مقتطف من «ممارسة النقد البيئي : اضطهاد الطبيعة والحيوانات في شعر فيليب لاركين»
محمد مظفر إيدروس وإياد مكهل
في كتاب «موت الطبيعة: النساء والبيئة والثورة العلمية» تُثير كارولين ميرشانت (Merchant) قضايا تتعلق بالعلاقة بين الكائنات (غير) البشرية. بشكل خاص، تطرح ميرشانت نقطتين حول الكيفية التي قطَّع العلم بها أوصال الطبيعة؛ إذ تفترض أن العلم والآلة غيَّرا الاستعارات التي درج البشر على استخدامها للإشارة إلى الطبيعة، من استعاراتٍ تدور حول السموّ إلى استعاراتٍ تدور حول الهيمنة. وتؤكد ميرشانت أن النشاط البيئي ينبغي له أن يتأسَّس على هذا الفهم لثُنائية العلم-الطبيعة.
لقد شاع مؤخرًا، في عموم الكتابات الأوروبية والأميركية، مُصطلح «النص الإيكولوجي» (Ecotext) لوصف الأدب الذي يتناول القضايا المرتبطة بالبيئة، وخاصةً قضايا الإخلال بالطبيعة وانتهاك التنظيم المُتكافئ الذي يتعاون فيه الناس مع العالم الطبيعي بدلًا من الهيمنة عليه. إن الأفراد والمجتمعات والجماعات، المترابطة فيما بينها، تُشكِّل نماذج إيكولوجية مهمة. والمفاهيم المُتداخلة، المتعلقة بآمال الأفراد ويأسهم ومنظوراتهم وأحلامهم، ترتبط غالبًا بمحيطهم، الأمر الذي يجعل من النقد البيئي (Eco-criticism) جانبًا بحثيًّا مهمًا. فعلى سبيل المثال، كان ظهور الأحزاب السياسية البيئية والمنظمات الخضراء —وما ترتب على ذلك الظهور من وعي بيئي— شبيهًا بالكتابات التي تُركِّز على الطبيعة والمكان في النصوص الأدبية؛ فكثيرًا ما تشدّد الأعمال الأدبية على فكرةٍ مفادها أن «الإنسان» و «العالم-المُتجاوز-للإنسان» ينتميان إلى منظومة وجودية واحدة، بحيث لا يمكن مناقشة عنصرٍ فرديٍّ على حِدَة. وقد شملت هذه السياقات —في كثير من الأحيان— العِرق والجنس والطبقة والتاريخ والمؤلف والسياق والمكان. ومنذ أواخر القرن العشرين بدأ الإنسان يفهم حجمَ الدمار الذي ألحقه بالبيئة الطبيعية، فقد دمّر الغابات، وافترس الحيوانات، ولوَّث الهواء والبحر، ونهب الكوكب (كاري وآخرون).
كانت المحاولاتُ المبكرةُ لوضع إطارٍ مفاهيميٍّ للنقد البيئي موجهة —في الأساس— نحو تنقيح مجموعة من المَعْلَمَات المُحدَّدة والمفروضة غربيًّا، والمنطوية على مفاهيم سادت في الغرب عمومًا وفي الثقافة الأنجلوسكسونية خصوصًا. ونظرًا إلى تكرُّر العديد من هذه المناقشات التي تحيط بتطبيق هذه المفاهيم على المجتمعات غير الغربية، فقد تبدَّت فجوةٌ لإجراء مزيدٍ من التحقيقات؛ إذ إن إعادة النظر في هذه المفاهيم، وطرق تأثيرها على البيئة، أمورٌ مُلِحَّة. وفي هذا السياق جاءت النقد البيئي للتأكيد على أهمية المكان، أي «العالم-المُتجاوز-للإنسان» وللتصدِّي للأنشطة البشرية التي ألحقت دمارًا هائلًا بكوكب الأرض.
