top of page
سياق

سجال: النسوية

تعد النسوية من التيارات النقدية الحداثية الجدلية التي انتقلت بحمولاتها الثقافية المختلفة - وعبر حركات عالمية متتالية - إلى الحقل الثقافي والنقدي؛ لتقارب النصوص الأدبية من وجهات نظر متنوعة، تسائل فيها بعض المسلمات الثقافية التي تتصل بالعرق أو الجنس وتحررها عبر بعض المفاهيم من السلطة المهيمنة ثقافيًا واجتماعيًا. والنسوية -كغيرها من أنواع النقد الحداثية وما بعد الحداثية، كالبنيوية والتفكيكية والماركسية، وما تفرع منهم، تشكل أطرها وبعض منطلقاتها حمولات ثقافية وتاريخية وسياسية واجتماعية، ولكون اهتمام النشرة في هذا العدد، وغيره من الأعداد يتجذر في البعد الأدبي/الثقافي لكل اتجاه نقدي وفلسفي، فإن سجال هذا العدد ينطلق من إثارة التساؤل حول وعي المثقف العربي في تعامله نقديا وثقافيا مع النسوية بأشكالها المختلفة، وعمَّا إذا كان قد أسهم - وعي المثقف النسوي تحديدًا- في توسيع النطاق الأجناسي للتعبير عن قضاياه النسوية ليشمل الشعر - بصفته جنسًا أدبيًا رائدًا وديوانًا للعرب، إلى جوار السرد بصفته الوعاء الأكثر شيوعًا.


في هذا السياق، ترى أستاذ التاريخ الإسلامي بقسم التاريخ والآداب بجامعة الكويت، الدكتورة ريم الرديني أن المثقف هو العنصر الأكثر ديناميكية في كل مجتمع، غير أن الإشكالية هي أن صورة المثقف العمومية التي رسمت له "من قبل مجتمعه - وفق أطره المعرفية والسلوكية - عقّدت مفهوم المثقف أكثر في تعامله مع قضايا مجتمعه"، وهي ما "جعلت المثقف العربي على وجه الخصوص يتحمل العبء الأكبر في متابعة شؤون مجتمعه سواء كان ذلك على أرض الواقع أم في كتاباته، كما يظهر في تعامله مثلًا مع النسوية." ومن هنا تتعرض د. الرديني لوعي المثقف العربي في تناوله للقضايا النسوية، فترى أن من المثقفين من هو "متخبّط بين التبعية لما هو «غربي» والتمسّك بما هو «عربي»، مضيفةً "أن الأسوأ من ذلك هو «انعدام» الموقف، وتوجّه المثقف نحو التحليلات الثقافية وإن كانت في ضوء سطحية الفهم في خطاب البعض مع النسوية." وتشير د. الرديني - من خلال قراءاتها للواقع - إلى "أن هناك محاولات للاقتداء بالسياقات النسوية الغربية، وهذه ليست دعوة إلى التركيز على الخصوصية النسوية في المنطقة العربية، بل إلى الحراك النسوي الغربي دون نظر إلى سياقاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة؛ ذلك لأن تيار النسوية وجد احتضانًا سياسيًا غربيًا في فترة قياسية." غير أن الدكتورة ريم تقر بأنه وعلى الرغم من ذلك كله، فلا يمكننا التعميم؛ لأن هناك إنتاج ثقافي عربي في الآونة الأخيرة يتعامل مع الخطاب النسوي بتميز يتمثل في التعامل الحذر والمتيقّظ جدًا في هذه المرحلة، ولعل أكثر الخطابات ملامسة للنسوية هو الخطاب الأدبي، وإن كانت مرتبطة ثقافيًّا بثقافة المجتمع وحساسيته.


