مراجعة لمقال
Conceiving the pre-modern black-Arab hero: on the gendered production of racial difference in Sīrat al-amīrah dhāt al-himmah.
د نهى العويضي*
تدقيق وتحرير: د. سماهر الضامن
تعد شخصية الأمير عبدالوهاب ابن الأميرة ذات الهمة فاطمة بنت مظلوم الكلابي مثالًا نموذجيًا للتعامل مع سيرة بطل أسود ظهر بشكل بارز في السيرة الشعبية العربية. فهو مثل العديد من نظرائه ممن ولدوا ببشرة سوداء -كعنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي- كان يتميز بالقوة الجسدية والشهامة والشجاعة والروح القتالية العالية وغيرها من القيم العربية الأصيلة التي تمنح سيرته مكانة بارزة كإحدى أهم السير الشعبية في التراث العربي.
إن تركيز النقاد على قضية نسب عبدالوهاب يسلط الضوء على سلسلة من الأسئلة المتعلقة بسيميائية العرق في الأدب العربي الإسلامي قبل القرن الثاني عشر الميلادي، بما فيها التكهنات غير العلمية والروايات الدينية والنظريات المتداولة في ذلك العصر، وذلك قبل انتشار التوليفات الجينية للعلوم العرقية والإنجابية بفضل عالم الوراثة غريغور يوهان مندل في بداية القرن التاسع عشر الميلادي على مشارف عصر الحداثة.
وسنستعرض معًا رأي الباحثة والناقدة الأمريكية ريتشيل شين التي خصصت دراستها المعنونة بـ Conceiving the pre-modern black-Arab hero: on the gendered production of racial difference in Sīrat al-amīrah dhāt al-himmah
للتعمق في تحليل الأدبيات المنشورة عن التفسيرات حول ولادة عبدالوهاب ببشرة سوداء، سواء أكانت هذه التفسيرات متوافقة مع معرفة وفكر إنسان العصر الحديث أم لا، فهي تظل روايات شعبية من سيمتها الخيال وعدم مراعاة المنطق. وقد اعتمدت شين في دراستها على نسخة سيرة ذات الهمة المنشورة عام 1909م في المطبعة الحسينية في القاهرة. وتذكر أنها اختارت هذه النسخة لأنها إحدى أوائل النسخ المطبوعة المتوفرة من جهة، ولتوفر نقد الباحثين كانارد Canard وكروك Kruk لهذه النسخة تحديدًا من جهة أخرى. لكن قبل استعراض رأي شين فلنتعرف على عبد الوهاب ووالدته الأميرة ذات الهمة.
تعد سيرة الأميرة فاطمة بنت مظلوم الكلابي المعروفة بذات الهمة من أطول السير الشعبية العربية، وتمثل البطولة النسوية التي ورغم كون بطلتها امرأة، فإنها تمثل نموذج البطولة التي يطمح إليها الرجال. قدمها الراوي الشعبي ساردًا أعلى مراتب الشجاعة، وتحدث عن المعارك التي خاضتها الأميرة ببسالة وسط الرجال، لتصل بانتصاراتها إلى أسر الإمبراطور الروماني في أوج الحروب بين العرب والروم، ولتفتح القسطنطينية، داخلة إياها على رأس الجيوش العربية. وتبرز سيرة ذات الهمة بوصفها سيرة ملحمية تاريخية، تمتد لأربعة قرون من الدولة الأموية حتى العباسية، وتروي أحداث الحروب الإسلامية البيزنطية.
وهي سيرة إنسانية بجدارة لا تخلو من الأحداث المأساوية المحيطة بميلاد البطلة التي خبأها أبوها وحزن لخسارته مقاليد الحكم بولادتها. فعانت فاطمة إقصاء عائلتها؛ فلا أم ترعاها ولا أب يراها، لكن تدور الأحداث وتصبح الفارسة الهمامة قائدة للقوات التي تهاجم أهل أبيها وتأسر ذويها حتى تكشف لها جاريتها والدها من بين الأسرى، فتعيد والدها إلى قبيلته؛ لكرم أخلاقها وقلبها الطاهر رغم كل الحرمان والأذى الذي تعرضت له من أهلها.
