د. مرفت العرضاوي*
تعود بدايات السينما إلى القرن التاسع عشر مع ظهور أول فيلم سينمائي في فرنسا عام ١٨٩٦م "Lumiere Brothers" (٢٠٠٨ ,Allan) تحديداً في باريس. وقد لاقت انتشارًا واسعًا بين الناس حتى امتدت لتشمل العالم الغربي، متضمنًا الولايات المتحدة الأميركية "هوليوود" وباقي الدول الأوروبية، والمكسيك، واليابان، وصولًا إلى الهند (باجينوفا، ٢٠١٨). وعلى الصعيد العربي كان ظهور السينما في مصر ولبنان والمغرب في الفترة ما بين ١٩٢٠-١٩٣٠م. وازدهرت السينما بمصر في وقت باكر، إذ لها تاريخ طويل يقارب السبعين عامًا، حيث كان الإنتاج يتجاوز خمسين فيلمًا سينمائيًا في كل عام (١٩٨٣ ,Schochat). وقد اعتمدت الأفلام بشكل كبير على القصص والروايات الأدبية المقتبسة من الأدب الأوروبي أو الأمريكي، مرتكزة بشكل كبير على السيناريوهات العاطفية أو الرومانسية؛ مما جعلها تحتضن الكثير من دور السينما التي كانت أشبه بالملاذ الأول لكل مشاهد عربي.
أما في منطقة الخليج؛ فقد شهدت المملكة العربية السعودية مراحل متعددة في ظهور السينما، إذ كان ظهور أول فيلم سينمائي مقتصرًا في مشاهدته وحضوره على الموظفين الأجانب والسعوديين من منسوبي شركة أرامكو السعودية في عام ١٩٦٤م، وجاءت ثاني مرحلة لظهور دور السينما في عام ١٩٧٠م ليتم إغلاقها بعد ما يقارب ٣٥ عامًا، أي بعد ثلاثة عقود زمنية (٢٠٢١ ,Shesha and Yusuf). وفي مطلع عام ٢٠١٣م أُطلق أول فيلم روائي طويل سعودي وهو فيلم "وجدة"، الذي يصور قصة فتاة صغيرة في الثانية عشر من العمر من أسرة محافظة متوسطة الدخل، تواجه بعض المشكلات الاجتماعية والاقتصادية. وقد لقي الفيلم رواجًا واسعًا من الجمهور السعودي بالرغم من عرضه في دور سينما خارج السعودية، في دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ لم تكن دور السينما قد بدأ تشغيلها في المملكة في ذلك العام، بينما ظهر فيلم "بركة تقابل بركة" في عام ٢٠١٦م ، وهو يعرض قصة عاطفية بين شابة وشاب تحول الفروقات الاجتماعية دون زواجهم، وعُرض أيضًا خارج السعودية.
ويُعدّ عام ٢٠١٨م انطلاقة لعصر سينمائي سعودي جديد؛ تحقيقًا لأحد أهداف رؤية المملكة ٢٠٣٠م التي دعمت الفنون والترفيه ومنها صناعة السينما. وتماشياً مع العولمة وثقافة الانفتاح التي تشهدها المملكة العربية السعودية، فقد أنشئت العديد من دور السينما في مختلف مناطق المملكة العربية السعودية ملبية بذلك احتياجات ورغبات الجمهور السعودي من مختلف الفئات وفئة الشباب خاصة. فقد بلغ عدد دور السينما في المملكة ما يقارب ٥٦ دار عرض في حوالي عشرين مدينة (العتيبي، ٢٠٢٢)، واستطاع المشاهد السعودي في فترة قصيرة أن يشاهد نتاجًا سينمائيًا متنوعًا من الأفلام الأجنبية، والأفلام القصيرة، والأفلام العربية، أو لأفلام المترجمة، وأفلام الرسوم المتحركة، إضافةً إلى الأفلام السعودية التي بلغ عددها في نهاية (٢٠٢٠) حوالي ٥٠ فيلما قصيرًا ووثائقيًا (أبو حسنة ومغربي، ٢٠٢٠).
