تأليف: نِينغ وانغ Ning Wang
قسم اللغات الأجنبية في جامعة تسينغهوا
ترجمة: بثينة محمد
لطالما كانت أزمة الأدب المقارن موضوعا مثيرا للجدل، خاصة في الأوساط الأكاديمية الغربية. فقد أدّى الخطاب الذي ألقاه رينيه ويليك في تشابل هِل بعنوان «أزمة الأدب المقارن» في عام ١٩٥٨م، والمعارض للممارسات «اللا أدبية» لما يُسمى المدرسة الفرنسية، إلى تصدّر المدرسة الأمريكية في دراسات الأدب المقارن حول العالم. كما واصلت المقارِنة البريطانية والباحثة في الترجمة سوزان باسنيت، عقب تسعينيات القرن العشرين، نقد الأدب المقارن بصفته تخصصا أكاديميا، وهي التي كان لها عديدٌ من المساهمات في مجالَي الأدب المقارن ودراسات الترجمة. ففي كتابها المهم والمثير للجدل، الأدب المقارن: مقدمة نقدية، الصادر في عام ١٩٩٣م، قامت باسنت بكتابة مقدمة نقدية للأدب المقارن بوصفه حقلا أكاديميا، ما أثّر تأثيرا واضحا على الممارسات العملية وتدريس الأدب المقارن في الجامعات. وكان من أبرز ما ميّز هذا الكتابَ تسليطُه الضوءَ على دراسات الترجمة وإغفال قيمة الأدب المقارن عمدًا، الأمر الذي يشير بوضوح إلى الأهمية التي تُوليها باسنيت دراساتِ الترجمة وانتقاصها من شأن هذا الأخير. ولذا فإنه لم يكن مفاجئا أن نقرأ مقالتها الجديدة اليوم في القرن الحادي والعشرين.
إذ يبدو أن هذه المقالة تأتي استكمالا لاشتغالها على تفكيك الأدب المقارن وإعادة تشكيل دراسات الترجمة. ففي كتابها سابق الذكر، وبعد إسهابها في الحديث عن قيمة دراسات الترجمة، أكدت باسنيت أن «الأدب المقارن يعدّ اليوم ميّتًا بطريقة ما، وذلك بسبب محدودية مقابلاته الثنائية، ومنهجه اللا تاريخي عديم الفائدة، ونظرته القاصرة للأدب باعتباره قوة حضارية عالمية، وكل هذا ساهم في قيادته إلى حتفه» (٤٧). لكن على الرغم من إعلان سوزان باسنيت موتَ الأدب المقارن، فإن هناك مفارقة أخرى لا يجب إغفالها، وهي النشاط الملحوظ لأساتذة الأدب المقارن في عصر العولمة، وحضورهم شتى المؤتمرات والندوات، وتأليفهم الكتب والمقالات. كما أن العديد من الأنشطة الأكاديمية تنظمها أقسام الأدب المقارن في الجامعات. وأثر هذا واضحٌ إلى حد ما على حقل العلوم الإنسانية بكامله، فكيف يمكننا تفسير مثل هذه الظاهرة؟
لا يبدو أن هذا الجانب يخفى على باسنيت على كل حال. إذ تُردف: «ولكنه [أي الأدب المقارن] يعيش متنكرًا: في شكل إعادة التقييم المتطرفة للنماذج الثقافية الغربية الراهنة و في مختلف أنحاء العالم، وفي التداخل بين الحقول المعرفية من خلال توجهات منهجية جديدة تعززها الدراسات الجندرية أو الدراسات الثقافية، وفي استقراء عمليات التبادل الثقافي التي تأخذ حيزا في دراسات الترجمة» (٤٧). وهذا صحيح إلى حدّ ما بشأن وضع دراسات الأدب المقارن في السياق العالمي الراهن.