ولكن يحدث ما لم يكن في الحسبان، حيث تجبر القبيلة ذات الهمة على الزواج من ابن عمها الحارث، وتنجب طفلًا أسود يرفض الاعتراف به، فيعيد التاريخ نفسه ويتعرض الابن للإقصاء والإذلال نفسه الذي عانت منه والدته في طفولتها كونها أنثى. وهنا تدخل ذات الهمة مرحلة محورية من حياتها، في صراع قانوني عنيف مع زوجها لإثبات نسب ولدها من جهة، وتربيتها لابنها في السر لمدة أربع سنوات، ثم إعلان وجوده وتنشئته نشأة الأبطال من جهة أخرى. وقبل محاكمتها من القضاة وزوجها، عانت فاطمة شكوك خادماتها عندما وضعت طفلها أسود اللون، حيث سألتها خادمتها المقربة إن كان هذا الطفل نتاج زنا ونصحتها بقتله فورًا وكتم الفضيحة، لكن ذات الهمة أجابتها برد صارم اللهجة: "استغفري ربك، إن هذا الطفل صناعة المالك القدير الذي يحيي العظام وهي رميم ويجعل من يشاء أسود ومن يشاء أبيض". غير أن فاطمة فطنت بفطرة الأم الحامية لرضيعها أن عليها أن تلين بالقول مع الخادمات لتستميل قلوبهن، فاستحضرت قدراتها الشعرية مسترجعة ليلة زواجها الأولى مع الحارث حين خدرها بعقار، ثم وقع بها؛ إذ كانت مجبرة على الزواج غير راغبة به:
أوقعني بالبنج حتى تغيرت خواطر عقلي مع رشيد مذاهبي
وكان الذي قد خط في اللوح كائن وإن قضاء الله غير مغالب
ليأت لنا هذا الذي قد رزقته يحاكي الدجا في لونه والغياهب
لقد عظمت هذى لرزية إذ غدت تفوق على آفاقها بالصائب
استخدمت الأم فاطمة اللغة بغاية الذكاء فهي تصف نفسها بالرشد وتذكر الخادمات بأنها وإن كانت قد خدرت في السابق، فهي الآن في كامل قواها العقلية، مؤمنة بقضاء الله وحكمه، ثم وصفت طفلها بالرزق وهو النعمة من الله التي يجب الحفاظ عليها، وربطت ملامحه بعناصر البيئة فوصفته بلون الليل الخالي من النجوم "الدجى " وفي "الغياهب" حيث كان العرب يصفون الخيل الشديدة السواد بالغيهب، وكانت نتيجة هذا المجهود اللغوي أن ساعدتها الخادمة على إخفاء الطفل لمدة أربع سنوات. ثم يظهر عبدالوهاب بعد ما اشتد عوده ويراه والده لأول مرة وتبدأ محاكمة فاطمة وقضية إثبات نسب ابنها.
تستخلص ريتشيل شين في ورقتها المذكورة أن هناك مجموعة من التفسيرات الشائعة لشرح الولادة السوداء غير الوراثية في العصور العربية ما قبل الحديثة، وترى أنه يمكن حصر هذه التفسيرات في عدة نظريات: أولها نظرية التأثيرات المناخية، وهي إحدى النظريات البيئية التي سادت لتفسير السواد في العصور الوسطى ومفادها أن اختلاف الأعراق والتلون بالسواد يعود إلى عوامل الحرارة والرطوبة، ولذلك تزعم هذه النظرية أن سكان الصحارى الإفريقية يتسمون بالسواد والشعر المجعد نتيجة للحرارة والجفاف. وهناك أيضا نظرية بصمة الصورة (الوحام). ثم تضيف الباحثة أن هناك أيضًا التفسيرات الدينية التي تعزو اختلاف الأعراق والألوان إلى لعنة نوح عليه السلام على ابنه حام، عندما غضب منه ودعا عليه بالسواد هو وذريته. وبرز التفسير الديني في سيرة الأميرة ذات الهمة بتشبيه ولادة فاطمة لعبد الوهاب بولادة مريم لعيسى.
لكن تبرز في هذه السيرة بشكل خاص نظرية علم الأنساب التي تفترض تحديدًا عرقيًا يحدث بفعل نظرية التأرجح التي طورها أرسطو، أي من خلال ظهور بعض الصفات الوراثية الخاملة للأجداد، كما تبرز بشكل واضح نظرية تلوث النطفة بدم الحيض. وتشكل هذه التفسيرات مساحة لظهور مجموعة متنوعة من التدخلات غير المألوفة من جسد الأم في سيرة الأميرة ذات الهمة وولادة طفلها عبد الوهاب.
