top of page
نشرة سياق

الرجولة المسحوقة في «خبز على طاولة الخال ميلاد»

قراءة نقدية في الإبداع


د. علياء باكير*

مراجعة رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» لكاتبها محمد النعاس،

صدرت عن دار مسكيلياني 2021

فاز الروائي الليبي الشاب محمد النعاس بجائزة البوكر العربية لعام 2022م عن روايته الأولى المنشورة «خبز على طاولة الخال ميلاد». تتحدث الرواية عن حياة الشخصية الرئيسة «ميلاد»، وهو شاب ليبي يعيش صراعًا داخليًا وخارجيًا مع مفاهيم الرجولة السائدة في مجتمعه. و عنوان الرواية يُحيل إلى المثل الشعبي الليبي القائل «عيلة وخالها ميلاد»، وهو مثل يسخر من الرجل الذي لا يَحكم نساءَ بيته ولا يسيطر على تصرفاتهن.

يحمل غلاف الرواية صورةَ شابٍ في يده رغيف خبز ويرتدي قميصا صيفيا. لا يبدو أن هذا الشاب يحمل ملامح رجولية صارخة، كما يخلو وجهه من التعابير، وتفصح عيناه عن قلق وخيبة عميقتين، وكأنه يحتمي برغيف الخبز أو يختبئ خلفه، وعند قراءة الرواية يجد القارئ أنَّ المخبز هو المساحة الوحيدة الآمنة الذي يجد فيها ميلاد نفسه.

ميلاد ولد وحيد رقيق الطباع تربى بين أمه وأخواته. والده يملك «كوشة»، أي مخبزًا لصنع الخبز الليبي والأوروبي، كان ميلاد يساعده فيه، بل كان الخبز هو الشغف الوحيد الذي جمع بينهما. كان الأب رجلًا خشنًا غير راضٍ عن ميلاد ولا عن طباعه اللينة ولا عن مجالسته للبنات في البيت. يتحدث ميلاد عن مراتٍ كثيرة زجره فيها والده، بل وضربه من أجل مرافقته لأخواته، «أخبرني بأنني أحتاج إلى أن أسترجل وأترك رفقة أخواتي، «رافقهن كحارس أو أب فقط» (36). ويتحدث ميلاد عن عدد المرات التي حاول فيها أن يفهم قوانين الرجولة السائدة في مجتمعه ويتمثَّل بها حتى يكون مفخرة لأبيه، ولكنَّه كان دائمًا ما يفشل، ما دفعه إلى الانضمام إلى العسكرية. وبالطبع لم يُجدِ ذلك أي نفع، إذ عاد ميلاد هاربًا من العسكرية يحمل في طياته إيمانًا برجولته الضعيفة الخائرة.

تصوّر الرواية انطلاقة أزمة ميلاد مع الرجولة من خلال تأزم علاقته بأبيه ومحاولاته المتتالية في الوصول إلى الرجولة المنشودة، يقول ميلاد: «لا أريد أن أنهك كاهلك بعدد المرات التي بكيت فيها فقط لأنني لم أستطع أن أكون فيها رجلا حقيقيا كما أرادني أبي»(37). ولكن ما هي الرجولة الحقيقية التي يتحدث عنها ميلاد أو التي يقارن نفسه بها؟ هل هي الرجولة حسب ما يتمثَّلها ابن عمه العبسي الذي يدوس على نساء بيته ويضاجع العاهرات ويقارع الخمر ويبطش بالأرض؟ هل هي الرجولة المتمثّلة في عمه الذي استولى على مخبز أبيه وداس على الخبازين والعمال؟ هل هي الرجولة المتمثلة في مدير زوجته الذي يتحرش بالموظفات ويستبد في منصبه؟ هل هي الرجولة المتمثلة في أبيه الرجل الخشن والمنكفئ على مخبزه؟


الرواية لها سارد واحد، فالقارئ يرى العالم والشخصيات من خلال ما يعانيه ميلاد مع مفهوم الرجولة، ذلك المفهوم الهلامي الذي مهما تعددت تعاريفه وزواياه فإنها كلها تسعى إلى إقصاء الآخر المؤنث أو السيطرة عليه. تلك الحساسية المفرطة من مشابهة الآخر أو مقاربته أدّت إلى خلق الحيرة في نفس ميلاد وإلى شعوره برجولة تحاصره ولا يستطيع أن يتمثَّلها، ما دفعه إلى عدة محاولات انتحار، كما دفعه إلى علاقات فاشلة ومضطربة مع الجنس الآخر أبرزها علاقته بزوجته المراوغة والأنانية.

الرواية صادمة إذ تفاجئ القارئ بالرجولة الموءودة في عالم الرواية مجتمعاتنا العربية، ففي حين تعلو أصوات الخطاب النسوي وموضوع الدور الضاغط للمجتمع والعائلة والأعراف الذي ترزح تحته المرأة العربية قلّما يُلتفَت إلى ما يعانيه الرجال الذين لا يتفقون مع الصورة الذكورية السائدة عن الرجل الشرقي، والصورة الذهنية المرتبطة به باعتباره ربّ الأسرة، والرجل القاهر والمستبد والمتبوع، أو السيد الآمر الناهي أو صاحب الصولات والجولات وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة. وبالتالي يواجه الرجل غير النمطي تهمةَ فقدان الرجولة ووصمة الخزي والعار والشك، ولا تتوفر أمامه مساحة لتحدي الخطاب السائد عن الرجولة أو مقاومته.