لقد تناول النُقَّاد الإيكولوجيون أشكالا وأجناسًا أدبية كثيرة في تحليلهم للنصوص ذات الشواغل البيئية. فعلى سبيل المثال كانت «كوميديا البقاء» (1972) واحدة من أولى النصوص التي تطرح تساؤلًا يُمهِّد الطريق لمناقشة التقليد النقد البيئي؛ إذ يزعم الكاتب جوزيف ميكر (Meeker) أن الأزمة التي تعانيها الطبيعة تتفاقم بفعل التقاليد الغربية الثقافية التي تفصل بين الثقافة والطبيعة. وباستخدام هذا الادِّعاء فقد مهَّد ميكر الساحة لإجراء تحقيق علمي في العلاقة بين الإيكولوجيا الأدبية والإيكولوجيا العلمية (زهاو). فيما اقتفى نُقَّاد آخرون (من قبيل شيرل غلوتفيلتي، ومايكل برانش، وجوناثان بيت) خطى ميكر للتقعيد للمسألة التقليدية المتصلة بالعلاقة بين الأدب والبيئة المادية.
لقد ركّزت مساعي النقد البيئي، حتى الآن، على القَصَص الخيالي (على سبيل المثال: «نهج نقد بيئي لروايات كورماك مكارثي الجنوبية»، بول كويك، 2004؛ «الطبيعة والحزن: تحليل إيكولوجي نقدي للحزن في أدب الطفل»، ميغان لانكفورد، 2010)، في حين أن الدراسات النقد البيئي في الشعر أقل بكثير. تركز بعض هذه الأعمال على بعض الجوانب (مثل التلوُّث والدمار) فقط، في حين تتجاهل —عمدًا أو من غير قصد— بعض المؤشرات الأخرى كالإخلال بعلاقة الإنسان والطبيعة. ومن ثمّ فإن هذه الدراسة ستعالج هذا الإغفال من خلال دراسة المخاوف المرتبطة بتلاعب الإنسان بالطبيعة، وهذا من شأنه —في نهاية المطاف— أن يُجلِّي العلاقة المُضطربة بين البشر والبيئة المادية. والحقيقة هي أن عديدا من شعراء ما بعد الحداثة تطرقوا لقضايا ذات أبعاد بيئية؛ إذ إنّ أعمالهم هدفت إلى الإنذار بالضرر الذي يتسبَّب به البشر على البيئة، كما أن هناك شعراء عالجوا مواضيع بيئية عن غير قصد. ففي كتابات هؤلاء الشعراء، في موضوعات مثل الدين والميتافيزيقا والتقنيات الحديثة، لم يعتزموا —على الأرجح— تصوير قضايا ذات أهمية بيئية، ولكن الطرق التي كُتِبَت بها تلك القصائد توحي برجحان تهميش البيئة والمناقشات المتعلقة بها في عالم البشر (وغير البشر).
هكذا نرى النقد البيئي تتخلَّل التخصصات، ولا سيَّما العلوم التطبيقية والنقد الأدبي. إن العلوم التطبيقية تدعم ادّعاءات الخضر فيما يتعلق بالتدهور البيئي، كتغيُّر المناخ، وانقراض بعض الأنواع الحية، وتآكل التُّربة الزراعية (غالاغر)، بيدَ أن دورَ مثل هذه العلوم يظل محلَّ شك. ففي حين أن نتائج البحث العلمي تدعم السياسات البيئية، فإن الحضارة المدنية-الصناعية، التي تقوم على العلوم التطبيقية، لا تزال تُعدّ السببَ الجذريَّ للتدهور الحالي للنظام الإيكولوجي (كرونون). ونظرًا إلى أن النقد البيئي تأخذ في الاعتبار العلاقات المختلفة القائمة بين الأدب والعالم الطبيعي، فإن من شأنها أن تسبرَ الدراساتِ الأدبيةَ القائمةَ من أجل دراسة المخاطر الإيكولوجية، وهي دعوةٌ متعددةُ التخصصات موجهة إلى الحقول العلمية والتقنية للتخفيف من الآثار السلبية للتدخلات البشرية الهدَّامة.
أخيرا، في التقليد النقد البيئي، فكرةُ أنّ العلم والآلات والتحضر قد فصلت الناسَ عن الطبيعة فكرة عقلانية تمامًا، وتُشكِّل أساسًا متينًا للنُقَّاد في قراءاتهم للأدب. ولقد استُلِهم التصور الحالي للنقد البيئي من هذه الاعمال، وساعد قبول هذه الأعمال على تشكيل الأساس النظري القائم.
لقراءة النص الأصلي، أضغط هنا
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
مديرة التحرير
أ. سمر المزيد
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. علي المجنوني
الهيئة الاستشارية
أ. د. سعد البازعي | د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
Comments