تتأصّل في المجتمعات الإنسانية الثقافة الشعبية التي تعبق في تفاصيلها بكل ما يحمله المجتمع من موروثات ومعتقدات وعادات يعبر عنها الإنسان شعوريًا أو لا شعوريًا، في منطوق شفهي في أوليّته وممارسة حياتية لا تنفصل عن يومياته وآماله وحتى تصل إلى قضاياه الكبرى. لذلك وغيره، يأتي عدد سياق هذه المرة مخصّصًا للاقتراب من "الأدب الشعبي"، الأدب الجمعي العريق الذي اتسع في تعالقاته حتى بلغ حكايات البيوت ونوادر الأسرار المخبّأة وراء الأبواب المغلقة، وترانيم الصغار تحت المطر وفوق الأسطح ساعة انبلاج نهار العيد. ولأنّ سياق عوّدتكم دائمًا على إضاءات متعدّدة الأبعاد، يأتي عددها هذا لينظر تجاه الأدب الشعبي في اتساعه وتعدّديته، وفي الوقت ذاته، فيما يتعلق بنقده والتنظير في علم الفلكلور. كما تحاول سياق أن تُلقي نَرْدها على طاولة المصطلح -الأدب الشعبي- وما نتج عنه من إشكاليات قرائية مختلفة. أضف إلى ذلك، تلك الحدود المفتوحة أمام تداخل الأدب الشعبي مع ما عُرف بـ "الذاكرة الشعبية" وتلوّنات وجودها الأجناسي الأدبي في مختلف ألوان الأدب الشعبي، وهو ما يتضمن كل ما تحمله الشعوب من جزئيات وكُليّات تحكي عن وجودها، وعن هُويّتها. إنّ الأدب الشعبي لم يعد اليوم بحاجة للوقوف في حالة من التضاد مع ما يُعرف بــ "الأدب الرسمي"، ولا يمكن القبول بحكم انحيازي ينتصر للأدب الرسمي على الأدب الشعبي. لقد غدا الأفق النقدي والثقافي رحبًا، يستوعب أهمية هذا الأدب ودوره الوجودي في البقاء على خط متوازٍ مع الأدب العالمي. ولا أظننا بحاجة إلى طرح قضية "تهديد اللغة" بسبب الأدب الشعبي ورواجه؛ فلقد طفح التراث العربي بالأدب الشعبي منذ نشأته الأولى. وذهب عدد ليس بالقليل من الدراسات إلى أنّ تراثنا العربي هو كنز يحمل جواهر شعبية تنتظر من يصقلها، ويجلّيها للقارئ المعاصر. فهو نسق من أنساق الثقافة، وتجاهله أو إهماله يفوّت على القارئ الشيء الكثير من معرفة "الأنا" و"النحن" و"الهو". وليس ببعيد عن الأدب الشعبي ما جاء في بطون التراث من أجناس أدبية متعددة صُنّفت على أنها "أدب شعبي"، وخضعت لتطور لُغوي ودلالي على مدى عصور طويلة، حتى وصلت إلى حيّز "الدارجة" بدلًا من "الفصحى". وربما نظر بعض المتعجّلين إلى الأدب الشعبي على أنه أدب العامة في مقابل أدب الخاصة، وهو عندنا ما يزيد من رفعة هذا الأدب وتخليصه من تهمة "العامية" أو لنقل "الشعبوية". فشعر الصعاليك، والموشحات -أغنية الشعب- والأزجال ثمّ القوما والكان كان والمواليّا والموّال وحتى "الطقطوقة" إلى الأغنية المعاصرة هو مسيرة تطورية طبيعية جدًا للأدب الشعبي، وليست "الشيلة" إلا صورة من صور هذا التطور. وفي حكايات الحكّائين والرواة والقصاصين ما حمل النوادر والطرائف و "النُّكَت"، واتسم بالعجائبية، وحمل للسامعين الخرافة وروح الأسطورة. كل هذا وغيره كان حصنًا أمينًا على العادات والتقاليد الخاصة بالأزياء والملبس والمأكل والمشرب وغيرها. بل حمل الأدب الشعبي لنا كيفية تماهي "جسد" الإنسان مع حكاياته وأحلامه وخيباته عبر الرقص الشعبي وموسيقاه وآلاتها المتنوعة. إنّ الأدب الشعبي عالم كبير عظيم، يحمل للإنسان سِجل وجوده، ويفسّر كثيرًا من رؤاه للعالم، ويفك لغز علاقته ببيئته ولغته ومعتقده. ولعلّ سياق تنجح في طموحها بإلقاء الضوء على شيء يسير من جوانبه، لتنبّه الباحثين والمهتمين إلى هذا الكنز الثمين، إنّه ذلك النداء البعيد العميق الذي يشدّنا إليه لننصت إلى وجودنا، ونميل برؤوسنا مستجيبين متعجبين ونقول بصوت ممتدّ "الله الله"! أو أن نسترجع حالتنا السماعية الغائبة أمام "حكّاء" نبيه يستفزّ فينا قفزة منتشية عندما يرفع صوته بانتصار البطل في نهاية الحكاية، البطل الذي ورثناه عن ذاكرتنا الشعبية الخالدة طوال ألف ليلة وليلة!
سياق
Comments