يمكن القول إنَّ آلية قهر المرأة هي نفسها الآلية التي تخلق مفاهيم مشوهة عن الرجولة وهي التي تخلق الضغط على الرجال بتمثّلها. ولكن لا يوجد مَن يتحدث عن تنوع الأنماط الرجولية وتعددها وعن أنواع القهر أو الضغط الاجتماعي الذي يرزح تحته و كذلك الرجل عن الأدوار الروائية المتاحة للرجل بتمثيلها العربي. وهنا يأتي محمد النعاس ليعطي دورًا بطوليا لشخصية رجولية مغتربة، نادرًا ما يجري تمثيلها في السرد، وإن قُدِّمت فإنما تُقدم في أدوار هامشية، وهنا نطرح التساؤلات: هل يتحول ميلاد إلى رمز للرجولة الموءودة هل يقدم لنا النعاس رمزية عالمية للرجولة المهمشة؟ هل يحمل اختيار اسم الشخصية ميلاد دلالات أخرى زيادة على ارتباطها بالمثل الشعبي «عيلة وخالها ميلاد»؟ أعني ألا يكون ميلاد هو رمز خلق ووجود واستمرارية، رمز أنماط جديدة ورمز نماذج تتشوه بفعل القهر الاجتماعي؟


وكما تنتهي روايات النساء المقهورات بالجنون أو الانتحار، تنتهي رواية ميلاد بشكل من أشكال الجنون. فميلاد الزوج المحب والخادم لزوجته والمصدق لأكاذيبها يبذل كل المحاولات في استرضائها وإن كان يعلم في قرارة نفسه أنها لا تحترمه وأن علاقتهما وصلت خط الفشل ولكنه متعلق بها وغير قادر على مفارقتها، إذ هي محبوبة الطفولة التي تقدم له نوعـــًا من الإحساس بالأمان، ثم يفشل في الحصول على رضاها واحترامها تباعًا. فيأتي بذلك الفعل الصادم المتمثّل في قتل الزوجة البارد ثم احتضانها في الخاتمة ليحرر ميلاد من تعلّقه بها. هذا الجرم ما هو إلا رغبة ميلاد في استرداد كرامته المستلبة وذاته المهمشة التي استهان بها الجميع، وتأتي في مقدمتهم الزوجة. يُفصح القتل البارد هذا عن آثار الاستلاب النفسي للكرامة الإنسانية وعن العنف الذي قد يصاحب هذا الفعل. ثم يلتفت بعدها ميلاد ليكمل ما بدأه من حديث عن الخبز فيتحول إلى شخصية غير مقهورة، واثقة، ومسيطرة.

تطرح «خبز على طاولة الخال ميلاد» عددًا من الإشكالات المتعلقة بأدوار الذكورة والأنوثة، فالمجتمعات فالعوالم العربية الروائية تتغير، والأدوار الأنثوية والذكورية كذلك خاضعة للتحور والتغير، وهناك كثيرون يقاومون تلك التغييرات. هناك مَن يعتقد أنَّ التغير في الأدوار من شأنه أن يزعزع الثوابت ويؤدي إلى الانحلال والتفكك الأسري. والمجتمع الليبي المصوَّر في الرواية يقاوم هذا التغيير، ويمكن استشفاف مقاومته من خلال الأمثال الشعبية المستهزئة التي يُوردها النعاس في مقدمة فصول الرواية ويوظفها في المتن توظيفا سرديًا موفقًا. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل أعاد النعاس تشكيل عجينة ميلاد؟ هل نجح في أن صنع منه نموذجًا لرجولة مقبولة؟ أرجّح أنه قدم لنا ميلاد المأفون، نموذجًا مشوهًا لعدم قدرة المرء على أن يعيش في سياقه الخاص.


محمد النعاس قلم شاب يسترعي الانتباه ويقدم سردية لافتة عن الرجولة ومفاهيمها الحقيقية والزائفة. هذه الرواية مستفزة وصادمة ومليئة بالجمال والقبح، وتستحق فوزها بكل جدارة بجائزة البوكر العربية.


* أستاذ مساعد في الأدب العربي والمقارن. حاصلة على ماجستير في الترجمة وفي الأدب العربي، وحاصلة على الدكتوراه في الأدب العربي والمقارن من جامعة لندن- كلية الدراسات الشرق أوسطية والأفريقية SOAS، مهتمة بدراسات الأدب العالمي، الرواية والسرد السيرذاتي، وأدب المرأة إضافة إلى قضايا الترجمة الأدبية المختلفة.


 

هيئة التحرير

رئيس التحرير

د. إبراهيم الفريح

أعضاء هيئة التحرير

د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. علي المجنوني

تصميم ودعم تقني

أ. إبراهيم الثاني


للتواصل والمساهمة في النشرة

syaq@scl.sa


٢٢٦ مشاهدة

أحدث منشورات

نشرة "سياق": الرؤية والتطلعات 

نشرة «سياق» الإلكترونية هي نشرة دورية متخصصة، تصدرها شهريًا الجمعية السعودية للأدب المقارن، بالتعاون مع هيئة الأدب والنشر والترجمة بوزارة...

Comments


bottom of page