من جهته يؤكد أستاذ الأدب والنقد الحديث بجامعة الملك خالد الدكتور أحمد المسعودي "أن النشاط النسوي عبر التاريخ وصولًا إلى عصرنا الحاضر بنظرياته وأطروحاته الفكرية تشظى إلى نسويات متعددة تصل في بعض اتجاهاتها حد الاختلاف، وهو مدٌّ نسويٌّ نشأ في مهده الغربي وتطور نشاطه الحقوقي والفكري والثقافي نتيجة لعوامل ناجمة من طبيعة المجتمعات الغربية التي تتشابه في مجملها. ولكن ماذا عن النسوية في الثقافة العربية؟" وينطلق د. المسعودي في إجابته عن هذا التساؤل بقوله: "إن علينا أن نعترف أولًا أن النسوية في العالم العربي كانت وما تزال مصحوبة بشيء من التوجس بل والعداء أحيانًا." ويمثل لذلك بقوله: "تعطينا قراءة كتاب "الحركات النسائية في الشرق" الصادر في بدايات العقد التاسع من القرن الماضي تصورًا واضحًا عن ربط النسوية بنظرية المؤامرة وهدم الأسرة في المجتمع العربي. وقد يكون لهذا التوجس ما يبرره، ففي الثقافة الغربية نفسها وعي بخطورة تبني مبادئ "النظرية النسوية الغربية" بوصفها النموذج المثالي. ومن ثم تسويقه إلى جميع الثقافات العالمية دون تقدير لخصوصية كل ثقافة تُطالب بتقبل النموذج النسوي الغربي بجميع تفصيلاته."


ويشدد د. المسعودي على أن "الوعي بالنظرية النسوية بوجه عام- فضلًا عن النسوية التقاطعية – وعيٌ لا يتجاوز القشور، إذ لا يجد المتأمل في مشهدنا الثقافي حراكًا نشطًا فاعلًا حول النسوية لا على مستوى الأنشطة الثقافية ولا على مستوى موضوعات المؤتمرات أو الملتقيات الأدبية أو موضوعات الجوائز التي تمنح للدراسات النقدية أو الإبداعية. وهذا لا يعني خلو المشهد الثقافي من مختصين ومختصات بالنظرية النسوية يكتبون فيها بوعي سواء إبداعًا أو نقدًا، ولكن هذا الوجود لا يصل إلى مرحلة التأثير في الثقافة العربية. فلو سألنا مثلًا عن وجود أيقونة إبداعية سردية أو شعرية ذات خطاب نسوي معروف مؤثر في الجيل الحالي أو الأجيال السابقة، فلا أظن أننا سنظفر باسم واحد." ويختم د. المسعودي حديثه: "بوجه عام لا تسمح لنا الحالات الفردية ذات النتاج غير المنتظم للفكر النسوي بتتبع الحركة النسوية في الثقافة العربية كما هو الحال في الثقافة الغربية المرفودة بتجارب متواترة ومتنوعة تتبدى ملامحها في أيقونات معروفة بثرائها الفكري والإبداعي والحقوقي."

وتقترب أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أم القرى الدكتورة أميرة من رأي كلٍّ من د. الرديني و د. المسعودي إذ "تلاحظ أنه في الآونة الأخيرة تزايد اهتمام بعض المثقفين العرب بقضايا المرأة وبالخطاب النسوي خاصةً بعد تصاعد حدة هذا الخطاب في المجتمعات العربية والخليجية بالتحديد،" وتؤكد "أن وفرة الكتابة في هذا الموضوع لا تعني - بالضرورة - أن المثقف العربي يتعامل مع الخطاب النسوي بوعي كافٍ؛ حيث نجد أن بعض المثقفين يبحر في هذا المجال ويخوض -أحيانًا- في نقاشات عميقة ويكتب مقالات دون إلمام، ليس بأساسيات الفكر النسوي فحسب، بل وبتقاطعاتها المختلفة أيضًا، إضافة إلى عدم متابعتهم لكل ما يستجد على الساحة من مستجدات في الخطاب النسوي المعاصر." وتمثل الشهري على ذلك بقولها: "نجد أن كثيرًا من المثقفين قد يقع في فخ معاملة النسوية بصفتها كتلة واحدة ذات توجه فكري محدد، وهذا من الأخطاء الشائعة في التعامل مع الخطاب النسوي المعاصر،" وتضيف: أننا لو نظرنا أيضًا إلى النسوية الإسلامية المنطلقة من منظور إسلامي نلحظ - بالرغم من وقوعها داخل إطار ديني محدد من حيث تفسير النصوص الدينية من وجهة نظر نسوية - اختلافا وتباينا داخل هذا الفكر خاصةً من ناحية المنطلقات الشرعية الإسلامية التي تتعلق بحقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، وهو تباين يعلمه المتخصص فيها،" وكل ذلك يشير من وجهة نظر الدكتور الشهري إلى "مدى تعقد الخطاب النسوي - عربيًّا - وكثرة التباينات داخل فلسفته التي قد لم ينظر إليها منهجيا بعد عند التطرق لموضوع النسوية من قبل بعض المثقفين."


