top of page
سياق

"الأدب العالمي: العالم والنص والقارئ"

ديفيد دامروش (David Damrosch)

مقتطفات من كتاب "ما هو الأدب العالمي؟

ترجمة: ناصر البشري


الأدب العالمي متنوعٌ كتنوع القرّاء والنصوص المختلفة التي يقرؤونها، فعلى الرغم من أن الرموز الأدبية العالمية مثل: دانتي وكافكا لديها مكانةٌ مرموقةٌ فإنها اليوم لا تمثلُ إرثًا مشتركًا كالسابق، بل وعاءً غنيًّا متداخلًا من مجموعات عديدة مختلفة ونوعية. ووسط كل هذا التنوع يمكن العثور على أنماطٍ جديدةٍ، وأوجهٍ متشابهةٍ بين الأشكال المختلفة للأدب العالمي المنتشر اليوم؛ مما ساعدنا على اقتراح تعريف يقوم على ثلاثة مرتكزات: العالم والنص والقارئ، وتفصليها في الآتي:

1. الأدب العالمي هو انكسار الأشعة في شكل بيضاوي للأدب الوطني.

2. الأدب العالمي هو الكتابة التي تحقق مكاسبَ في الترجمة.

3. الأدب العالمي ليس علمًا قائمًا على النصوص، ولكنه طريقة للقراءة: هو شكلٌ من أشكالِ المشاركة المنفصلة مع عوالم تتجاوز المكان والزمان.

وكل مرتكز من هذه المرتكزات الثلاثة يستحق النقاش باستفاضة.

الأدب العالمي هو انكسار الأشعة في شكل بيضاوي للأدب الوطني.

على مدى نصف قرن مضى، لم يكن الأدب العالمي على وفاق مع الأدب الوطني في أمريكا الشمالية؛ نتيجةً للخلاف بين أتباع المدرستين؛ العالمية والوطنية، الذي وصلَ إلى العداءِ الصريح أحيانًا؛ ولأن معظم أعضاء هيئة التدريس في أقسام الأدب ينطلقون من منطلقات وطنية، فإن العديد من الجامعات تدرّس "الأدب العالمي" على أنه موضوع تمهيدي يدرسه الطلاب المبتدئون قبل البدء بدراسة جادة للأدب تقوم على دراسة عميقة للغة والثقافة، وفي نفس الوقت يرون أن الأدب العالمي موضوعٌ غامضٌ وصعبُ التطبيق.

وفي المقابل لدى المختصين في مجال الأدب المقارن آمالٌ تبشيرية بأن يداوي الأدب العالمي العلل الانفصالية القومية والتعصب القومي والعنف المتطرف، وبالتالي يظهر هؤلاء المختصون كالمخلصين للآداب من ضيق أفق التخصصات أحادية اللغة. وعليه فإن الأدب المقارن هو الصراط القويم المنجي من براثن "الهرطقة القومية" كما قال ألبرت جيار (Albert Guérard)، ولا يمكننا التظاهر بأن تلك الهرطقة على وشك الاندثار، فماذا تعني الحيوية المستمرة للتقاليد الأدبية الوطنية لدراسة الأدب العالمي؟ إن فهم الأدب العالمي بعدِّ انكسارًا للأشعة في شكل بيضاوي من الآداب الوطنية يمكن أن يساعد في توضيح تلك العلاقة غير المباشرة والحيوية بين الأدب العالمي والأدب الوطني، مع استثناء محتمل لعدد من الأعمال الأدبية متعددة الجنسيات، مثل: المجموعة القصصية (ألف ليلة وليلة The Thousand and One Nights ) حيث تُؤلَّف جميع الأعمال الأدبية تقريبًا داخل ما نسميه الآن أدباً وطنياً. إن مفهوم الأمة بشكلها الحالي مفهومٌ حديثٌ نسبياً، ولكن حتى الأعمال القديمة كُتبت في سياقات محلية أو عرقية وضُمِّنَتْ في تقاليد وطنية يُحتفل بها كإرث يُصان ويُورّث للأجيال القادمة. ومن خلال فهم المصطلح "وطني" على نطاق واسع، يمكننا القول: إن الأعمال الأدبية لا تزال تحمل علامات أصلها القومي حتى بعد تداولها ضمن أعمال الأدب العالمي، ومع ذلك فإن هذه الآثار أكثر انتشاراً و حِدة مع انتقال العمل في فضاءات العالمية بعيداً عن موطنه.