ولكن السؤال الحاضر هنا: من جمهور السينما؟ وما ثقافته في تلقي المضامين السينمائية؟
تتميز السينما ببعض الصفات التي جعلت لها جمهورها الخاص. وعادة يرتاد السينما المشاهدون الراغبون في الشعور بالمتعة والترويح عن النفس في أوقات فراغهم بحثًا عن المتعة والشعور بالسعادة، كما يحدث في نهاية الأسبوع بعد قضاء العمل أو الدراسة، ملقين بأنفسهم على الكراسي أمام الشاشة الكبيرة.
وينجذب جمهور السينما لارتيادها بسبب الجودة العالية التي تتمتع بها الشاشة السينمائية، مما يتيح دقة ووضوح الصور المرئية في الأفلام بكافة تفاصيلها لأكبر عدد من الممثلين، مقارنة بمشاهدتها عبر الشاشة الصغيرة مثل التلفاز الذي تنخفض فيه دقة الوضوح، علاوة على أن الكاميرا في الشاشة الصغيرة تقتصر على القدرة على إيضاح أربعة من الممثلين فقط في كل لقطة (الحسن، ٢٠١٠). وعلى الرغم من أن مشاهدة الأفلام في دور السينما يكون وسط جمهور أو جماعات من الناس؛ أو بمعنى آخر يكون ذا طابع أقل حميمية وواقعية مقارنة بمشاهدتها في المنزل، إلا أن السينما تتيح لجمهورها مشاهدة رد الفعل بصورة صريحة وواضحة مثل المشاركة في الضحك عند مشاهدة المشاهد واللقطات الكوميدية، وكذلك هو الحال في البكاء والحزن عند مشاهدة اللقطات الحزينة التراجيدية. بمعنى آخر؛ إن المشاهد للفيلم السينمائي يمارس الخبرة الاجتماعية والمشاركة عند ملاحظة ردة فعل الآخرين من حوله، أو ما يسمى بمشاركة المشاعر. ومن هذا المنطلق تتكون فكرة نظرية (المشاركة الجماعية).
تعود هذه النظرية إلى أحد أهم صفات الشعور بالمتعة؛ صفة تعدد المعاني، أي وجود فهم وتفسيرات ومستويات متعددة للشعور بالمتعة. فيصبح الجمهور السينمائي متفرجًا في اللحظة التي ينغمس بها في المشاهدة، وفي الوقت ذاته يغوص في شعوره بالمتعة التي من شأنها أن تعطي العديد من المعاني المصاحبة لمشاهدة الفيلم، كما أنه من الممكن أن تكون متعة المشاهدة المتوقعة شرطًا ضروريًا لوجود الجمهور (١٩٨٤ ,Kuhn) أي إنّ المشاهدين عندما يشاركون الفيلم السينمائي مع أشخاص آخرين مثل الأسرة والأصدقاء قد يشعرون بمستويات من المتعة الحقيقية أكثر من أولئك الذين يشاهدون الفيلم في المنزل؛ فالمشاهدة مع أعضاء المجموعة تعزز سعادتهم أكثر مما لو كانوا يشاهدون بمفردهم. وهو ما يولد لدى الجمهور شغف ارتياد دور السينما طلبًا للمشاركة الجماعية مع أسرته وأقرانه، وهو ما يفسر رؤية مجموعة من الأصدقاء عند شباك التذاكر، ومن ثم دخولهم على شكل جماعات في صالة العرض محققين بذلك حدوث متعة المشاهدة المشروطة بالجماعية.