من جانبها ترى أستاذ الأدب الإنجليزي والدراسات الثقافية بجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن الدكتورة حنان العزاز "أن المثقفين العرب قد انقسموا في تعاملهم مع الفكر النسوي إلى ثلاث فئات، فمنهم من تعامل معه كحقل ألغام، ومنهم من تلقف النسخة الغربية وامتصها بلا تمعن، ومنهم من قولبها ومررها في مرشحات تاريخنا ومجتمعنا." وتؤكد بدورها "أن الفئة الأخيرة هي التي تعاملت تعاملًا صحيحًا يضمن أخذ التقاطعية النسوية في عين الاعتبار إذ أن رحلة الفكر النسوي التي بدأت من الغرب قد مرت فيه بمراحل من الترشيح ليكون خطابا ممثِّلا وعادلا لمختلف شرائح النساء المثقفات وغيرهن."


ولا يذهب بعيدًا أستاذ الأدب والنقد الحديث بجامعة الباحة الدكتور إبراهيم المرحبي إذ يرى أن النسوية بأشكالها المختلفة قد تمخضت كغيرها من التيارات النقدية الحداثية عن عوامل تاريخية وسياسية وثقافية وأيديولوجية غربية عززت حضورها في الساحة النقدية والثقافية بحمولاتها الثقافية والتاريخية المختلفة ما أوجب أن يكون دور المثقف العربي في التعاطي معها كبيرًا وحذرًا؛ نظرًا لما فيها من حمولات أيديولوجية وفكرية لا تتفق مع تركيبة المجتمعات العربية الثقافية والاجتماعية." ويضيف د. المرحبي: "أن النسوية ونسوية ما بعد الاستعمار اهتمت كلها - ربما بلا وعي- وبفضل عوامل وأيدولوجيات معينة بوضع المرأة "المستضعفة" في صراع مع المهيمن "الرجل" وإعادتها لهذا الصراع بتجدد، ولم تعن بعالميَّة الخطاب عبر التركيز على مطالبات النساء بالمساواة والاهتمام بالمجموعات المهمشة في كل البيئات - وليس البيئة الأوروبية أو الغربية فقط - ومعالجة التقاطعات المتباينة فيما بينها." ويؤكد قائلًا: "إن ما شهدته النسوية من تطور في أشكالها المعاصرة - وصولًا إلى التقاطعية - لم يكن إلا للتخلص من هذه الأيديولوجيات الفكرية؛ لمحاولة إعادة النسوية لهدفها الرئيس وهو المطالبة المتزنة بحقوق المرأة وتمكينها في مجتمعها بما يتوافق مع وضعيات النساء الثقافية والدينية والسياسية في بلدانهن، وهو ما قد تمثله في الوقت الراهن النسوية التقاطعية."


