتان بكتّاب رومانسيين اهتموا بدور الطبيعة في بناء الوعي الإنساني وثقافته. وتظهر في الكتابات الأمريكية نغمة التفاؤل والاحتفاء بالبيئة، بنما تسيطر على الصوت الأوروبي لغة التحذير من المخاطر وصرخات إيقاظ الضمير الإنساني للالتفات للطبيعة والاهتمام بها وتغيير السلوك البشري الاستهلاكي، وهي نقطة يشير إليها كتاب وحدة السرديات في قسمه النظري.
لا بد من الإشارة إلى أن هذا الاتجاه -في تطوره الحديث- يمثّل صوتاً من أصوات ما بعد الإنسانوية، حيث رأت لويز ويسلنق (Louise Westling) في فصل بعنوان (الأدب والبيئة وسؤال ما بعد الإنسان)، من كتاب الطبيعة في الدراسات الأدبية والثقافية، أن النقد البيئي يوفر "إمكانات تنظيرية واعدة وجديدة". وذلك لأنه يساعد "في تعريف موضع الإنسان داخل النظام البيئي من خلال مساءلة الحدود المائزة، أو حتى إزالتها، تلك الحدود التي فُرضت علينا للفصل بيننا وبين ما يحيطنا في الوجود من الكائنات الحية".
كتاب «النقد البيئي: مفاهيم وتطبيقات» مقسمٌ إلى قسمين: قسمٌ نظري وآخر تطبيقي. يتناول القسم الأول المفاهيم المركزية والخطوط والمبادئ العامة للنقد البيئي بوصفهاً توجهاً نقدياً فريداً له طبيعته ومادته وأهدافه الخاصة. ويشير إلى بداية استخدام المصطلح عام 1978م على يد الناقد وليام روكيرت (William Rueckert) في مقالة بعنوان (الأدب والبيئة: تجربة في النقد البيئي). يعمل هذا القسم على تحديد الإطار العام للمفهوم وجذوره التاريخية، منا يمر على أبرز الرواد الذين تركوا بصمتهم في النقد البيئي ومن أهمهم شيريل غلوتفيلتي (Cheryll Glotfelty)، ولورنس بيول (Lawrence Buell)، وقريق قارداد (Greg Garrard)، وسكوت سلوفيك (Scott Slovic).
يتناول المدخل كذلك حدود الحقل ووظيفته وفضاءات النقد البيئي كما يحدد المساحات التي تهم النقاد البيئيين عادة، كما يعرج على التقاطعات بين النقد البيئي واللغة والبلاغة والمحاكاة والواقعية وبعض المدارس الفلسفية كالظاهراتية على سبيل المثال. كما "يدرس النقد البيئي البعد الثقافي للأزمات البيئية في عالمنا، ويفعل ما يمكن تسميته الشعرية البيئية (ecopoetics) ومنطلقات الفلسفة البيئية...". ولا يفوت الكتاب بالطبع الإشارة إلى تأثر النقد البيئي بالتفكيك وأطروحاته، مثله مثل النقد الثقافي والنسوية والنقد الجندري وغيرها.
لا يزال النقد البيئي فرعاً في مرحلة التشكّل النظري، لذلك يرى الكتاب أن النقاد البيئيين "لا يزالون في مرحلة تقديم الدراسات التي يمكن أن تسفر عن نظرية أدبية" في المقبل من الأيام. لكن معايير لورنس بيول الأربعة قد تمثل ما يشبه الإطار الذي يمكن أن يجمع مساعي المهتمين بهذا الفرع النقدي: 1) الاعتراف بوجود بيئة غير إنسانية، 2) تشترك مع الإنسان في أحقية الوجود والاهتمام، وهو ما يجعل 3) اهتمام البشر بالبيئة توجهاً أخلاقياً في معالجة النص، ينظر للبيئة من خلاله 4) بوصفها معطى متغيّراً وليس مجرد عاملٍ أو عنصر ثابت عبر التاريخ.
أما القسم التطبيقي فيضم أربع دراسات تطبّق منهج النقد البيئي (الإيكولوجي) على أعمال سردية سعودية هي (البحريات) لأميمة خميس، و(الموت يمر من هنا ومدن تأكل العشب) لعبده خال، و(طوق الحمام) لرجاء عالم. في هذه الدراسات تحضر قضايا العلاقة بين الإنسان والبيئة، ودور هذه الأخيرة في تشكيل ثيم النص الأدبي، كما تعرّج باستمرار على الأبعاد الفلسفية للعلاقة الشائكة بين الإنسان والكينونة والكون. وتناقش الدراسات مواقف وآراء نقاد رواد من توجهات ومدارس فكرية تضيف للحقل إثراء وعمقاً معرفياً مميزاً. هذا كتاب منهجي يستحق التهنئة والاحتفاء، كلي ثقة أن الأجيال المقبلة ستفعل ذلك بعد أن تستفيد منه.
* أستاذ النقد الحديث في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، نال الدكتوراه من كلية اللغات والثقافات المعاصرة بجامعة ليدز البريطانية، وصدر له: كتاب جدلية الوجود والعدم: مقاربة أدبية فلسفية لأعمال حمزة شحاتة، وكتاب نزعة التجديد في الشعر العربي: دراسة تاريخية. ومجموعة شعرية بعنوان بين إثمي وارتكابك، وأخرى بعنوان حدث في مثل هذا القلب.
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
مدير التحرير
أ. سمر المزيد
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. علي المجنوني
الهيئة الاستشارية
أ. د. سعد البازعي | د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
Kommentare