ومن الممكن أن يتشكل لدى الجمهور السينمائي ثقافة في اختياره للأفلام قبل مشاهدتها، وهذا ما أطلق عليه لوران جوليه (معايير تقييم جودة الفيلم) التي يمكن استخدامها في الجانب النقدي لمحتوى الفيلم، مثل ثقافة أن الفيلم الجيد هو الفيلم الذي يحقق نجاحاً في إيراداته، أي الذي يحظى بالإقبال عليه في دور السينما عند العرض الأول. أما المعيار الثاني فهو أن نجاح الفيلم يتضمن نجاحه في الجانب التقني أو الفني كالإخراج وجودة التصوير، إلى جانب معيار حداثته النابعة من قصته غير المألوفة (إيمانويل إيتيس، ٢.٢١). وكذلك، معيار وسم الفيلم بأنه متماسك في مضمونه الذي يوفر جميع الإجابات عن التساؤلات التي يرغب بمعرفتها المشاهد من خلال المضمون السردي والقصصي للفيلم. بمعنى آخر الفيلم المتماسك هو الذي لا يُشعر المشاهد بالضياع بين طيات أحداثه. أما المعيار الخامس فهو أن يكون الفيلم مصدرًا لتعلم المشاهد منه عن طريق خوض التجربة واكتساب الخبرة، كما يحدث في الأفلام التي تحكي قصصًا قد تكون تعكس واقعًا نعيشه؛ مثل المشكلات الاجتماعية والأسرية، ويمكن أن يكون الفيلم مصدرًا لعملية التعلم الاجتماعي بطريقة غير مقصودة. أما المعيار الأخير للحكم على مدى جودة الفيلم هو أن الفيلم الجيد هو ذلك الفيلم الذي يلامس المشاعر والعواطف، مثل مشاعر الدهشة والخوف والفرح والسعادة والقلق ومتى ما حدث ذلك شعر جمهور الفيلم بالمتعة التي هي المحرك أو الدافع الأول للذهاب إلى دور السينما.
وربما كان الإحساس بالوقت الذي يقضيه المشاهد داخل دور السينما في مشاهدة الفيلم معيارًا أو مؤشرًا لقياس مدى نجاح الفيلم من عدمه. فنجد أنّ بعضنا قد لا يشعر بمتعة المشاهدة بسبب أن الفيلم كان مملًا، أو لكون موضوعه مكررًا. بينما بعضنا الآخر لا يشعر بالوقت المستغرق داخل قاعة العرض؛ فهو يعيش في حالة توحد مع شخصيات الفيلم متأثرًا بأحداثه، مستمتعاً بلقطاته غير شاعر بالوقت، وهذا ما يسمى الانغماس في خيال السينما. وعلى سبيل المثال، حقق فيلم "King Ritchard" وفيلم "Coach" اللذان عرضا في دور السينما في السعودية نسبة مشاهدة عالية جدًا من الجمهور السعودي. وقد يفسر ذلك أن المشاهد عاش حالة من الانغماس أثناء المشاهدة، إذ اعتقد أن هذا الفيلم قد خصص لجمهور معين وربما هو جزء من هذا الجمهور، فوضع نفسه في وضع التهيئة الأولية بمجرد جلوسه على مقعد السينما ليبحر في متعة المشاهدة التي تسبق الانغماس.
وأكد راين (٢٠٠٨ ,Ryan) أن الانغماس أثناء المشاهدة قد يتخطى الانغماس العاطفي ليأخذ أشكال الانغماس الأخرى كالانغماس الزماني والمكاني، الذي من شأنه أن يحلل طبيعة العلاقة بين المشاهدة بالمشاركة والتفاعل أثناء المشاهدة. فمشاهدة فيلم "Titanic" في دور السينما من الممكن أن يشعر الجمهور بأنه أحد ركاب السفينة التي ستغرق؛ ليعيش اللحظات الزمنية والمكانية ذاتها عبر متابعة الأحداث وتزامنها، وفي الوقت نفسه فهو يتعاطف مع مشاهد غرق الركاب وبكاء الأطفال، واستغاثة النساء، وصوت صافرة الطوارئ مختلطًا بصوت موج البحر، وسقوط السفينة. وهذا هو مشهد ضمن العديد من المشاهد التي تستخدم بمثابة إستراتيجيات من شأنها أن تحسن تجربة المشاهد السينمائي، من خلال الانغماس السردي أو السينمائي، وبالتالي الشعور بمتعة المشاهدة (٢٠١٤ ,Vosmeer and Schouten).
