د. منال بنت سالم القثامي*
يُعدّ التراث الشعبي نتاجًا وطنيًا لأي أمة، ينبع من التراكمات الثقافية والفكرية المستمرة. ويشيد "طه حسين" في كتابه: "الحياة الأدبيّة في جزيرة العرب" بالقيمة العلميّة للأدب الشعبيّ؛ "فهذا الأدب الشعبيّ ـــــ وإن فسدت لغته كما يقول ــــ حيٌّ قوي له قيمته الممتازة من حيث إنه مرآة صالحة لحياة منتجيه". وتعد الحكاية الشعبية جزءًا من الموروث الثقافي للشعوب، ومن هنا تأتي أهميتها بوصفها عنصرًا مكونًا للموروث السعودي.
والحكايات الشعبية السعودية في مجملها تصوير لتفاعلات الإنسان مع ظروف الحياة التي عايشها، وجزء من تاريخ الإنسان السعودي. وقد حظيت اليوم باهتمام كبير من باحثي الفلكلور، لما تميزت به من ثراء مادّتها وارتباطها بالقيم الفنيّة والجماليّة التي يعكسها الوجدان الشّعبي والإبداع الجمعي. وقد نجحت كثير من الحكايات الشعبية في نقل تصورات واضحة عن البيئة السعودية ومعتقداتها وعاداتها وتجاربها وخبراتها؛ لذا قام على جمع مادتها والاحتفاء بها أدباء سعوديون مدفوعون بإحساسهم العميق بأهمّية تلك الثّروة الأدبيّة والفكرية.
وقد كانت هذه الآثار الشعبية في الأصل أدبًا شفهيًا، تحوّل بعد تدوينه إلى أدب مكتوب، على الصورة التي ظهر بها في مدونات كثيرة منها مدونة الروائي "عبده خال"، التي جمعت حكاياتها تحت عنوان (قالت حامدة: أساطير حجازيّة)، وهي صادرة عن دار الساقي، في بيروت، عام2013م. وقد تضمنت المدونة 107 حكايات، جاءت في 575 صفحة. ووردت كل حكاية مذيلة باسم راويها. وقد جمع عبده خال مدونته من الحكايات الشعبية لمنطقة الحجاز، في مدة تربو على 25 سنة.
ويظهر في العنوان -الذي يعد عتبة النص الأولى- المكان ببعده الجغرافي / الإقليمي؛ لغاية استحضار مناخ الحكاية وبيئتها، مما يتيح للمتلقي تصورًا واضحًا عن بيئة الحكاية. فحكاية كل منطقة تحمل في الواقع شيئًا من روح إقليمها، ومعتقداته، وثقافته، ولهجته، حتى وإن أفقدها التدوين شيئًا من ذلك أو سلبها إيّاه، فبحسب عبده خال "تحويل النص الشفهيّ إلى نص مكتوب يفقده طراوته، وتقوم القواعد الكتابيّة بتكبيل مفرداته خاصة إذا علمنا أن لكل مفردة (شعبيّة أو عامّية) دلالات محلية لا تستطيع المفردة الفصيحة الإتيان بها إلى ذهن المستمع المنتمي إلى البيئة المنتجة للنّص". فالتدوين الكتابيّ يفقد الحكاية نسبة كبيرة من حس الراوي، ويهدم السياقات التعبيريّة التلقائية مهما حرص المدوّن على بثّ روح البيئة؛ بتوظيف اللغة البصريّة في نقل المتون والأشعار، وتشكيل عناوين مناسبة للحكايات وتكييفها.
وتحديد العنوان لإقليم الحكاية لا يعني تفرد المنطقة بها، فانتقال هذه الحكايات أمرٌ واردٌ باختلاف الصيغ أو العناوين؛ شأنها شأن الأمثال وغيرها من أشكال التعبير في الإرث الشعبيّ الشفهيّ عمومًا. وتتفاوت تعليلات هذا الانتقال والارتحال بين نصوص الحكايات الشعبية؛ إذ هناك من يراه من الرصيد المشترك لتراث الإنسانية، وأنّها انتقلت عن طريق الترجمة والمثاقفة، وهناك من يعزو التطابق والتشابه بين هذا النوع من النصوص إلى ما يرجعه علماء الميثولوجيا -الرافضون لفكرة الأصل الواحد المشترك- إلى أسس سيكولوجية مشتركة لدى الجنس البشري، فكما ينمو نبات متماثل في أنحاء العالم جميعه في الأحوال الجغرافية والجوية المتشابهة، كذلك تظهر في الظروف الروحية المتماثلة صور متماثلة للنشاط الروحي.