إن جميع ما سبق من ظواهر تشير إلى أن الأدب المقارن يعيش منذ التسعينيات أزمة تناقض. فنطاقه باعتباره حقلا معرفيّا يضيق أكثر فأكثر: فالعديد من المجالات البحثية التي كانت تنتمي في الأصل إلى الأدب المقارن أصبح يُعنى بها الآن باحثون في الدراسات الثقافية أو النقد الثقافي. لكن ينبغي التأكيد من جهة أخرى على أنه من السهل على أساتذة الأدب المقارن أن يُسهموا في مجالات بحثية بينية، وأن يتركوا بصمتهم المميزة في العلوم الإنسانية، وذلك عائدٌ إلى معرفتهم الواسعة والعميقة بالتخصصات المتعددة، وإلى قدرتهم الكبيرة على استشعار الموضوعات النظرية الجديدة والمتطورة، وكذلك إلى تمرسهم في مهارات الكتابة. وهذا في حدّ ذاته يناقض تماما فكرة انهيار هذا الحقل المعرفي. ونتيجة لذلك لم يعد كثير من الباحثين في هذا المجال ينخرطون في دراسات الأدب، بقدر مساهمتهم في موضوعات تنتمي لمجالات أخرى من زاوية مقارنة. ومع ذلك عليهم الاعتماد مؤسسيا على حقل الأدب المقارن، تمامًا مثلما فعل الراحل أندريه لوفيفر، الذي انخرط في دراسات الترجمة، بالإضافة إلى أستاذ الأدب المقارن إدوين غِنتسلر، الذي ما يزال منتجا في تركيزه على دراسات الترجمة من منظورٍ مقارِن وعابر للثقافات.
إن باسنيت على دراية بهذه الظاهرة أيضًا، ولذلك سعت بكل جهدها لتؤسس مكانة لحقل دراسات الترجمة. بعد مناقشة العلاقة بين الأدب المقارن ودراسات الترجمة بالتوازي، تكتب باسنيت بجرأة وصراحة في الفصل الأخير من كتابها المعنون «من الأدب المقارن إلى دراسات الترجمة»، وفي سياق الحديث عن انهيار الأدب المقارن: «في المقابل، أخذت دراسات الترجمة في الاتساع وصارت حقلا معرفيًّا قائمًا بذاته منذ السبعينات، وله جمعيات متخصصة، ومجلات دورية، وفهارس وعدد واسع من أطروحات الدكتوراه» (١٣٨). إذن «علينا اعتبار أنّ دراسات الترجمة هي الحقل الأساسي من الآن فصاعدًا، بحيث يكون الأدب المقارن ذا قيمة باعتباره مجالا فرعيا» (١٦١). هكذا تفكّك باسنيت دور الأدب المقارن وتبني مكانه حقل دراسات الترجمة.
ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، واجه الأدب المقارن تحديا آخر انطلق من كتاب قصير للباحثة غاياتري سبيفاك المتخصصة في نظريات ما بعد الاستعمار بعنوان Death of a Discipline (موت حقل معرفي). كانت سبيفاك من أبرز الناشطات في الدراسات الأدبية والنقدية في العالم منذ تسعينات القرن العشرين، ولذا فإن لرأيها أثرا بالغا. وقد تساءل الباحثون في مجال الأدب المقارن ما إذا كانت سبيفاك تأمل حقًا موت هذا الحقل المعرفي، أم أنها شعرت بالفعل أنه يُحتَضر؟ وهل هناك مستقبل للأدب المقارن؟ وإذا كان الأدب المقارن بشكله الأوروبي التقليدي قد مات فعلا، فكيف يفسَّر استمرار هذه الدراسات في أنحاء أخرى من العالم، وخاصة في الصين وبعض دول المشرق؟
إلا إنني بعد قراءة الكتاب لم أخلص إلى رغبة سبيفاك في موت الأدب المقارن، إذ كان هذا المجال هو المحطة الأولى في مسيرتها الأكاديمية، وقد نشرت كثيرا من الأعمال داخل هذا المجال وخارجه، كما تشير بوضوحٍ شديدٍ صديقتُها جوديث بتلر، إحدى أهم الباحثات في شؤون المثلية في الغرب المعاصر. تكتب بتلر : «كتاب غاياتري شاكرافورتي سبيفاك لا يقول لنا إن الأدب المقارن يشارف نهايته. بل إنه على العكس يرسم مستقبلا عاجلا له ويطالب به ويوضح أهمية مواجهته مع دراسات المناطق area studies .. كما أنه يضع خارطة طريق جديدة في قراءة الدراسات الأدبية لا في مستقبلها فحسب، بل وفي ماضيها أيضا. إن هذا النص محيّر ومعقّد وديناميكي، وهو بليغ ومذهل في موضوعاته ورؤيته. ونادرًا ما ألهمنا (موتٌ) بمثل هذه الطريقة». والواقع أنني، باعتباري باحثا صينيا في هذا المجال، لم يصبني التشاؤم بعد قراءة كتاب سبيفاك بشأن مستقبل الأدب المقارن حقلا معرفيّا. بل إنني، ولدهشتي، وجدت أن دراسات الأدب المقارن في الصين في العقود الماضية تشير إلى ازدهار واضح في هذا الحقل في عصر العولمة. أي أنه، وفقًا لسبيفاك، «يمكن للأدب المقارن ودراسات المناطق العمل جنبًا إلى جنب لا في سبيل تشكيل أدب وطني في الجنوب العالمي فحسب، بل أيضا في سبيل كتابة لغات محلية عديدة هُيئت للانقراض عند وضع الحدود الجغرافية... وعندها لن يكون الأدب المقارن الجديد جديدًا بالضرورة. ومع ذلك عليّ الاعتراف بأن الزمن كفيل بتحديد ما ستؤول إليه الرؤية الضرورية للمقارَنة. فالأدب المقارن يجب أن يتجاوز الحدود على الدوام» (١٥-١٦).
