top of page
سياق

قراءة نقدية - لار ينبعث

كتاب جنيات لار: كتاب فني أدبي يضم اثنتي عشرة محفورة بقياس ٤٠*٦٠، مضاف اليها تلوين وتهذيب يدوي. اللوحات للفنانة شادية عالم والنص للكاتبة رجاء عالم صادر عام ٢٠٠٨م عن مؤسسة المنصورية للثقافة والابداع - جدة و فرنسا.

دلال محمد طه بخش*

أصدرت مؤسسة المنصورية للثقافة والإبداع كتابا فنيا يحلق بجناحين أحدهما الكتابة الغامضة، المتصوفة، عالية الكثافة، والرمزية، والآخر هو الرسم الذي يمثل فانتازيا الإبداع التشكيلي لعوالم مملؤة بالسحر والزخرفة والأسطورة. النص والصورة مختزلان في حديث وهيئة ولون اثنتي عشرة جنيِّة، تجسدن طاقات ذهنية إبداعية نابعة من أزقة مكة المكرمة، والجنوب المليء بالأسرار وأحافير نجران ومخزونات متاحف العالم ومعابده. الكاتبة والفنانة "رجاء عالم وشادية عالم" استثّناء فريد، ذو تفكير إبداعي اختراقي للعوالم وراء الضّوئية، استطاعتا في محاولةٍ توفيقيّة بين النّص المكتوب وفانتازيا الإبداع التشّكيلي أن تتقمصا المادتين البصرية، والنثرية لتحرّرا الطاقّة الذّهنيّة الإبداعيّة في شكل سيل من الشحنات التي يتمّ إيصالها للعالم في شكل تتابعي، بُغية الالتقاء مع الشحنّة الطبيعية التي يتشارك فيها البشر مع غيرهم. لقد أنتجتا معا أسطورة طازجة ضاربة في عمق الوجود الإنساني ومنتمية إلى الربع الخالي. يقف المسافر الوحيد، الباحث عن النور، القادم من حضارات طسم، وجديس، وقتبان، على أخدود في نجران، حيث نبع نهر لار يوما ثم غار. سار النهر يوما ما ملتفا حول الصحراء، وصابا في خليج عدن قبل أن يغور ضاربا في أعماق الرمال، ومحروسا باثنتي عشرة جنية. المسافر الوحيد، الباحث عن النور، يتردد في الولوج خوفا من قصص كل من سحرتهم الجنيات من أبناء القبائل، فبادوا، ولم يجد أحد لهم أثرا، وإن ورد ذكرهم عند بطليموس وفي المقامة المنسية للحريري! عزم المسافر على البحث عن النهر الغائر، ربما توقا، أو فضولا، أوسدا لجوع روحي، أو معرفي، يتقدم وحيدا فيقابل الجنيات الواحدة تلو الأخرى ويتحدث معهن مدركا أنه إما أن يقتل مثل من سبقوه، أو يستنير بحديثهن، فيترقى، فينكشف له جزء من زرقة لار. لقد أدرك أن جزء النهر المنكشف سيقوده إلى الجنية التي تليها، وإلى مزيد من المعرفة والترقي. لقد بات وكأنه يعرج في سلم من مقامات وأحوال مستضيئا بما يتعلم من كلام الجنيات، وساعيا ليتحقق بحقيقة الترقي والاستخلاف.

يتأرجح كل من النص والصورة على ثنائيات عدة منها الحياة والموت، الحضور والغياب، والنور والظلمة وهي ذات الثنائيات التي يدور فيها أفق التصوف. فالأسطورة كلها مبنية على رحلة لعبور الظلمات، والوصول إلى النور، ولكن الظلمة التي يرمي إليها النص نابعة من الذات، ومن سجن الروح في صندوق الجسد، أما الجنوح إلى النور والارتحال إليه فما هو إلا محاولات للتخلص من ربقة الحواس، وسلطان العقل حتى تتحرر الروح فتتصل بعالم النور. ويتحول مفهوم الشرق الفيزيائي الذي هو وجهة النهر إلى شرق ربما أفقي علوي أو أينما يوجد النور فتشرق الفيوضات.

يستمد النص أسراريته من تناص مع القرآن الكريم والحديث الشريف، واستدعاء لتاريخ الجزيرة العربية وجغرافيتها، وتوظيف لمعطيات الأساطير والملاحم القديمة كجلجامش في قالب من مصطلحات ورموز صوفية وتوظيف لعلوم الحرف والرقم الجفرية. يستضيء النص كذلك بمدرسة هنري كوربان السهروردية في فهم مرامي الضياء الظلام والاتجاهات. ويتوشح بفنيات عالية في السرد تحول المخترع المؤسطر إلى واقع منسوب لبطليموس، وموثق بحقب زمنية وأمكنة موجودة فعلا. أما الصورة فتستمد طاقاتها من تجسيدها لكائنات موجودة مرة، وميتافيزيقية مرة، فالجنيات واقع غير مرئي للإنسان العادي وارتباطها بالحية مرة، والحورية مرة أخرى يعمق مغازيها ومراميها. إن مراحل تطور الجنيات/الأفاعي/الحوريات في ذواتهن وهيئاتهن وأفعالهن أكبر دليل على أنهن في رحلة أو سفر كما يشير النص المكتوب. ويتحول الرسم هو الآخر إلى رسم أسراري يسير مواكبا للحركة والاتجاه التي يسير عليها فعل السرد.