علاوة على ذلك، فإن هذا الانكسار مزدوجٌ بطبيعته: حيث تصبح الأعمالُ الأدبيةُ أدباً عالمياً إن تلقفتها فضاءات ثقافة أجنبية محددة من نواحٍ كثيرة بالتقاليد الوطنية للثقافة المستضيفة وحاجة الكتاب في تلك الثقافة المستضيفة، وبالتالي يصبح الأدب العالمي مادةً للتفاوض بين ثقافتين مختلفتين. ويمكن أن تستفيد تلك الثقافة من العمل الأدبي بشتى الطرق: كأن يكون العمل الأدبي العالمي أنموذجاً لتطوير تقاليدها الخاصة في المستقبل، أو كحالة سلبية بدائية أو منحطة يجب تجنبها أو استئصالها من الثقافة المحلية، أو كصورة للآخر الضد يمكن من خلالها تعريف المحلي بوضوح. وبالتالي فإن الأدب العالمي هو بقيم واحتياجات الثقافة المستضيفة بقدر ما يتعلق بثقافة وقيم النص المصدر، ومن ثم فهو انكسارٌ مزدوجٌ يمكن وصفه من خلال الشكل البيضاوي؛ حيث تشكل الثقافة المصدر والثقافة المستضيفة الفضاء البيضاوي الذي يعيش فيه العمل الأدبي كأدب عالمي متصل بكلتا الثقافتين لا إحداهما.

وفي الأعمال الأدبية تعني العملية المعقدة لانكسار الأشعة في شكل بيضاوي أن انتشار الأدب العالمي هو أكثر بكثير مما يعتقده رينيه ويليك (Rene Wellek) عندما قال: إن الأدب العالمي مجرد "تجارة خارجية للأدب" ("أزمة الأدب المقارن"، 283) (“The Crisis of Comparative Literature,” 283)، ولا يؤدي إلى عالمية تتجاوز الحدود، ويصبح فيها الاختلاف الثقافي مجرد "هرطقة" يجب أن تتلاشى كما توقع ماركس (Marx) وإنجلز (Engles). وفي الوقت نفسه فإن الوعي بالحضور القوي والمستمر للعنصر الوطني في جسد الأدب العالمي يثير مشاكل جمّة عند دراسة الأدب العالمي، فمن غير الواضح كيفية المضي قدمًا عند توسيع نطاق التركيز لأكثر من حقبة زمنية أو ثقافة وطنية: فمن ذا الذي يتقن ذلك؟ فقد بلغ المشهد من السوء مبلغه، حتى أصبحت الأعمال الأدبية المنشورة أكثر من أن تُقرأ جميعاً، فهل ينبغي معرفة كل ما يتعلق بثقافاتهم الأصلية؟ وقد يبدو الشكل البيضاوي للأدب العالمي مفهومًا في نص أدبي واحد فقط أو مجموعة من النصوص، ولكن عند دراسة نطاق أوسع من النصوص الأدبية سرعان ما نجد العديد من الأشكال البيضاوية المتداخلة جزئياً، وجميعها تشترك في الثقافة المستضيفة، ولكن أجزاءها الأخرى موزعة على نطاق أوسع عبر المكان والزمان.