وعن دور وعي المثقف العربي النسوي في توسيع دائرة التناول الأجناسي للقضايا النسوية، تؤكد العزاز في حديثها عن مجال الأدب في المملكة بالتحديد "أنه في حال اعتبرنا أن كل من مثَّل ظروف ومشاعر ومخاوف النساء وصوتهن في أدبه مثقفا نسويا، فإن النطاق الأجناسي النسوي الشعري له تاريخ طويل في المملكة، ويبدو هذا جليًا حين نتأمل زمنا توارت فيه الشاعرات خلف الاسم المستعار للحصول على فرصة الإفصاح عن مكنون النساء بلا تحفظات، فتختار الشاعرة التي تعبر عن كينونتها بصفتها امرأة اسما مستعارا مثل الشاعرة ريمية أو أغراب أو عابرة سبيل، وذلك خوفا من التحفظات المجتمعية على صوت امرأة يصدح بالشعر، و رغم أن الشاعرات المذكورات لم يصنفن أنفسهن بالنسويات فهن ممثلات لصوت المرأة وموقفها،" وتضيف د. العزاز أن "استخدام الاسم المستعار لم يكن للاختباء والتواري، وإنما عدسة تتكيف من خلالها الهوية المجتمعية لخلق فرصة للتعبير بصراحة أكثر ووضوح أجلى عما يشغلهن بصفتهن الأنثوية." وتزيد د. العزاز على ذلك: "إن التعبير الشعري الذي يمكن أن يوصف بالنسوي ربما ابتدأ في جزيرة العرب مع بدايات الحركة النسوية في أوروبا وأمريكا في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين حين تصرخ الشاعرة سعدى بنت خالد الرمالية الشمرية في قصيدتها ثائرة على مجتمع يعيب عليها قول الشعر قائلة:

العيب ما هو إبداع القاف العيب يا بنت نعرفها


فالشاعرة -كما ترى د. العزاز- بدفاعها عن حقها في التعبير، وعن نفسها بالشعر تعدُّ قوة نسوية تدافع عن حقها في إعلان أفكارها ومشاعرها على منبر الشعر وتعلن أن ما تفعله كامرأة لا يعيبها." وتختم د. العزاز قائلة: "إن التواجد الشعري النسوي وإن لم يكن ضمن الأطر المستوردة للحركة النسوية فهو بلا شك أدب نسوي يدافع عن حقه في التعبير عن المرأة وما يشغل فكرها ومشاعرها ويتواجد بقوة ليزيح له مكانا في الآفاق الأدبية."


ومعها تؤكد د.الرديني أن "القالب السردي لم يكن الوعاء التعبيري الأوحد للمثقف النسوي، بل على العكس، فالساحة الأدبية تزخر بنشاط إبداعي كبير في الشعر والرواية الذي أبرز في الآونة الأخيرة دور المرأة الأديبة في معالجة مختلف القضايا الفكرية والسياسية في أعمالها الإبداعية، وعلى اعتبار أن الرواية والشعر هما الشكلان الأدبيان الأكثر احتضانا للتجربة الإبداعية الإنسانية فقد قدم المثقف النسوي أدبا أكثر نضجا وعمقا يدلل عليه التوسع الأجناسي الذي تجلى في تصوير القضايا الإنسانية في مختلف القضايا النسوية والثقافية." وتعود د. الرديني لتؤكد أن تأخر المثقف النسوي في التوسع الأجناسي هي مشكلة ترتبط بالظروف المحيطة به كالقيود الاجتماعية التي كبلت فكره وإبداعه."


ويتفق معهما د. المرحبي في أن المثقف العربي النسوي قد تناول هموم المرأة وعبر عن مخاوفها وأحاسيسها وأوصل صوتها عبر كل المنافذ الأجناسية المشرعة التي من أهمها: الشعر والنثر، وبما أن السرد يمثل الوعاء الأكثر مناسبة للخطاب النسوي عربيًّا وعالميًّا، إلا أن الشعر العربي قد استوعب الخطاب النسوي مبكرًا بكل درجاته وتموضعاته، وإن لم يكن بروزه على قدر عال من الوضوح؛ نتيجة لعوامل ثقافية واجتماعية تتعلق بالشاعر "النسوي"، والشواهد على ذلك كثيرة؛ عربيًا وخليجيًا وسعوديًا.


٤٤٣ مشاهدة

أحدث منشورات

Comments


bottom of page