يستدعي الفهم استحضارا لفلسفة ابن عربي؛ والتي تنص على أن تحقيق الاستخلاف في الأرض هو الهدف الأسمى من الوجود الإنساني. أإن ذلك لا يتأتى إلا بالترقي في مقامات العرفان وصولا إلى آخر مقام وهو الفناء في ذات الله. يقع ذلك بعد مرور بكثير من المقامات مثل مقام التوبة، والزهد، والفقر، والرضا وغيرها. يبدو الإنسان بمثابة العالم الصغير، ويصبح الكون بما فيه العالم الكبير، وعليه فإن العالمين الكبير والصغير مؤسسان على بنية مقامية مع مراعاة أن الإنسان لا يتحقق من مقاماته إلا بالجهد والتعب في حين أنها موجودة في العالم الكبير وجودا طبيعيا. شق المسافر الوحيد طريقه على حذر، متنقلا بين الجنيات، ومستقيا من كل واحدة منهن ما يضيء له مسالك الطريق، ويرقيه في مقامات العرفان، وتكون زرقة لار المنكشفة تدريجيا هي خارطة طريقه.



تقول واحدة من الجنيات " أنا الطريق التي لاتسلك منفردا، ولابد أن تحمل فيها الجسد والروح على الحوار معا، حيث واحدهما للآخر مرآة، ومن ذاك الحوار/ ومن تلك المرآة تتوالد على طريقي ولدان الكلام والأفكار المغيرة والعواطف التي بمثابة الطاقة، البريق الذي يجلو من يقع فيه، يؤاخي باطنه قبل ظاهره"



إن صفاء السريرة وكون الباطن مرآة للظاهر والعكس قضية حتمية في الرحلة لتلقي الفيوض. تتحول الجنية في هيئتها إلى كائن مشع، مستقبل، يتلقى الضوء ويستجيب له، يتقاصر شعرها، وتنفلت بعض الشئ من هيأتها الإنسانية، ويتوارى وجهها، لم يتبق لها سوى أنوثتها وحبلها السري المربوط بسلالة تحاول الفكاك منها، تجلس في وضعية قريبة من الولادة وتتزايد إمكانيتها على التثني، والتشكل. تبدو وقد مرت بحالة من التوحد بين الجسد والروح على أتم الاستعداد أن تنجب سر ذلك التوحد فتنفلت الكلمات وتجيش العواطف وينفتح الطريق. وكأن المولود المنتظر هو كلمة السر التي تفتح كل باب مغلق.

تقول أخرى “طفولتي حيث كنت أحبو بين السماء والأرض، حين لم تكن الحدود قد قامت بين الجنة وإنسانها، من تلك الطينة تكون جسدي والتف، ولم تعد الصور تشكل حواجزا فانتقل بين الصورة وغيرها، بين الجسد ونقيضه بمجرد النية. صار لحركتي حفيف يطلع من غناء الحداة على مقام الصبا، صرت النغمة التي لا تمحى من ذاكرة الحيوان، أي بلغت فالتحمت بعنفوان بالطينة المجبولة منها الكائنات، ملتحمة أنا الآن بالأرض التي تعبرونها وتتوسدونها بالليل وتدخلون جوفها بالممات، أنا المعبر لعدن التي فقدت من أقدامكم.


استرجاع أصل التكوين النوراني، وتوق إلى غياب الحواجز بين الجنة وإنسانها يجعلها تنفلت خارجة من كل ماعلق بها ،وكبلها، فتتخلص من الزرقة مكتسية الخضار ولون الجنة الممتزج بالنور، هل فات أوان الانفلات أم اكتسب جسدها خاصية مزدوجه تجعله نورانيا في أعلاه وأرضيا في أدناه؟ تنشق منفتحة متقبلة عريها، تنتفض، ترتعد تحاول أن تخرج من ذلك المأزق بأن تتقبل اندماجها وحيوان الأرض، تتحرر من قلائدها وخواتمها وأساورها، تضرب بها أدراج الرياح. تتماهى وتتلاشى الحدود التي تفصلها عن الجنة وتكتسب حرية الانتقال بين الهيئات والأشكال، وكأنها أصبحت من أهل الخطوات أو في مقام البدلية وقد نجحت في اختبار عصيب. تلتحم بالأرض لتتحول إلى الطريق الموصل بين السماء والأرض، بل تصبح الباب الوالج إلى عدن. فلئن كان البدل قادرا على التواجد في أكثر من مكان في الوقت ذاته؛ فإنها هي الخاصية الكونية التي تتيح ذلك. يترامى الطريق منبثقا من بين أصابعها موسوما بشكل خلية النحل السداسية إرهاصا للوصول إلى التحول السادس. وما الخطوط الخمسة التي تفضي إلى جسدها إلا دلالة التوسط في الرحلة وتحديدا لموقعها الحالي من التطور.


