للجسد المعطوب والمعاق صوته أيضًا، وله كلمته فيما يُشكّل هويته ويعبّر عن المشاعر المتعلقة بموضعه بين درجات العافية والمرض. على أن هذا الصوت بقي متواريًا، إن لم يكن مكتومًا، خلف سيادة التقارير والإحصاءات والمعايير الطبية الآلية والسياسات الحيوية التي عرفت العلل وفصلت درجات الإعاقة العقلية والجسدية، وصنفت الأمراض وأعراضها وابتكرت طرق علاجها وتقويمها. كما جرى تحديد صفات المرضى وذوي الإعاقات أو العاهات نسبة إلى معايير تعارفت عليها السياسات الحيوية لسليم الجسد وصحيح العقل، واقتضت خطابات رفاه البشر في مراحل تاريخية كثيرة علاج وتهذيب كل عَرض لا يتطابق مع تلك المعايير. وإلى جانب النظريات الحيوية والدراسات الطبية التي كرّست قيمة الجسد المعتل والإعاقة في منزلة أدنى من الجسد السليم، لم يكن الفن بريئًا ولا الأدب بعيدًا عن قولبة الإعاقة أو النقص الجسدي في قوالب ثقافية يغلب عليها التحيز، كما ساهمت اللغة في إسقاط اعتبارات أخلاقية وقيمية على الجسد المريض والمعطوب، فعرفت العديد من الثقافات استعارات لغوية تربط العمى والبرص والجذام والعرج بالشر والعقوبة والعلل الأخلاقية، وانتشرت في كثير من المجتمعات مشاعر وأحكام وتبعات اجتماعية مرتبطة بالأوبئة والأمراض المعدية وكل ما ينتمي إلى "مملكة المرض" ويكتسب هويته. ومع تتابع صعود خطابات سياسات الهوية في العقود الأخيرة، وانتعاش الدراسات الاجتماعية واللغوية والثقافية التي تركز على كشف التحيزات التاريخية ضد عدد من الفئات الأقل امتيازًا، التفتت الدراسات الإنسانية إلى مسألة الهويات، ومنها هوية الأفراد المرضى وذوي الإعاقة، ودور الثقافة -بمركباتها وطبقاتها المتعددة- في تشكيل مفاهيم وحدود المرض والعلة الجسدية والعقلية. نشطت مؤخرًا المناهج النقدية المختصة بالإعاقة في تفكيك تلك المركبات الثقافية وتحليل تبعاتها ومفرزاتها الاقتصادية والاجتماعية والأدبية والفنية، فظهرت كتب ودراسات كثيرة تركز على تحليل الخطابات المتعلقة بالإعاقة أو تمثيلات المرض في الأدب والسينما والفنون التشكيلية من رسم وتصوير ونحت، لا سيما أن هذه الفنون جميعها أعلت من شأن معايير جسدية ونفسية محددة مرتبطة بالصحة والجمال والكمال الجسدي وشيطنت كل ما يخرج أو يبتعد عنها، فنرى في السينما مثلًا كيف غدت الإعاقة الجسدية مصدر رعب، وغدا الاضطراب النفسي مقرونًا بالشرور. لكن الجسد المريض والمعطوب والعليل تمكّن في السنوات الأخيرة من استعادة صوته وإعادة تركيب هويته، وعاد يتموضع في قلب الدراسات الإنسانية الطبية (Medical Humanities) عن طريق الإنسانيات والدراسات الثقافية، ويوظف الأدب والفن والعمل الاجتماعي للتعبير والتأثير. كما ساهمت الدراسات النقدية للإعاقة بكشف التحيزات وتغيير الكثير من المسلمات المتعلقة بالفن. وقد انتعشت هذه الدراسات النقدية في السنوات الأخيرة على مستوى العالم، إلا أن الدراسات العربية مازالت تحبو وتكبو في هذا المجال. ولذا سعينا في هذا العدد من سياق إلى تسليط الضوء على هذا الحقل الهام والحيوي الذي مازال خارج مجال اهتمام الدراسات النقدية العربية. ونزعم أنه حقل واعد من خلال المحتوى الذي أثرانا به المشاركون والمشاركات في هذا العدد.. قراءة ماتعة وعافية ضافية..
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
مديرة التحرير
أ. سمر المزيد
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. د. علاء الغامدي
الهيئة الاستشارية
أ. د. سعد البازعي | د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
المراجعة اللغوية
أ. وسن الحسين
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
Comments