وهذا يقودنا إلى النقطة الثانية: الأدب العالمي هو الكتابة التي تحقق مكاسب في الترجمة. هناك بون شاسع بين اللغة الأدبية والأشكال الدلالية الأخرى من اللغة التي تُستخدم لإيصال المعلومات، ومن يقرأ نصًا ما سيراه على أنه أحد أشكال الأدب إذا تناول جمال اللغة والشكل والموضوع عوضًا عن الغرض الأساسي والواقعي للنص؛ حيث لا يُعتبر النص عملاً أدبيًا إن قُرئ للحصول على المعلومات فقط. والنصوص الخبرية لا تكسب ولا تخسر عند ترجمتها بإتقان؛ حيث يُنقل المعنى ببساطة من لغة لأخرى دون تأثير يُذكر. وعلى النقيض ترتبط بعض الأعمال الأدبية المُترجمة ارتباطاً وثيقاً بلغتها الأصلية، بحيث لا يمكن ترجمتها ترجمةً متقنةً تنقل نفس التأثير للغة الهدف، وغالباً ما يُستشهد بوجهة النظر الأصولية عند الترجمة الأدبية للشعر؛ حيث يظل هناك "المفقود في الترجمة"، كما قال روبرت فروست (Robert Frost) في عبارته الشهيرة، ولكن من الأدق القول: إن بعض الأعمال الأدبية لا يمكن ترجمتها دون خسارة جزء من النص، وبالتالي يبقى ذلك النص الأدبي ضمن سياقه المحلي أو الوطني ولا يصل للعالمية.

وعليه فمن المهم معرفة أن قابلية ترجمة النص تختلف عن قيمته؛ حيث يمكن أن يحتل العمل الأدبي مكانة رفيعة في ثقافته المحلية، ولكنه لا يحقق نفس النجاحات في ثقافات أخرى، إما لأن لغته لا يمكن ترجمتها بإتقان أو لأن سياقاته الثقافية لا تتجاوز المحلية. وبالمثل فإن جدوى العمل كأدب عالمي لا علاقة له بمنظور مؤلفه للعالم، فلا يوجد عمل أدبي أكثر عالمية من ناحية المفاهيم أكثر من رواية فنيغانز وايك (Finnegans Wake)، ومع ذلك فإن النص معقدٌ للغاية ولا يمكن ترجمته لدرجة أن محاولات ترجمته أصبحت عبثاً، وفي المقابل بالرغم من أن المجموعة القصصية دبلينرز (Dubliners) موغلة في المحلية فإن ترجمتها حققت نجاحات مبهرة وأثرًا أعمق في لغات أخرى.

وبالتالي فإن اللغة الأدبية إما تكسب أو تخسر في الترجمة على عكس اللغة غير الأدبية التي لا تكسب ولا تخسر، وعليه فإن الكسب أو الخسارة هما الفيصل عند الحديث عن الأدب الوطني في مقابل الأدب العالمي؛ حيث يبقى الأدب ضمن سياقه الوطني أو الإقليمي عندما يخسر في الترجمة، ويصبح العمل الأدبي عالمياً عندما يكسب في الترجمة؛ حيث تعوض الخسائر في الأسلوب الجمالي للنص بالتوسع في عمق النص، وبالتالي زيادة مداه، ونستخلص مما سبق أن دراسة الأدب العالمي يجب أن تتبنى الترجمة أكثر من ذي قبل.