ولعل ما يعزز ذلك الشعور بالمتعة هو تأثير المشاركة الجماعية في إثارة المشاعر والانفعالات العاطفية، وربما يمتد هذا التأثير ليدفعه لمشاهدة الفيلم لمرة أخرى. وغالبًا ما ترتبط المشاركة الجماعية بالمرحلة العمرية فنجد أن المشاهدين داخل دور السينما على هيئة جماعات ومجموعات ذات طابع جيلي متقارب. فبعض الأفلام جمهورها ما بين (١٥-٢٠) عامًا، أي يخاطب فئة المراهقين والشباب، بينما أفلام الرسوم المتحركة تخاطب الأطفال فنجد جمهورها من صغار السن أو بعض الأمهات أو الآباء الذين يرافقون أبناءهم. بينما تأتي أفلام أخرى موجهة لجمهور متنوع من مختلف الأعمار كما هو الحال مع فيلم "King Ritchard". ومن منطلق ثقافة جمهور السينما في فهم نظرية المشاركة الجماعية، ونظرية الانغماس يتحقق الشعور بالمتعة عند المشاهدة وبعدها. ومن الممكن أن يكون الذهاب إلى دور السينما والمشاهدة السينمائية لدى المشاهد السعودي على وجه الخصوص ثقافة بحد ذاتها، في ظل تنوع المشاهدات في دور السينما (أفلام أجنبية، عربية) وكثافة العرض مما يحول كثافة الارتياد إلى ثقافة عامة. بينما يمكن أن يكون جمهور السينما جمهور انتفاعي؛ يجعل الذهاب إلى المشاهدة السينمائية نزهةً ترفيهية لقضاء وقت الفراغ والشعور بالمتعة وهو ما يشكل عادة مكتسبة. وبما أن ظهور السينما في السعودية كان متأخراً، فقد نلحظ أن السينما باتت ثقافة لدى الجمهور السعودي أو ظاهرة يقبل عليها العديد من السعوديين، للشعور بالمتعة والترفيه الذي كانوا يفتقدونه في المملكة العربية السعودية في فترة ما قبل انبثاق الرؤية الرشيدة التي شهدت فيها المملكة نهضة كبيرة جدًا وسريعة في ثقافة السينما وصناعة الأفلام، لتتجاوز جمهورها السعودي إلى مهرجانات عالمية، ابتداءً من المهرجانات المحلية إلى الدولية كمهرجان البحر الأحمر. على سبيل المثال؛ فقد حصل فيلم "جنون" على جائزة مهرجان فاتن حمامة السينمائي، وجائزة مهرجان مالمو للسينما العربية (سوليوود، ٢٠٢٠)، كما لاقى رواجًا كبيرًا ونسب مشاهدة عالية في المشاهدة في دور السينما في السعودية. ومن المحتمل أن سر نجاح مثل هذا الفيلم يكمن بصورة كبيرة في الواقعية التي من الممكن أن تجسد جزءًا من واقع المجتمع السعودي لممثلين سعوديين من أبناء الوطن، ما من شأنه أن يدعم ثقافة تقبل الأفلام السعودية في بدايتها. وما زالت السينما في المملكة العربية السعودية وصناعتها في طور التطوير والانطلاق نحو المزيد من العالمية، وهو ما يحفّز الكثيرين ليلتحقوا بهذه الانطلاقة، من أكاديميين ونقاد وممثلين ومخرجين وكتّاب سعوديين، ويبدو أننا سنشهد نتاجًا فريدًا عالي الجودة في المراحل القادمة للسينما السعودية وصناعتها، مع بناء مزيد من الوعي الجماهيري والذائقة عمومًا.
*مرفت محمد شريف العرضاوي، ماجستير في علم الاتصال من جامعة الملك عبدالعزيز، ودكتوراه في الدراما ودراسات الافلام من جامعة دبلن، عضو هيئة تدريس بقسم الانتاج المرئي والمسموع ، كلية الاعلام والاتصال، جامعة الملك عبدالعزيز .
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
مديرة التحرير
أ. سمر المزيد
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. د. علاء الغامدي
الهيئة الاستشارية
أ. د. سعد البازعي | د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
コメント