كما أن هناك بعدًا آخر تذكره شين لتفسير ظهور البطل الأسود في السير الشعبية، وهو أن وجود هذه الشخصيات يرد كنوع من التحفيز لخيال الرواة والتودد للجمهور؛ نظرًا لأن جمهور السير الشعبية أكثرهم من "العبيد" السود، وهذه الفرضية أسسها مالكوم ليون. لكن حتى وإن سلمنا بهذه الفرضية فعلينا الاعتراف بأن توظيف تلك الشخصيات السوداء في السير الشعبية لم يكن عشوائيًا بل جاء في مكانه السليم وبتخطيط إستراتيجي كمجال لظهور التفاعلات الجندرية والطبقية في السيرة الشعبية. يمكن تفسير إقحام شخصية عبد الوهاب في الأدب الشعبي بوصفه رمزية لما يسميه عالم الاجتماع أورلاندو بيترسون "الاغتراب عند الولادة"، إذ يولد هؤلاء المرفوضون للونهم ويحرمون من النسب والحقوق الشرعية والمالية والمكانة الاجتماعية. وهذا من شأنه إضافة عنصر إنساني وجداني لإثارة العواطف في الروايات الشعبية خاصة حين يكون من يتعرض لهذه الظروف رمزًا من رموز البطولة والشجاعة الاستثنائية، مما يضاعف التعاطف مع هذه الشخصيات.
وتذهب شين إلى أن تركيز هذه النظريات في نص واحد يجعل رواية حمل عبد الوهاب وولادته أرضية ملائمة بشكل فريد لمناقشة التعقيد الأوسع لقضايا النوع والعرق في التراث العربي ما قبل الحديث.
يعي قارئ العصر الحديث وما بعد الحداثة، بطبيعة الحال، أن كل الفرضيات والنظريات الواردة في النقاش أعلاه ما هي إلا أساطير وخرافات وربما خيالات؛ فإنسان العصر الحديث يؤمن بقوانين مندل للوراثة التي تنص على أن الصفات الوراثية تنتقل بين الآباء والأبناء وتسود صفة أحد الزوجين على النسل الجديد، وتظهر الصفات المتنحية مرة أخرى في الأجيال المتقدمة من النسل. وعليه وحسب التفسير العلمي لعلم الوراثة لابد أن أحد أجداد أو جدات الأميرة فاطمة أو الحارث كان من أصول إفريقية حامية، وظل هذا الجين الأسود متنحيًا ساكنًا في جيناتهما حتى آن له الالتقاء بجين آخر متنحي وأصبح سائدًا وظهر في الجنين وكبر الأمير عبد الوهاب. على أن الوصول إلى نتيجة براءة فاطمة بنت مظلوم وشرف ابنها عبدالوهاب لم يحدث إلا على حساب الفضح والكشف الذي تعرض له جسدها الأنثوي على الملأ، والكشف عن تفاصيل حملها والاعتداء الذي تعرض له على يد زوجها.
تخلص شين إلى نتيجة أن التحديات الوجودية التي واجهتها فاطمة بنت مظلوم وابنها عبد الوهاب تنبع من التهميش المرتبط بالجنس والعرق. وقد أبرزت نتائج محاكمة إثبات النسب هذه المعطيات بشكل واضح وحاد. إذ لم ينظر إلى سواد عبد الوهاب على أنه مجرد مكانة اجتماعية متدنية، بل أيضًا على أنه تشوه في الخلقة من خلال ارتباطه بالمحرمات كمواقعة المرأة وهي حائض، وهو ما يعد فعلًا محتقرًا قد يؤثر في التكوين البيولوجي لمن يولدون كنتاج لتلك الممارسة. و يُتعامل مع سواد عبد الوهاب، ضمن هذه التفصيلات، بحذر شديد، كونه عقوبة بيولوجية لهذا الخلل الذي حدث خلاله الحمل.
تجادل شين أخيرًا بأن التفسيرات والاستدلالات جميعها التي قدمت في سيرة الأميرة ذات الهمة لتبرير سواد عبد الوهاب تشترك في نقطة جوهرية وهي القلق المحيط بالضعف الجنسي والبيولوجي لجسد الأنثى. وهو ما مُثل بحذر من خلال بناء الجسد الأسود. حيث يتحول الجسد الأسود (الذكر) إلى أداة يتم من خلالها توكيد هشاشة جسد الأنثى (وإن كانت فارسة وبطلة حرب). يظل عبدالوهاب –الرجل الأسود– مرتبطًا وجوديًا بامرأة من غير لونه، وهذا يشكل تحديًا وجوديًا آخر له إذ يخرجه من دائرة السواد والذاكرة الاجتماعية له. وهكذا فإن محنة فاطمة بنت مظلوم وابنها، كما تخلص الباحثة، إلى أن سواد عبدالوهاب يغدو أشد تعقيدًا لأنه يجرده من الثقل التاريخي والذاكرة الجمعية للسواد، فيغدو بذلك شخصية منعزلة جذريًا، ومختلفة حديًا عن أي شخصية مولودة بشكل أكثر طبيعية.
*نهى عبدالله العويضي، أستاذ مساعد في الجامعة السعودية الإلكترونية، رئيسة قسم اللغة الإنجليزية والترجمة، مترجمة- كاتبة رأي- ناقدة
Journal of Arabic Literature Vol. 48, No. 3 (2017), pp. 298-326
Comments