وأخيراً إلى الجزء الأخير من تعريفي للأدب العالمي: الأدب العالمي ليس علمًا قائمًا على النصوص، ولكنه طريقة للقراءة: ولكنه شكل من أشكال المشاركة المنفصلة مع عوالم تتجاوز المكان والزمان. وفي هذا السياق سيلقى دائمًا عددٌ من الأعمال الأدبية الأجنبية رواجًا لدى ثقافة ما، وستحصل مجموعة منها على شهرة واسعة ومكانة مرموقة، وسيؤلف مجموعة من الأفراد والجماعات المختلفة داخل المجتمع مجموعة مميزة من الأعمال الأدبية التي تجمع بين الأعمال الأصيلة وغير الأصيلة. وكما يقول بروس روبنز (Bruce Robins) عن الأعمال الأدبية المحلية التي أصبحت عالمية: إنها ليست منفصلة بمثالية ولكنها "(إعادة) للارتباط الواقعي، أو عدة ارتباطات، أو ارتباط عن بعد" (كوسموبزليتيكس، 3 Cosmopolitics). وتتضاعف ارتباطات الأدب العالمي؛ لأنه ظاهرة جماعية وفردية في آنٍ واحد؛ حيث تنتشر مجموعة كبيرة ومتعددة الطبقات من الأعمال الأدبية الأجنبية في ثقافة معينة، كما يقرؤها الأفراد من أجل المتعة بطريقة مختلفة عن الأهداف الاجتماعية التي تحدد التعريف الرسمي ومكونات التراث الأدبي. وعليه فإن النصوص نفسها موجودة جماعات وفرادى، فالقارئ يدرك أنه بصدد قراءة أدب عالمي كبير عند قراءته لدانتي، وهو عمل أدبي قائم على ثروة من الكتابات الأدبية السابقة، وفي الوقت نفسه ملهم لكثير من الأعمال اللاحقة، حتى مع إدراك مثل هذه الروابط، فالقارئ لا محالة سيجد نفسه منغمساً في عالم دانتي الفريد، وهو عالم متخيل لا يشبه تماماً أي عالم تصوره فيرجيل (Virgil) أو القديس بول (Saint Paul)، وهو عالم ألهم آخرين مثل ميلتون (Milton) وغوغول (Gogol) ووالكوت (Walcott) لكتابة أعمال مختلفة تخدم أغراضهم الخاصة.

وأخيرًا فإن النقاش الجدلي عن الأدب العالمي يجري على مستويين مختلفين تمامًا: بين المؤلفين العارفين بعضهم بعضًا، وما يقدمونه من أعمال أدبية، وفي ذهن القارئ؛ حيث تلتقي الأعمال الأدبية، وتتفاعل بطرق لا علاقة لها بالأبعاد الثقافية والتاريخية، فمثلاً من يقرأ رواية طريق سوان (Swann’s Way) ورواية حكاية جينجي (The Tale of Genji) معاً قد يجد أن العملين الأدبيين متقاطعان بطرق متعددة وعميقة، ويشبه كل منهما الآخر بطريقة يستطيع القارئ الحذق الذي يهتم بالتقاليد الوطنية أن يميزها كما هو الحال عند بروست (Proust) وبلزاك (Balzac)، أو جينجي (The Genji) مع حكاية هايكه (The Tale of the Heike). ولهذا يمكن القول عن عمل أدبي ما: إنه أدبٌ عالمي بمجرد أن يستجلب ذلك العمل العديد من الأعمال الأجنبية الأخرى في ذهن القارئ، وهذا يزيد الطين بِلةً للمتخصصين في الأدب المقارن: فالأدب العالمي ليس مجموعة هائلة من النصوص الواجب حفظها – وذلك شبه مستحيل – ولكنه أسلوب للقراءة يمكن عيشه بكل أحاسيسه في عدد قليل من الأعمال الأدبية بنفس الفاعلية التي يمكن استكشافها على نطاق واسع مع عدد


 

هيئة التحرير

رئيس التحرير

د. إبراهيم الفريح

مديرة التحرير

أ. سمر المزيد

أعضاء هيئة التحرير

د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. علي المجنوني

الهيئة الاستشارية

أ. د. سعد البازعي |  د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي 

تصميم ودعم تقني

أ. إبراهيم الثاني


للتواصل والمساهمة في النشرة

syaq@scl.sa

٦٧ مشاهدة

أحدث منشورات

كلمة هيئة التحرير: الأدب العالمي

يأتي هذا العدد متزامنًا مع حدثين عالميين مهمين هما: ختام كأس العالم 2022، واليوم العالمي للغة العربية في يوم 18 ديسمبر، فأمّا الحدث الأول...

Comentarios


bottom of page