و"عبده خال" في تجنيسه للكتاب يعتمد تلك المرجعيّات التي اعتمدها في تدوينه الحكايات الشعبيّة، ففيها استلهام واستحضار لأساطير قديمة. وقد ذكر في الاستهلال أنّ "هناك عشرات الحكايات كُيفت وأُعيد سردها بينما أصولها تكون أسطوريّة وردت في الميثولوجيا أو في كتب التاريخ". وهكذا فإن القص الشعبي قد استعار العباءة الأسطورية إلى جانب اختراق السائد بواسطة الجنّ والسحرة أو ببقايا الأساطير القديمة". وكشف خال عن منهجه في جمع الحكايات بقوله: "كانت الرغبة الأولى تتمثّل في جمع هذه الحكايات كتوثيق لها فحسب، ثم طرأت فكرة المقارنة بين الحكايات (الأساطير) الموجودة في المنطقة ببقيّة حكايات (أساطير) العالم التي كلما سمعت منها ما يتقارب أو يتطابق مع قصصنا تأجّجت تلك الرغبة". لهذه الغاية عقد المقارنات في حاشية كل صفحة يقول في ذلك: "إن كانت هناك من إشارة أخرى فهي متعلقة بالهامش، إذ تجد أنه متخم – إلى درجة الإزعاج- بإضافات حكائية عديدة، فقد كنت أستهدف –منذ البداية- خلق مقارنة بين النص المحلي وبين بقية الأساطير العالمية، لكنّ هذا أمر بعيد المحال إذ يحتاج إلى فريق متكامل (...) كما أنّي لم أكتب بحثًا وإنما كنت أستهدف الجمع ليقوم القارئ بالمقارنة "وعلى الرّغم من أنّ "عبده خال"، أطلق تسمية " أساطير" على ما جمع من حكايات فإنهّا تظلّ حكايات شعبيّة، وليست أساطير؛ فحكايات "خال" هي في الواقع مزيج من الحكاية الخرافيّة والحكاية الشعبيّة. أما الأساطير فتخصّ قصص الآلهة وأنصاف الآلهة، وهي شكل من أشكال التفكير الروحانيّ للإنسان ومحاولة لتفسير الظواهر الطبيعية والتوصّل إلى تفسير الكون. وتحاول الأساطير -أيضًا- الإجابة عن أسئلة كبرى متعلقة بالكون ومصير الإنسان. وبعض الأساطير لها أساس واقعيّ لكنها خضعت لتراكم تاريخيّ جعلها بعيدة عن الواقع كأسطورة "أوديب" الذي له وجود حقيقيّ، ثم خضعت حوادث حياته لتراكمات المتخيّل بما أبعدها عن الواقع والتاريخ الحقيقيين. وربما فضّل عبده خال استعمال كلمة (أساطير) بمعناها اللغويّ العام الوارد في القرآن الكريم، وهو ما أُثِر من أخبار الماضين وقصص الأولين المسطّرة، أي المكتوبة لتكون دالّة على مضمون الكتاب بما فيه مختلف الحكايات.
أما فيما يخص اسم (حامدة) الذي حمله العنوان؛ فهو اسم الشخصية الراوية لمعظم الحكايات الشعبية المدوّنة في الكتاب؛ فحامدة حمدان الحربي كما ثبّت الكاتب اسمها تحت حكايات الكتاب، تمثّل الجدّة الراوية للحكايات والأساطير بحكم سنّها وتجاربها في الحياة. والنصّ هو حكايات شعبيّة جمعت ورويت وقالتها حامدة متمثّلة فيها الذاكرة الجمعيّة لمرويات المنطقة الحجازية من السعودية، إضافة إلى أنها الراوية الأبرز من بين الرواة لحكايات الكتاب من حيث عدد الحكايات التي روتها، حيث بلغ عدد مروياتها 31 حكاية. من أصل 107. وقد كشف الإهداء في الكتاب إلى العلاقة الشخصية بين عبده خال وبين (حامدة الراوية)؛ إذ قال "إلى حامدة حمدان التي منحتني أغلى كائن في حياتي: حبيبتي حنان". فحامدة أم زوجته حنان التي هي بمنزلة هدية ثمينة قيّمة وهبتها إياه لاحقًا. وحامدة حمدان تستحق الشكر لسبب آخر نلمح دلالته في الإهداء، فـ(حامدة الراوية) هي التي قدّمت للكاتب وللموروث الحجازيّ تلك الحكايات، فكانت -رمزيًا- سببًا في ولادة حنان وفي ولادة كثير من الحكايات الشعبيّة المدونة في الكتاب، فبحفظها وروايتها لتلك الحكايات بعثتها وأحيتها من جديد، كما حفزت الكاتب على فعل التدوين. وعبده خال يؤمن -أساسًا- بأن "الحكاية جنس أنثوي ولد من لسان امرأة، تلده كما تلد أبناءها". وقد يأتي ارتباط رواية الحكايات بالأنثى للحكايات من