عند النظر إلى الدراسات الصينية باعتبارها إحدى دراسات المناطق، نجد أن دراسات الأدب المقارن في الصين هي بلا شك جزءٌ من دراسات المناطق في إطار الدراسات الثقافية العالمية، كما أنها جزء من الأدب العالمي أيضا. وفيما يخص «عبور الحدود» فإن الأدب المقارن في الصين يتمتع، في رأيي، بهذه الخاصية منذ نهضته في الثمانينات. ومن ناحية أخرى يعبر باحثون الحدود بين الشرق والغرب، وبين الأدب العالمي والأدب القومي. وهم أيضًا يعبرون الحدود بين الأدب والموضوعات ذات العلاقة، وبين الأدب الصيني والأعمال المكتوبة بلغات أخرى في دول آسيا ومناطقها.
لنعد إلى أفكار باسنيت الأساسية في مقالتها، وسنرى أن موقفها يتطرف إلى حد اعتبار كلّ من الأدب المقارن ودراسات الترجمة أدوات بحثية بدلا من كونها حقولا معرفية. وليس من الصعب على المطّلعين على أبحاثها الأخيرة أن يدركوا أن موقفها هذا يعود إلى الوضع الراهن للأدب المقارن في الغرب، ونعني بذلك أزمة الأدب المقارن وازدهار الأدب العالمي في الأوساط الأكاديمية الغربية. لكن مثل هذه الأزمة غير موجودة في الصين إذ إن كلّا من الأدب المقارن والأدب العالمي قد دُمجا معًا في حقل واحد في الفهرس العام الذي أعدته وزارة التعليم في الصين منذ عام ١٩٩٨م. ولكن ما السبب في ازدهار الأدب العالمي في عصر العولمة؟ الإجابة، في الحقيقة، بسيطة. فكما صاغ غوته مصطلح الأدب العالمي Weltliteratur في عام ١٨٢٧م، وأعاد تشكيله لاحقًا كلٌّ من ماركس وإنغلز في عام ١٨٤٨م، ارتبط الأدب العالمي بالأدب المقارن بعلاقة وثيقة. أو يمكننا القول إن الأدب العالمي هو بداية الأدب المقارن. وهو في الحقيقة أحد نتائج العولمة في الثقافة والأدب. ولهذا نشأ نوع من الأدب العابر للدول أو الكوزموبوليتاني إثر معاصرة العولمة في القرن الحادي والعشرين حيث تتماهى الحدود بين الدول ويتأثر الأدب الوطني بهذا التفاعل. إن ازدهار الأدب العالمي هو ما يلفت انتباه الباحثين في الأدب المقارن اليوم كما يظهر جليًّا في الدراسات الأدبية. وفي هذا السياق سيكون الأدب العالمي هو أعلى ما سيصل إليه الأدب المقارن بلا شك. ففي عام ٢٠٠٣م نشر ديفد دامروش كتابه بعنوان ?What is World Literature (ما الأدب العالمي؟) مؤكدا فيه على تداخل الأدب المقارن والدور المميز للترجمة (١-٣٦). وعليه يمكننا القول إن دراسات الأدب المقارن في الصين تنبأت منذ عام ١٩٩٨م بنظريات ديفد دامروش التي وضعها في ٢٠٠٣م. وبما أن مصطلح غوته Weltliteratur يشير إلى النتيجة البدهية للعولمة في الثقافة، وهو ما يعني في الحقيقة بداية الأدب المقارن باعتباره حقلا معرفيا، ومع الممارسة الشاملة للعولمة في السياق الحاليّ يمكننا أيضًا أن نخلص إلى أن أعلى نقطة سيبلغها الأدب المقارن هي ذاتها التي سيبلغها الأدب العالمي. ولذا سيكون من صالحنا نحن الباحثين الصينيين في هذا المجال أن نجري أبحاثنا في الأدب المقارن بين الشرق والغرب في سياق أشمل للأدب العالمي.
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. علي المجنوني
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
Comments