وجنية أخرى تبرق تلتمع تتوهج تستدير وتكتمل مخضبة بالحناء ويحل عليها عالم من الأسرارية والتعددية فتقول : " لا تقف عند عقدة للماء أو للجن، واصل الجريان في الهيئات وتلاطم مثل لجج متتبعا المد للواحد، فكل ما انكشف لك هو (أنا) هو (أنت) هو (الكل)، أنا الجنية والجنية، أنا الجنية وثلاث، أنا الجنيتان والعشرة، ومع ذلك فأنا لا أشبه أيا منهم ولا أشبه ذاتي الآن وبعد الآن وقبلها، أنا لا أشبه شيئا سابقا أو لاحقا في التجلي. أنا تأكيد فعل الخلق وإعادة التخلق، وجودي لبعث النهر فيكم، لار هو ردود أفعالكم لاتفهمكم. ما أبعثه هو رد الفعل لا انغلاقته." تصبح حية مكتملة، وجنية مكتملة، وحورية مكتملة كلهن معا. يبدو سر العلم كامنا فيها. الجنية والجنية هي وقرينها نهر لار، أما الجنية والثلاث فالأربعة دلالات للألوان المتحولة في النص من بني بدرجاته إلى أصفر، وأزرق ،وأخضر، وتكون الجنيتان والعشرة هي محصل إثنتي عشرة جنية أو إثني عشر مقاما تمر به للوصول. لئن كان علي بن أبي طالب قد قال يوما" إن كل ما في الفرقان في الفاتحة، وكل ما في الفاتحة في بسم الله الرحمن الرحيم، وكل ما في بسم الله الرحمن الرحيم في الباء، وكل ما في الباء في النقطة التي تحتها وأنا النقطة" وقال أيضا "لو شئت لأوقرت لكم ثمانين بعيرا في معنى الباء". تبدو نقطة الباء/النون هذه محاطة ومغلفة بجسد الجنية. أما النص فيشير صراحة إلى حالة التجلي أو التلقي وقد اكتملت مراحل التوقي والترقي، لقد انكشف المد الواحد، وانبعث نهر لار سيالا، وحصل الاتحاد الذي حل بالحلاج، وتحققت وحدة الوجود فهي الألف والواحد والعشرة، وتكرمت بالحلول. وما النقطة في بطنها إلا سر أسرار الباء في بسم الله الرحمن الرحيم، أو لعلها سر نون في القلم وما يسطرون.

ينشحن النص بعدد من المصطلحات الصوفية المتخفية حينا، والظاهرة حينا، ليحيل إلى علوم يراد لها الخفاء والتستر شأنه في ذلك شأن النصوص الصوفية؛ التي تجلي للقارئ العادي أبعادا ما، وتخفي مرامي سحيقة للمريد وللمتمرس فيها، وبذلك يعطي النص أطيافا لونية متغايرة تحددها هوية المتلقي أولا وأخيرا.


* أستاذ النقد والأدب جامعة الملك عبد العزيز، ماجستير ودكتوراه من كلية الدراسات الشرقية والافريقية SOAS- لندن. مهتمة بتحقيق المخطوطات ودراسة التراث العربي الشعري النثري.


صدر لها: تحقيق ديوان التدبيج ل عبدالمنعم الجلياني -دار الساقي ٢٠٠٨م، تحقيق ديوان الحكم وميدان الكلم ل عبد المنعم الجلياني - مكتبة الانجلو المصرية ٢٠٢٢م، سرديات معاصرة- بحوث ودراسات- مكتبة الأنجلو المصرية ٢٠٢٢م. بالاضافة إلي عشرات المقالات العلمية في مجلات مختلفة.



 

هيئة التحرير

رئيس التحرير

د. إبراهيم الفريح

مديرة التحرير

أ. سمر المزيد

أعضاء هيئة التحرير

د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. د. علاء الغامدي

الهيئة الاستشارية

أ. د. سعد البازعي |  د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي 

تصميم ودعم تقني

أ. إبراهيم الثاني


للتواصل والمساهمة في النشرة

syaq@scl.sa







١٥٧ مشاهدة

Comments


bottom of page