منطلقات ثقافية قارة في الموروث، بوصف المرأة الراوية وريثة شرعية لـ(شهرزاد الراوية)، في الثقافة القديمة، وقد يكون مرد ذلك إلى تصورات الثقافة الشعبية حول مفهوم الذكورة والأنوثة، يقول عبده خال: "فقد جرت العادة أن يكون راوي الخرفينات" (الخرافات) أنثى إذ من النادر أن يرويها الرجال. وقد يكون مرجع ذلك أن الرجل لا يحب أن يكون في موضع المخبر بما ليس حقيقيًا، إذ إن الحكايات المروية لا تستقيم مع جدّ الرجل ورجاحة عقله كما يُنظر إليه في ذلك المحيط". فضمن هذا السياق يبدو أنّ معظم الحكايات الشعبية عامة، والسعودية الحجازية خاصة تدعم مفهوم التسلط الذكوري الأبوي ابتداء من عتباتها، وهذا ما نجده في الموروث العربي القديم. فقد عبر الجاحظ في كتابه "الحيوان" عند تقديمه معلومات غرائبية من الموروثات الشعبية بنسبتها إلى ما سمّاه بـ "النّساء وأشباه النّساء"، وهو يقصد بالوصف الأخير من يعمل عمل النساء من الرجال القصاص؛ حيث إنّ القصّ من وظائف النساء. ويقول الجاحظ: "وأما قول النساء وأشباه النساء في الخفافيش، فإنهم يزعمون أن الخفاش إذا عضّ الصبي لم ينزع سنّه من لحمه حتى يسمع نهيق حمار وحشيّ. فما أنسى فزعي من سنّ الخفاش، ووحشتي من قربه إيمانًا بذلك القول إلى أن بلغت. وللنساء وأشباه النساء في هذا وشبهه خرافات". وهنا يظهر لنا تفسير ثالث لنسبة القص في الأدب الشعبي للنساء، إذ يبدو القصّ عملًا منتقصًا ينسب إلى المرأة، لأسباب دينية، فقد عُدّ القص من الكذب، وحرّمه الإمام الغزالي، ولقي القصاص من رجال الدين والمجتمع حملات مضادة، انتهت بوضع ضوابط وشروط ملزمة لمن يريد أن يحترف القصص ملزمة، يقول الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" في باب منكرات المساجد:" ومنها كلام القصاص والوعاظ الذين يمزجون كلامهم بالبدعة؛ فالقاص إن كان يكذب في أخباره فهو فاسق والإنكار عليه واجب". على أنه قد يتحول القصّ إلى الرواة الرجال حين يكون واقعيًا ومنطويًا على قيم البطولة والرجولة، وهو ما ظهر في منطقة الحجاز مثلًا، فيما يعرف بـ(المركاز)، إذ غدا مألوفًا أن يحكي الرجل في (المركاز) للرجال وحدهم، فلا يسمح للأطفال -حتى الذكور منهم- بالجلوس مع كبار السن لسماع حكايات (المركاز). وقد استمر هذا النوع، ورواته من الرجال، في رواية القصص والحكايات التي يغلب عليها الطابع الواقعي وتمجيد البطولة والشجاعة، مثلما هي الحال في "حكاية حمزة البهلوان" و"عنترة بن شداد" و"الزير سالم" وغيرها من الملاحم المشهورة مثل "عنترة بن شداد" و"الزير سالم" التي كان يحكيها الرجل في الوقت الذي كرست فيه ثقافة المنطقة هذا التمييز فقصرت الحكايات الشعبية (الأساطير/ الخرفينات) على رواية النساء.
وبقي أن نشير إلى أن لغة الحكايات التي دونها "عبده خال"، وإن لم تكن بالفصحى الخالصة، فإنها تظل قريبة منها، ويمكن وسمها على حد تعبير "عبد الله الغذامي" بـ" الفصحى المحكية " التي يقصد بها اللغة التداولية التواصلية المماثلة للغة كتاب "ألف ليلة وليلة"، أو لما كان يحلم به "توفيق الحكيم" مما اصطلح عليه بـ"التعادلية" وهي أن يكتب للمسرح بلغة عربية فصيحة تكون سهلة على ألسنة الممثلين، وسلسة على آذان الناس المتفرجين على المسرحية. وتسمى-أيضًا- اللغة الميسرة المتفاصحة كما يقول "محمود ذهني". وبذلك لا يمكن للنص أن يتخلص من طابعه الشفهيّ فيحتفظ ببعض سماته عندما يتحول إلى المكتوب.
هكذا ظهرت الحكاية الشعبية السعودية من خلال مدونة "عبده خال" نتاجًا لذاكرة جمعية غنية في موروثها الشعبي الذي اكتسبته في إطار عوامل متعددة.
* أستاذ الأدب والنقد المساعد بجامعة الجوف.
Comments